العلامة عبدالقدوس بن القاسم الأنصاري الخزرجي في شبابه.
العلامة عبدالقدوس بن القاسم الأنصاري الخزرجي في شبابه.




الأنصاري بعد تقدمه في السن.
الأنصاري بعد تقدمه في السن.




الأنصاري يراجع بروفة مجلة المنهل مع محمد حسين أصفهاني صاحب مطابع الأصفهاني بجدة.
الأنصاري يراجع بروفة مجلة المنهل مع محمد حسين أصفهاني صاحب مطابع الأصفهاني بجدة.




الأنصاري مع محمد سعيد عبدالمقصود خوجة.
الأنصاري مع محمد سعيد عبدالمقصود خوجة.




غلاف العدد الأول من مجلة المنهل الشهرية.
غلاف العدد الأول من مجلة المنهل الشهرية.
-A +A
بقلم: د. عبدالله المدني
لعب الحجاز دورا مشهودا في إنجاب كبار الأدباء والشعراء والمؤرخين والفنانين والمفكرين وأصحاب القلم ممن تفتخر بهم السعودية، وممن عبّدوا الطريق للأجيال التالية للانطلاق والإبداع وإثراء الحركة الفكرية والثقافية والفنية في عموم أرجاء البلاد.

فالنهضة الفنية والحركة الغنائية مثلا انطلقتا من الحجاز، منبع الإنشاد الديني ومقام الحجاز وإيقاع الدانة وفن المجس. وقد سرد الناقد الفني علي فقندش في مقاله «الموسيقا والغناء في الحجاز» بمجلة الفيصل (يوليو 2016) أسماء قدامى مطربي مكة والمدينة والطائف من أمثال الشريف محمد هاشم العبدلي، حسن جاوا، محمد أمان، صالح حلواني، عثمان كردوس، عبدالرحمن مؤذن (الأبلاتين)، سعيد أبو خشبة، عمر باعشن، محمود مؤمنة، عرفة صالح، علي شيخ، عبدالعزيز أبوسلامة، ومحمد علي سندي، وصولا إلى من أنجبتهم الحجاز لاحقا من مشاهير الغناء والطرب مثل طارق عبدالحكيم وطلال مداح ومحمد عبده وعبدالله محمد وفوزي محسون وغازي علي وعمر كدرس وعبادي الجوهر وسراج عمر وغيرهم. ولم ينس فقندش أن يشير إلى الغناء النسائي الذي كانت مدن الحجاز مصدره. فأتى على ذكر أسماء نساء شعبيات سبقن توحة وابتسام لطفي في الغناء مثل: صفية لبانة وكرامة صالح وصالحة حمدية وخديجة نوارة وفاطمة إبراهيم بشيت وحجية المكاوية وشوق الجداوية وعطيفة الطائفية وصفية شتيوي ولطيفة مغربي وغيرهن.


النهضة الأدبية في الحجاز

وبالمثل فإن النهضة الأدبية بدأت في الحجاز سنة 1925 بظهور ثلة من الأدباء الذين أخذوا على عواتقهم تحديث قوالب الأدب وتجريب أشكاله ومدارسه الحديثة، وإطلاق المؤلفات وتنظيم القصائد وكتابة المقالات؛ تعبيرا عما يجول في خواطرهم من مشاعر تجاه مجتمعهم، وكان بين هؤلاء أحمد إبراهيم الغزاوي وعلي بن محمد السنوسي ومحمد سرور الصبان ومحمد حسن عواد وحمزة شحاتة وعبدالوهاب آشي ومحمد عمر عرب ومحمد سعيد العامودي وعبدالقدوس الأنصاري وغيرهم. ولعل ما ساعدهم على ذلك وجود وعاء لنشر نتاجهم الشعري والأدبي متمثل في المطابع والصحف والأندية والجمعيات الأدبية.

فلجهة المطابع أتحفنا الأديب محمد عبدالرزاق القشعمي في مقال له بجريدة الجزيرة (28/‏6/‏2004) حول تاريخ بدايات الطباعة في السعودية التي انطلقت من مدن الحجاز. فطبقا له تأسست أول مطبعة في الحجاز في مكة عام 1883 باسم «المطبعة الأميرية» (تغير اسمها سنة 1924 في العهد السعودي إلى «مطبعة أم القرى»)، وفي عام 1909 شهدت مكة ظهور مطبعة الترقي الماجدية لصاحبها محمد ماجد كردي، وفي عام 1935 أسس محمد سرور الصبان في مكة «المطبعة العربية». أما جدة فقد تأسست فيها أول مطبعة عام 1909 باسم «مطبعة الإصلاح» (تغير اسمها لاحقا إلى المطبعة الشرقية). وفي المدينة المنورة ظهرت أولا «المطبعة العلمية» عام 1911 على يد الشيخ كامل خجا، وتلتها في عام 1927 «مطبعة طيبة الفيحاء» التي أسسها أحمد الفيض آبادي (اشتراها عثمان حافظ عام 1936 وطورها وغير اسمها إلى مطبعة المدينة المنورة ونقلها إلى جدة).

أما لجهة الصحافة فإن أول صحيفة في العهد السعودي صدر عددها الأول بمكة في 11 ديسمبر 1924 كجريدة أسبوعية رسمية تحت اسم «أم القرى» وتلتها أول جريدة وطنية سياسية تحت اسم «صوت الحجاز» من مكة أيضا في 4 أبريل 1932، قبل أن تدمج مع شقيقتها صحيفة «بريد الحجاز» (أسسها الشيخ محمد صالح نصيف خلال العهد الهاشمي)، في صحيفة واحدة هي «البلاد السعودية».

وأول جمعية أدبية ظهرت في مكة تحت اسم «جمعية الأدب الحديثة»، وتلاها «نادي الحفل والمحاضرات» بالمدينة المنورة الذي أسسه عبدالقدوس الأنصاري بمشاركة 12 من أصدقائه سنة 1936، فنادي «جماعة المحاضرات» الذي أسسه عثمان حافظ في المدينة سنة 1937.

وهناك عامل محوري آخر جعل الحجاز، تحديدا، المنبع الذي أطلق معظم الرواد السعوديين في المجالات سالفة الذكر. وهذا العامل هو أسبقيتها لجهة تأسيس المدارس ونشر التعليم وإرسال البعثات الطلابية إلى الخارج. فأولى المدارس التي ظهرت فيه كانت المدرسة الصولتية بمكة (نسبة إلى المحسنة الهندية الثرية صولت النساء)، التي تأسست على يد العالم الهندي المشهور رحمة الله الكبرواني سنة 1857م، ثم تبعتها المدرسة الفخرية بمكة أيضا التي افتتحت عام 1881 على يد الشيخ عبدالحق قاري. ثم جاءت مدرسة الفلاح التي أسسها في جدة تاجر اللؤلؤ الحاج محمد علي زينل عام 1905 قبل أن يفتح لها فرعا بمكة عام 1911. وفي العهد السعودي أسس الملك عبدالعزيز أول مدرسة نظامية حكومية بمكة عام 1927 تحت اسم «المعهد الإسلامي» (تغير اسمها لاحقا إلى المعهد العلمي السعودي)، وفي عام 1936 تأسست في مكة «مدرسة تحضير البعثات» الثانوية الحكومية لاستيعاب خريجي المعهد العلمي وتهيئهم للابتعاث إلى الخارج.

أولويات أدبية من الحجاز

ولكل هذا لم يكن غريبا، أن أول كتاب شعري وأول كتاب نثري خرجا من الحجاز تحت عنواني «أدب الحجاز» (1925) و«المعرض» (1926) على التوالي من تأليف محمد سرور الصبان، وبالمثل أصدر محمد حسن عواد في عام 1926 أول مؤلف سعودي في النقد وهو كتاب «خواطر مصرحة»، وأصدر الشاعر حسين عبدالله سراج في عام 1932 أول نص مسرحي من خلال مسرحيته الشعرية «الظالم نفسه»، متأثرا بمسرح أحمد شوقي، ثم تبعه أحمد عبدالغفور العطار بمسرحية «الهجرة» سنة 1946. أما أول عمل روائي سعودي فقد صدر في عام 1930 بعنوان «التوأمان» من تأليف ابن المدينة المنورة المرحوم عبدالقدوس الأنصاري الذي سيكون محور حديث هذه المادة.

حافظ القرآن

ولد عبدالقدوس بن القاسم بن محمد بن محمد الأنصاري الخزرجي، الأستاذ الأديب والصحفي المخضرم والعالم المحقق، واللغوي المعجمي، والمؤرخ الموسوعي في المدينة المنورة عام 1906. توفي والده وهو في سن السادسة من عمره، فتكفل برعايته عمه الشيخ العالم محمد الطيب الأنصاري. وتلقى تعليمه في المسجد النبوي بالمدينة على يد الأخير وغيره من علماء عصره، فحفظ القرآن الكريم والمتون في علم التفسير والحديث والفقه واللغة العربية. في عام 1922 التحق بمدرسة العلوم الشرعية (مدرسة أسسها أحمد الفيض آبادي في المدينة لتيسير تعليم الدين واللغة العربية)، وكانت إدارة هذه المدرسة -وقتذاك- قد انتقلت إلى عمه الشيخ محمد الطيب الأنصاري. وخلال سنوات دراسته هذه قرأ العديد من الكتب والصحف القادمة من مصر، كما كان لمزاملته صديقه «عبيد مدني» أثر بارز في حياته وفي دعم اتجاهه الفكري والأدبي فسعيا سوياً إلى تنمية ثقافتهما ونشر أساليب الأدب الحديث بين الناشئة في المدينة المنورة.

تدريس الأدب العربي

في عام 1927 تخرج عبدالقدوس بنجاح، حاصلا على الدبلوم بعد أدائه الاختبار العمومي لطلاب المدرسة، وكان الذي أجرى الاختبار الشيخ إسماعيل حفظي رئيس ديوان إمارة المدينة المنورة آنذاك، فأعجب بأداء عبدالقدوس وأشار على وكيل الإمارة بمنحه وظيفة في الديوان. وهكذا بدأ عبدالقدوس حياته المهنية موظفا صغيرا في ديوان إمارة المدينة بدءا من عام 1927، لكنه حصل على ترقيات وظيفية خلال السنوات التي قضاها في وظيفته، التي تخللها قيامه بتدريس الأدب العربي لمدة 12 عاما لطلاب المدرسة التي تخرج منها نزولا عند رغبة صاحبها ومؤسسها الفيض آبادي.

العمل في ديوان الفيصل

النقلة المهنية الثانية في حياته كانت في عام 1940 حينما أبرق الملك عبدالعزيز إلى إمارة المدينة المنورة، طالبا نقل عبدالقدوس إلى مكة ليتولى فيها رئاسة تحرير صحيفة «أم القرى» الرسمية، غير أن بقاءه في هذه الوظيفة لم يتعد السنتين؛ حيث أصدر الأمير فيصل بن عبدالعزيز (نائب الملك في الحجاز آنذاك) قرارا بنقله للعمل في ديوان سموه بجدة. وخلال عمله في ديوان الفيصل لنحو ربع قرن، تنقل في وظائف عديدة كان آخرها مدير عام الشؤون المالية، وهي الوظيفة التي انتهت بخروجه منها ليتفرغ لأعماله الأدبية والثقافية والتراثية.

تنقل دائم في الحجاز

وعلى الرغم من كل أعبائه الوظيفية التي فرضت عليه التنقل الدائم بين المدينة ومكة وجدة إلا أنه كان نموذجا للعطاء الأدبي والفكري المتواصل. إذ يعود تاريخ نشر مقاله الأول إلى عام 1927، وكان بعنوان «بماذا ينهض العرب؟»، ومما جاء فيه أن «النهضة العربية ترتبط بالوحدة والوحدة تتطلب زعيما عربيا قويا يتقدم سير القافلة». وعند نشر المقال في مجلة «الشرق الأدنى» المصرية، أحدث ضجة ما شجعه على نشر مقالات أخرى متتابعة في بعض صحف تلك الحقبة مثل: «المرشد العربي» السورية، «السياسة الأسبوعية» و«المقتطف» المصريتين، ومجلة العالم الإسلامي بسومطرة.

ولع بالرحلات وكتابة القصة والشعر

على أن عبدالقدوس لم ينشغل بكتابة المقال فقط، فاهتماماته كانت كثيرة ومواهبه متعددة. ونجد تجليات ذلك في ولعه بالرحلات والآثار والتأريخ، وكتابة القصة والشعر والتراجم والسير، والمساهمة في المؤتمرات الأدبية، والمشاركة في دعم الصحافة المحلية، وتأليف الكتب. فهو مثلا شارك في أول مؤتمر للأدباء السعوديين بمكة عام 1930، وانتخب عضوا في المجمع العلمي العراقي ببغداد، وساهم بالكتابة في معظم الصحف والمجلات السعودية قديمها وحديثها، إضافة إلى الصحف المصرية مثل الأهرام والرسالة والسياسة، ناهيك عما قلناه آنفا حول إصداره أول رواية سعودية (رواية أدبية علمية اجتماعية نشرتها له مطبعة الترقي في دمشق سنة 1930 بعنوان «التوأمان»)، وتأسيسه «نادي الحفل والمحاضرات».

من ضمن نتاجه الغزير عدا عمله الروائي اليتيم: «آثار المدينة المنورة» (1935)، «إصلاحات في الكتابة والأدب» (1935)، «موسوعة تاريخ جدة» (1963)، ديوان «الأنصاريات» (1964) وهو مقسم إلى 10 أقسام هي العقيقيات، التأمليات، السياسيات، الوصفيات، الإسلاميات، الرثائيات، الوطنيات، الغزليات، الإخوانيات، والفكاهيات؛ ما يعني أنه نظم قصائد في مختلف حقول الشعر تميزت بعذوبة اللفظ ورقة العبارة واتساع الخيال، «بناة العلم في الحجاز الحديث»، «بين التاريخ والآثار» (1969)، «بنوسليم» (1971)، «الملك عبدالعزيز في مرآة الشعر» (1976)، «تاريخ المفصل للكعبة المشرفة قبل الإسلام» (1990)، «طريق الهجرة النبوية» (1978)، «مع ابن جبير ورحلته» (1978)، «تاريخ أبحر»، «النخيل والتمور في بلاد العرب» (2003)، «تاريخ العين العزيزية ومصادر المياه في المملكة العربية السعودية» (1969)، «أربعة أيام مع شاعر العرب عبدالمحسن الكاظمي» (1969)، «الطائف تاريخا وحضارة» (1978)، «تحيق أمكنة في الحجاز وتهامة» (1959)، «رحلة في كتاب من التراث» (1978)، «رحلتنا الثانية إلى الباحة» (1979)، وغيرها من المؤلفات الشبيهة.

المنهل مدرسة الرواد

ويمكن القول -عطفا على ما سبق- أن عبدالقدوس الأنصاري هو الصنو الحجازي للعلامة النجدي الشيخ حمد الجاسر، فكلاهما يتشابهان لجهة جهودهما في البحث والتنقيب والتدقيق والتحقيق لكل ما له صلة بالآثار والتاريخ وسير الرواد والرحلات. وإذا كانت درة أعمال الجاسر تأسيسه مجلة اليمامة في الرياض، فإن اسم الأنصاري مرتبط ارتباطا وثيقا بعمل مشابه هو قيامه في عام 1937 بإطلاق مجلة «المنهل» من المدينة المنورة (انتقلت لاحقا إلى مكة لوجود المطابع والإخراج الجيد ثم إلى جدة). وتعد «المنهل» أول وأقدم مجلة أدبية ثقافية في التاريخ السعودي الحديث، وقلعة من قلاع اللغة العربية والتراث الفكري كونها دافعت عنهما، من خلال البحوث والدراسات العلمية والاجتماعية والأدبية الملتزمة بالموضوعية التي شارك في كتابتها عدد من الكتاب المرموقين والمعروفين على المستويين المحلي والعربي. وفي صدر العدد الأول من المجلة كتب صاحبها ورئيس تحريرها الأنصاري مقالا بعنوان «المنهل مدرسة الرواد» قال فيه «إن من علامات حظوة المنهل بما تصبو إليه من نجاح مطّرد في سبيل أداء رسالتها الأدبية العالية ما نراه ماثلا في الأذهان من ضرورة السمو بهذا الأدب الحجازي وإبرازه في حلة قشيبة تليق بمكانة الحجاز الدينية ومنزلته الاجتماعية في العروبة والإسلام. والحق يقال إن هذا الأدب الحجازي الحديث وإن كان وليد أعوام معدودة فإنه قد خطا إلى الأمام خطوات مباركة تدل على ما بعدها، فها هو قد اطلع في سمائه في ظرف وجيز نجوما أصبحت لها شهرة أدبية لا بأس بها في الداخل والخارج؛ بسبب ما أذاعته الوقت بعد الوقت من قصائد رائعة وبسبب ما نشرته في فترات من نثر قيم وهذه النجوم الطالعة في سماء أدب الحجاز إذا ساعفتها المقادير ووجدت آفاقا واسعة للجولان والنشر والدعاية الكافية فإنها لاريب ستتطور في سنوات معدودة إلى أقمار زاهرة فشموس بازغة».

اهتمام الملك المؤسس بالمنهل

كتب الدكتور أمين الساعاتي في جريدة الاقتصادية (16/‏10/‏2016) حول إرهاصات ظهور المجلة، فقال إن الأنصاري تقدم إلى نائب الملك في الحجاز بطلب الموافقة على إصدار مجلة شهرية من المدينة المنورة تعنى بالآداب والآثار والتاريخ، فجاءت الموافقة الملكية مشروطة بأن تتجنب المجلة الخوض في السياسة أو التعرض للدول وأحداثها، وأن يقتصر النشر فيها على الأمور الأدبية وما يخدم مصالح الداخل وأمور الدين. ثم أخبرنا بأن الموافقة السامية على إصدار المنهل لم تكن في صورة ترخيص وإنما في شكل صك شرعي، وأن الملك عبدالعزيز، كما جاء على لسان الأنصاري «كان دائم السؤال عن أحوال (المنهل) حينما كنت أتشرف بالسلام عليه في قصره العامر في جدة، وكان دائم التوجيه والترشيد؛ ما دعم مسيرة المجلة وقوى عزائمها على مر الشهور والسنين» (من أهم علامات اهتمام الملك المؤسس بالمجلة أنه أعفاها من رسوم البريد الداخلي والخارجي، وأعفى صاحبها من رسم التأمين النظامي البالغ مقداره 50 جنيها ذهبا).

وهكذا صدر العدد الأول من المجلة سنة 1937 كما قلنا، حاملا ترويسة تعريفية تقول «مجلة تخدم الأدب والثقافة والعلم»، وظلت تصدر تباعا دون توقف (عدا سنوات الحرب العالمية الثانية حينما توقف استيراد الورق)، على بالرغم مما واجه صاحبها من متاعب مادية. فالمجلة بحسب مقولة للأنصاري «من نوع المجلات الهادفة، ولم تنشأ للكسب المادي ولا للشهرة الأدبية إنما كان إنشاؤها لإحياء الثقافة العربية الإسلامية».

معارك لغوية بين الجاسر والأنصاري

ورغم ما قلناه عن التشابه بين الجاسر والأنصاري، بل ما كان بينهما أيضا من صداقة، أكدها الجاسر بنفسه حينما تحدث عن منزلة الأنصاري في نفسه، معترفا بفضله عليه لجهة إتاحة الفرصة أمامه للكتابة في المنهل وتشجيعه على خوض موضوعات كانت غائبة عنه، ومشيدا بجهوده الكبيرة في دفع الحركة الثقافية والأدبية في المملكة، وواصفا إياه برائد من الرواد لا ينكره إلا كل جاهل ومكابر، إلا أن الرجلين دخلا في معارك لغوية (خصوصا حول حركة جيم جدة ما بين ضمها وكسرها، ثم حول أيهما أصح «جازان» أم «جيزان»). وقد سلط الدكتور نبيل بن عبدالرحمن المحيش في مقال بالجزيرة الثقافية (31/‏5/‏2004) الضوء على أسباب خلاف الرجلين قائلا: «كان خلافا في الآراء بين متعاصرين شريكين في حرفة واحدة دون أن يصل إلى العداء أو المقاطعة، بل عاد على الحركة الثقافية بفائدة عظيمة بحسب الجاسر».

من الذين تناولوا الأنصاري وتطرقوا إلى جوانب مشرقة في شخصيته، الإعلامي والمؤرخ الراحل الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في محاضرة له بنادي المدينة الأدبي في مارس 2003. فبعد أن وصفه بالعلامة لتشعب اهتماماته وتنوع مواهبه وجلده وصبره على البحث، أخبرنا أن الرجل من أوائل من طالب بإنشاء جامعة سعودية، وتسمية الشوارع وترقيم المنازل في المدن السعودية، وتأسيس لجنة للبحوث العلمية، وافتتاح إذاعة، منذ عام 1955. كما تحدث الشبيلي عن ميزة تميزت بها مجلة المنهل ولعبت دورا مؤثرا في المجتمع السعودي، وهو إطلاقها استفتاءات شهرية حول قضايا فكرية وأدبية واقتصادية جدلية بمشاركة أبرز أعلام الثقافة والأدب السعوديين، ناهيك عن أنه يُعزى لها عقد ندوات مستنيرة نوقشت فيها قضايا لا تزال موضع جدل إلى اليوم مثل: الأخلاق والتعليم، خير الطرق لتعميم التعليم، التعليم العام والتعليم العالي، الابتعاث إلى الخارج من عدمه، المفاضلة بين الصناعة والزراعة، الوضع الأدبي بين الصعود والركود، أثر الأدب الحديث، وسائل النهوض بالصحافة، وغيرها.

الذين تمعنوا في ما تركه الأنصاري خلفه، بعد وفاته في جدة عام 1983، أجمعوا على أنه استخدم الأسلوب الأدبي في دراساته وبحوثه التاريخية والأثرية ليضيف نوعا من التسلية للقارئ، وقد ساعده في ذلك ثقافته الغزيرة وضلوعه في علوم اللغة، وذاكرته الحديدية.