سوق تجارية وسط العاصمة ستوكهولم مكتظة بالمتسوقين، في 25 مارس الماضي. (أ.ب)
سوق تجارية وسط العاصمة ستوكهولم مكتظة بالمتسوقين، في 25 مارس الماضي. (أ.ب)




مقهى يعج بالزوار في وسط العاصمة ستوكهولم.
مقهى يعج بالزوار في وسط العاصمة ستوكهولم.




محمد حوذان
محمد حوذان




أحمد الشيخ
أحمد الشيخ
أحمد الشيخ
أحمد الشيخ
أنمار مندورة
أنمار مندورة
علي العنزي
علي العنزي
 سعد القحطاني
سعد القحطاني
-A +A
تقرير: خالد عباس طاشكندي Khalid_Tashkndi@

خبيرة سويدية في علم الفايروسات: «إنهم يقودوننا نحو الهاوية»

2300 طبيب وأكاديمي اعترضوا على إستراتيجية السويد المتراخية

أعداد المصابين في السويد ارتفعت إلى 4 أضعاف خلال أقل من 10 أيام

في الوقت الذي أعلنت فيه منظمة الصحة العالمية في الـ11 من مارس الماضي، أن فايروس كورونا المستجد «جائحة عالمية»، اتجهت غالبية الدول على الفور نحو فرض إجراءات احترازية صارمة، من بينها عزل المصابين وفرض منع التجول الجزئي والكلي، وإيقاف شبه كامل لحركة النقل جواً وبراً وبحراً، وإغلاق للمنافذ الحدودية والمدارس والجامعات وأماكن العمل، في المقابل، أثارت دولة السويد دهشة العالم حين قررت ركوب موجة عكسية بعدم فرض أي قيود مشددة، تاركة الأمر لوعي مواطنيها في تطبيق التباعد الاجتماعي مع بعض الإجراءات الاحترازية المخففة، فظلت الحياة العامة في السويد تسير بشكل طبيعي كالمعتاد تقريباً، إذ لا تزال المدارس ورياض الأطفال والمطاعم والأماكن العامة والشركات التجارية والمطاعم ومراكز التسوق مفتوحة، وهو ما أثار جدلاً واسعاً على الصعيد العالمي والمحلي حول «التجربة السويدية» وأبعادها وتداعياتها. وما يثير التساؤلات حول جدوى «التجربة السويدية» هو أن فايروس كورونا لا يزال متصاعداً في حصد المزيد من الأرواح في دول تمتلك منظومات صحية تعد الأقوى في العالم، فهل هذه التجربة عبارة عن «مغامرة» ومقامرة قد تعرّض الشعب السويدي والعالم للمزيد من المخاطر التي قد تفضي إلى تفشي الفايروس بشكل أكبر وتضاؤل فرص تقويض الجائحة.

منذ بداية أزمة تفشي جائحة كورونا، اتخذت السلطات السويدية إجراءات رسمية عدة لمواجهة الفايروس، إذ أوصت وزارة الخارجية السويدية بعدم سفر المواطنين خارج البلاد حتى منتصف شهر يونيو القادم إلا في الحالات الطارئة، ومنعت السلطات التجمعات التي تزيد على 50 شخصاً، في حين نصحت السلطات الصحية كبار السن والفئات المعرضة للإصابة بعزل أنفسهم طوعياً، ومنعت الزيارة عن دور رعاية المسنين.

وأوضح الحساب الرسمي لدولة السويد على «تويتر» أن أولويات السويد في هذه الأزمة تتمثل في التخفيف من العواقب على المواطنين والشركات، وضمان الموارد للرعاية الصحية، والحد من انتشار العدوى، مؤكدة أنها تثق في المسؤولية الشخصية للأفراد بالمجتمع. وأضاف أن «الغالبية تعمل في العاصمة ستوكهولم ومدن السويد من المنزل بناء على توصيات الحكومة»، مبيناً أن الحكومة السويدية اتخذت هذه القرارات استناداً إلى رأي الخبراء العاملين في الجهات الرسمية المختصة كخبراء الأوبئة والتي تضع مصلحة المواطن قبل كل شيء.

إلا أن هذه القيود المخففة مقارنة بالإجراءات الصارمة التي اتبعتها الكثير من الدول الأخرى، أثارت جدلاً واسعاً وانتقادات حادة ضد السلطات الحكومية، حيث وقّع أخيراً نحو 2300 طبيب وأكاديمي، بينهم رئيس مؤسسة «نوبل» البروفيسور كارل هنريك هلدن، على عريضة تطالب الحكومة السويدية بإجراءات وقيود أكثر صرامة.

مناعة القطيع تنعش «نظرية مالتوس»

تشير مؤشرات أسباب توجه الحكومة السويدية في عدم فرض قيود مشددة في مواجهتها لفايروس كورونا المستجد أنها تسعى إلى إحداث «مناعة جماعية»، ففي مارس الماضي أفادت عالمة الأوبئة أنيكا ليندي وهي المسؤولة السابقة عن مكافحة الأوبئة في هيئة الصحة العامة السويدية من 2005 إلى 2013، بأن السويد تتبع سياسة ما يعرف بـ «مناعة القطيع» في مواجهتها لفايروس كورونا، موضحة أن الإستراتيجية التي تنتهجها الهيئة تعتمد على السماح لانتقال عدوى فايروس كورونا لأكبر عدد ممكن من السويديين دون أن تثقل كاهل الرعاية الصحية كثيراً.

وأضافت أن «اللقاح لن يكون جاهزاً في وقت قصير لذا فإن إستراتيجية السلطات السويدية، هي السماح للسويديين بالعدوى بفايروس كورونا»، وترى أنه إذا أصيب 60 % من السويديين بالعدوى في خريف هذا العام، فنسبة انتشار الفايروس ستكون أقل مستقبلاً مقارنة بالدول التي منعت إصابة سكانها.

وهذا التوضيح أثار مخاوف الكثير من المواطنين السويديين وانتقادات حادة من المتخصصين الذين باتوا يشعرون بالقلق حول تفشي المرض في البلاد، خاصة وأن الاستراتيجية تفترض إصابة نحو 60% من المواطنين بالعدوى لكي يصبحوا محصنين ضد الفايروس في المستقبل، بافتراض أنّ هذا الوباء يصيب الإنسان لمرة واحدة ومن ثم يصبح محصناً ضده، ولكن ماذا عن مصير الـ 40% الباقين وهم على الأرجح كبار السن والمصابون بأمراض مزمنة، هل ستتم التضحية بهم.

كما أن هذه المنهجية أثبتت فشلها في بريطانيا التي اتخذتها عند بدء الأزمة ثم تراجعت عنها بعد أن تزايدت الأعداد، كما أن تقارير حديثة أكدت تكرار عودة الإصابة بكورونا في عدد من الحالات، وهو ما يبطل هذه الإستراتيجية في حال ثبوت أن الإصابة بالفايروس لا تعطي حصانة ضد المرض.

وهو الأمر الذي دفع المسؤول الحالي عن مكافحة الأوبئة في هيئة الصحة العامة السويدية، عالم الأوبئة أندرس تيغنيل، إلى نفي أن هذه الإستراتيجية تهدف إلى السماح بعدوى عدد كبير من السويديين، مخففاً المسألة بقوله «على الأقل هذا لا يجب أن يحدث بسرعة، لقد بدأنا نفهم أن الفايروس لن يتوقف عن الانتشار حتى نصل إلى المناعة الجماعية، ولكن يجب أن يتم ذلك ببطء ويتم التحكم فيه حتى يتمكن نظام الرعاية الصحية من إدارته».

فيما رأى طبيب متخصص في الغدد الصماء في معهد كارولينسكا بالعاصمة ستوكهولم، أن السلطات السويدية سمحت «بشكل ساخر» بتفشي الفايروس في البلاد على أمل الوصول إلى ما يسمى باستراتيجية «مناعة القطيع»، وكذلك انتقدت البروفيسورة سيسيليا سودربيرج نوكلير، خبيرة علم الفايروسات في معهد كارولينسكا، المنهجية التي اتخذتها السلطات في مواجهة كورونا، قائلة: «نحن لا نفعل ما يكفي. نحن لا نعزل أنفسنا بما فيه الكفاية. لقد تركنا الفايروس ينتشر. إنهم يقودوننا نحو الهاوية».

هذه المعطيات، أثارت شكوك ومخاوف الكثيرين بأن السلطات ربما استغلت الجائحة لتطبيق نظرية التكاثر السكاني المثيرة للجدل: «النظرية المالتوسية»، التي أطلقها الباحث السكاني البريطاني توماس روبرت مالتوس في أواخر القرن الثامن عشر، وتنادي بضرورة معالجة الاختلال في التوازن بين عدد سكان الكرة الأرضية وإنتاج الغذاء اللازم، إذ افترض أن معدلات الزيادة السكانية كل ربع قرن يقابلها توفير كميات غذاء بنسبة أقل من ما يحتاجه البشر، وهذا يعني ضرورة الحد من عدد السكان بأي طريقة كانت، مما يفرض على الدول وضع خطط تقلل وتيرة التكاثر، ومن بينها الاستفادة من «قوانين الطبيعة» مثل تفشي الأمراض والمجاعات والأوبئة التي من شأنها القضاء على الفئات الضعيفة والفقيرة ما يؤدي إلى التوازن المنشود وفقاً لهذه النظرية التي تعد معيبة وغير أخلاقية وشنيعة، فبدلاً من أن يتجه مالتوس إلى التفكير في حلول لإنتاج كميات غذاء كافية لاحتياج السكان، اختار الطريق الأسهل بالتخلص من البشر، ورغم بشاعة هذه النظرية والانتقادات الحادة ضدها ظل الجدل قائماً حول وجود نزعة «مالتوسية» لدى بعض الحكومات قائماً حتى اللحظة.

أرقام وإحصاءات مبشرة ثم انتكاسة

حتى الخامس من أبريل الجاري كانت أرقام الإصابات والوفيات بفايروس كورونا التي سجلتها السويد معتدلة إجمالاً إذ بلغت أعداد الوفيات 105 حالات من إجمالي 3060 إصابة، بينما سجلت جارتها النرويج 19 حالة وفاة من 3770 إصابة، والجارة الأخرى الدانمارك سجلت فيها 55 وفاة من 2200 إصابة، علما أن عدد سكان السويد يعادل ما يقارب مجموع سكان البلدين، وهو ما كان يبين أن إحصاءات التجربة السويدية حتى ذلك التاريخ كانت متقاربة مع إحصاءات باقي الدول الاسكندنافية التي اتخذت إجراءات أكثر صرامة، فأعطت مؤشراً على نجاح التجربة السويدية مؤقتاً.

ولكن حصلت انتكاسة مفاجئة في الأيام القليلة الماضية، ستغير وجهات النظر الإيجابية تجاه التجربة السويدية، إذ تضاعفت أرقام الإصابات والوفيات بشكل متسارع وفي غضون أيام قليلة، لتصل الثلاثاء الماضي إلى أكثر من 11 ألفاً و 500 إصابة ونحو ألف و100 حالة وفاة.

مبتعثون سعوديون يتحدثون عن واقع «التجربة السويدية»

تواصلت «عكاظ» مع مجموعة الأطباء السعوديين المبتعثين في السويد الذين يخوضون هذه التجربة عملياً، إذ يقيم حالياً أكثر من 50 طبيباً سعودياً في السويد ويواجهون مع زملائهم السويديين هذه الجائحة داخل ممرات الطوارئ وغرف العمليات والعناية المركزة، إضافة إلى استطلاع آراء الأطباء الذين خاضوا تجربة العمل في المنظومة الصحية السويدية، لفهم حقيقة هذه التجربة بواقعية أكبر.

وفي هذا الصدد، قال الدكتور أحمد الشيخ، وهو طبيب نساء وولادة مبتعث من جامعة الجوف وحاصل على البورد السويدي من جامعة سالجرنيسكا في جوتنبرغ ويعمل حالياً في مستشفى جامعة كارولينسكا بالعاصمة ستوكهولم، إنه من الصعب الحكم على التجربة السويدية الحالية في مواجهة أزمة كورونا بالفشل، وذلك باعتبار أنهم ما زالوا يخوضون التجربة وفق إستراتيجية وضعتها الدولة وكانت مؤشراتها حتى الأسبوع الماضي مقبولة، إلا إن المؤشرات الحالية أصبحت «سلبية» فعلاً، مضيفاً أن الأرقام المعلنة حول أعداد المصابين هي على الأرجح «ليست دقيقة» ومن الواضح أنها أكبر من المعلن، وذلك بسبب تقنين إجراءات تحليل كورونا، إذ لا تجرى حالياً فحوصات مخبرية على الكثير من الحالات التي تظهر عليها الأعراض ويطلب منهم فقط اتباع إجراءات العزل الوقائي، إلا إذا كانت الحالة متفاقمة وتستدعي إدخالها المستشفى.

وأكد الدكتور الشيخ وجود نقص في مستلزمات الحماية الطبية مثل الكمامات والمعقمات والقفازات ليس فقط في الصيدليات بل أيضاً في المستشفيات التي يوجد بها نقص بشكل متفاوت في هذه المستلزمات الأساسية.

وأوضح أن الدوافع الاقتصادية هي أحد أبرز الأسباب وراء اتخاذ السويد لمنهجية أقل تشدداً مقارنة بالدول الأخرى خاصة في أوروبا، ولكنه شدد على وجود مبررات أخرى وعوامل تدعم هذا التوجه، من أبرزها ثقافة التباعد الاجتماعي، كما أشارت دراسات الإحصاء السكاني إلى أن نحو 50% من المنازل التي يمتلكها المواطنون يقيم فيها شخص أو شخصان كحد أقصى، وهو ما يدعم مبدأ التباعد مما سهل مسألة اتخاذ قرار الإستراتيجية التي اتبعتها السويد.

من جهته، يرى الدكتور محمد عبدالله حوذان، وهو طبيب أسنان مبتعث من جامعة أم القرى لدراسة الدكتوراه في جامعة مالمو، أن أسباب المنهجية التي اتبعتها السويد في مواجهة كورونا تكمن في عدم قدرتها على استيعاب أعداد كبيرة من المرضى لعدم وجود وحدات سريرية كافية في العناية المشددة ولنقص الكادر الطبي لديها.

وأضاف أن منع تجول المواطنين والمقيمين سوف يؤثر بشكل واضح على اقتصادها، لذلك هي أعلنت وبشكل صريح أن من يشعر بأعراض كورونا فإن عليه التزام منزله وعدم الخروج وذلك بهدف تقليل عدد المرضى في المستشفيات، موضحاً أنهم لا يريدون أن تتكدس وتتعطل المنظومة الصحية لديهم وفي نفس الوقت لا يريدون لاقتصادهم أن ينهار.

فيما وصف الدكتور علي الأمير، وهو أخصائي طب شيخوخة تخرج في جامعة كارولينسكا، النظام الصحي في السويد بأنه «نظام قوي» ومن بين الأقوى على مستوى العالم، وفي ذات الوقت للجانب الاقتصادي ثقله وأهميته عند التفكير في اتخاذ القرارات المتعلقة بإستراتيجيات الصحة، معتبراً أن التجربة الحالية تراهن على وعي المواطنين.

واستبعد الأمير وجود أي مؤامرات حول تقليص السكان بالتخلص من المسنين أو تركهم يواجهون مصير انتقال العدوى إليهم في ظل منهجية «مناعة القطيع»، مبيناً أن الحكومة اتخذت إجراءات مهمة في هذا الشأن من بينها، تنبيه كبار السن بالبقاء في المنزل واتخاذ إجراءات العزل الوقائي، وقامت كذلك بمنع الزيارات لدور رعاية المسنين، كما تقدم لهذه الفئات العمرية خدمات طبية منزلية، وتقوم بتوصيل الأدوية إلى مقر سكنهم في نسخة مشابهة للخدمات المتميزة التي تقدم هنا في المملكة من قبل وزارة الصحة (نظام الرعاية الصحية المنزلية)، إضافة إلى أنه من ضمن خدمات بلديات المدن في السويد أنها تقوم بتوصيل طلبات المواد الغذائية وغيرها من الاحتياجات الأساسية إلى منازل كبار السن وهو ما يساهم في دعم إجراءات عزلهم الوقائي حفاظاً على أرواحهم.

في حين يقول الدكتور أنمار مندورة، وهو طبيب قلب وشرايين بمستشفى سكونا في مدينة مالمو ومبتعث من جامعة أم القرى، أن هناك حالة من الانقسام في آراء الأطباء حول المنهجية التي اتبعتها السويد في مواجهة جائحة كورونا، فهناك من يرى أنها مخاطرة، خاصة وأن دور الحضانة والمدارس الابتدائية ما زالت مفتوحة بحجة أن كثيراً من الأزواج يعملون ولن يجدوا مكاناً لترك أبنائهم فيه، فيما يرى فريق آخر أن ثقافة التباعد الاجتماعي السائدة دعمت اتخاذ تلك المنهجية، فالسويديون بطبيعتهم يميلون إلى الاستقلالية والعزلة ومقتصدون في علاقاتهم الاجتماعية.

وشدد الدكتور مندورة على أن النظام الاقتصادي لعب دوراً مهماً في اتخاذ السويد لإجراءات احترازية ربما أقل تشدداً من دول أخرى، فهي حاولت أن تضع إستراتيجية متوازنة تراعي عدم الإضرار بالاقتصاد وفي ذات الوقت تعول على ثقافة مواطنيها في الالتزام باتباع الإرشادات والنصائح لتجنب نقل العدوى.

وفي ذات السياق، يرى الدكتور علي العنزي وهو أستاذ مساعد بكلية طب الأسنان بجامعة القصيم وحصل على الدكتوراه من جامعة مالمو، أن ثقافة التباعد الاجتماعي إضافة إلى أن نحو نصف المواطنين الذين يمتلكون مساكنهم يعيشون بمفردهم، دعمت اتخاذ السلطات السويدية لمنهجيتها التي تراهن على ثقافة المجتمع وعدم الإضرار بالاقتصاد في آن واحد.

وحول النتائج السلبية الأخيرة، أكد الدكتور العنزي أن التجربة السويدية شهدت بعض الأخطاء التي ربما قادت إلى هذه النتائج والإحصاءات المتدهورة في أعداد المصابين والوفيات، ومنها سوء تقدير طبيعة الفايروس من قبل الكوادر الصحية، مبيناً أن هناك تقارير أشارت إلى أن الكثير من المسؤولين والأطباء والكوادر الصحية كانوا يعتقدون في بادئ الأمر أن فايروس كورونا شبيه بالإنفلونزا الاعتيادية، وهذا التقييم غير الدقيق ساهم أيضاً في اتخاذ إجراءات احترازية مخففة.

ومن جهة أخرى، تحدث الدكتور سعد القحطاني، وهو طبيب في علم الأمراض العصبية وأورام الدماغ وحاصل على الدكتوراه من جامعة كارولينسكا التي ابتعث إليها من جامعة نجران، عن فلسفة النموذج الصحي السويدي بشكل عام، مبيناً أن هذا النموذج يؤمن بأن التدخل بالعلاج هو آخر مرحلة يصل إليها مع أي مريض، وبالتالي فإن جوهر الفلسفة الطبية السويدية يعتمد على «الإجراءات الوقائية»، مؤكداً أن السلطات الصحية في السويد تعاملت مع فايروس كورونا بنفس هذه الفلسفة، التي يدعمها أيضاً عامل ثقافة التباعد الاجتماعي الذي سهل من اتباع تلك المنهجية.

كما تطرق القحطاني إلى أهمية الجانب الاقتصادي، معتبراً أن القرارات التي اتخذتها السويد راعت استقرار الاقتصاد للخروج من هذه الأزمة بأقل قدر من الخسائر المادية والبشرية، إلا أن التجربة لم تثبت نجاحها في ظل تزايد الحالات المفاجئ والمتسارع وهو ما ينذر بوجود كارثة محتملة.

انكشاف حقيقة المنظومة الصحية

لطالما تغنى السويديون والكثيرون حول العالم بقوة النظام الصحي في السويد والذي يعد ضمن أفضل 10 أنظمة صحية على مستوى العالم، ويتميز بأنه من أكثر الأنظمة رفاهية على مستوى الخدمات الصحية التي يقدمها للمواطنين والمقيمين على حد سواء، وعلى الأرجح ساهمت مؤشرات قوة هذا النظام الصحي إضافة إلى عوامل مساندة أخرى مثل ثقافة الالتزام بالتعليمات وارتفاع الوعي العام لدى الشعب السويدي وثقافة التباعد الاجتماعي السائدة منذ سنوات، في إعطاء دافع قوي وثقة كبيرة لدى السلطات في اتخاذ قرارها التاريخي بعدم فرض قيود منع تجول وإغلاق للقطاعات الحيوية في البلاد.

إلا أن الرهان على قدرة النظام الصحي في السويد في التصدي وحده لجائحة كورونا بدون تشديد القيود الاحترازية المساندة، بات من الواضح في ظل الأرقام والإحصاءات الجديدة بأنه كان مغامرة ومقامرة بلا شك، وذلك وفقاً للكثير من المعطيات المدعومة بالمؤشرات السلبية، فمنذ بدء انتشار حالات كورونا في البلاد، كان هناك نقص حاد في المستلزمات الطبية الوقائية مثل معقمات اليدين والكمامات والقفازات التي اختفت من الصيدليات وشهدت نقصاً حتى في المستشفيات، إضافة إلى نقص في أجهزة التنفس الصناعي والأسرّة في المستشفيات التي امتلأت في الآونة الأخيرة.

كما أن النظام الصحي السويدي رغم كل ما يقال عنه من إيجابيات إلا أنه لم يخض اختباراً جدياً خلال الـ200 عام السابقة، فآخر حرب خاضتها كانت في 1814، ولم تكن طرفاً في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولم تتعرض بشكل مباشر لأضرار الأوبئة التي اجتاحت العالم خلال القرن الماضي مثل جائحة الإنفلونزا الإسبانية (1918) عدا مدينة أوسترسوند النائية في وسط البلاد وذلك لأسباب ارتبطت حينها بالفقر وسوء التغذية ووجود ثكنات عسكرية أجنبية داخل المدينة في ذلك الوقت ساهم في انتشار الوباء فيها على وجه التحديد وليس في المدن الأخرى. لذلك، كانت جائحة كورنا المستجد (كوفيد 19) حالياً هي تقريباً أول وأقوى اختبار عملي تشهده المنظومة الصحية في السويد خلال القرنين الماضيين، والاندفاع نحو الاستمرار في عدم فرض قيود صارمة للحد من انتشار المرض جعل البعض يصفها في وسائل الإعلام بـ «الدولة العنيدة».

لعنة «متلازمة ستوكهولم» تلاحق السويد

التغير السلبي السريع في أعداد المصابين والوفيات خلال الأيام القليلة الماضية كشف أن «التجربة السويدية» لم تكن إنجازاً مبهراً يحتذى به، وهو ما زاد من مؤشرات القلق لدى المسؤولين في السويد، إذ قالت وزيرة الصحة لينا هالينغرين في بيان: «إن السويد والعالم في وضع خطير جراء فايروس كورونا»، مضيفة: «نرى حاجة للتصرف بسرعة إذا تطلب الوضع ذلك، فالأمر يتعلق في النهاية بحماية حياة البشر». وكذلك دفعت هذه الملابسات، إضافة إلى الانتقادات الحادة التي وجهها مئات الأطباء السويديين ضد القرارات الصحية التي وصفوها بـ «المتراخية»، رئيس الوزراء السويدي ستيفان لوفين إلى القيام بتحذير السكان من أن الأيام القادمة قد تكون مؤلمة جداً على البلاد، وصرح لصحيفة «داجينز نيهتر» السويدية قائلاً: «سيكون لدينا مرضى أكثر خطورة مما هو عليه الوضع الآن، وحينها سيحتاجون إلى رعاية مكثفة، نحن نواجه احتمالية وفاة الآلاف من المواطنين في الأيام القادمة، وإننا بحاجة إلى الاستعداد لذلك»، وبرر تأخر بلاده عن التشدد في الإجراءات بحجة تقليل الضغط على مستشفياتها ونظامها الصحي.

وفي مقابل هذه التصريحات، لا تزال السويد تدافع عن تجربتها في مواجهة الفايروس الفتاك وترى أنها اتخذت القرارات المناسبة، إذ رفضت الحكومة السويدية الأسبوع الماضي الاتهامات بأن رد فعل ستوكهولم كان متراخياً، إذ أكد البروفيسور أندرس تيغنيل الذي يرأس إستراتيجية مكافحة تفشي فايروس كورونا في السويد، اتخاذ بلاده «أهم التدابير بالفعل»، مبرراً ذلك بقوله: «سنحصل على نتائج إيجابية عندما يلتزم الجميع بتدابير السلوك الأساسية فقط».

«التجربة السويدية»، أصبحت وكأنها سيناريو لـ «متلازمة ستوكهولم»، فما بين المكابرة والإصرار على صحتها والتحذيرات من تفاقم الأوضاع التي ستشهدها البلاد، بدا المسؤولون وكأنهم «رهائن» لهذه التجربة التي تثبت نتائجها السلبية يوماً بعد آخر أنها مخاطرة وتسير بالبلاد في الاتجاه الخاطئ، ومع ذلك يدافعون عنها ويوجدون المبررات لها رغم انخفاض قناعات الكثيرين خاصة في ظل النتائج السلبية الأخيرة، وهنا يبدو مشهد الاستمرار في التجربة، يجعل من متخذي القرار وكأنهم كـ «الضحية» التي تتعاطف مع المجرم (كوفيد 19). كما يجب أن لا نغفل أن هناك دوافع اقتصادية، تطغى عليها نزعة انتهازية، كانت أحد العوامل وراء اتخاذ هذه الإستراتيجية التي انتهجتها السويد، والتي اصبح لسان حالها يقول: «في موت أحدهم، خبز للآخر».