يوسف بزي
يوسف بزي
-A +A
أروى المهنا (الرياض) @arwa_almohanna
مارس الصحفي والشاعر اللبناني يوسف بزي عمله الصحفي بشكل يومي كممارسة نقدية للتفكير الثقافي وكيفية استثماره في السجال العام، فيما يأسف الصحفي الجريء والشاعر الحر حال الصحافة اللبنانية اليوم كونها خسرت كما يرى أدوارها منذ أن باتت النخبة السياسية الحاكمة هي نفسها المالكة للمؤسسات الصحفية، له في فضاء الشعر «المرقط»،«بلا مغفرة»، «تحت المطرقة»، «فم الغراب»، كما صدر له كتاب «ضاحية واحدة مدن كثيرة»، واصفا النتاج أنه مجموع جهد امتدّ لأكثر من 17 عاماً، تتوقف «عكاظ» على جوانب مختلفة من حياته مستحدثة معه حال الصحافة وتورطه المستمر وإليكم نص الحوار:

•الكاتب الصحفي يوسف بزي بماذا هو متورط اليوم؟


••آخر ما تورطت فيه هو الكتابة والإشراف على تنفيذ فيلم وثائقي بعنوان «بين هلالين»، عن العداوة المستجدة بين العرب والإيرانيين، والخلفيات التاريخية والمذهبية والسياسية لهذا العداء، مع الإصرار على أن تكون وجهة الفيلم هي أن الشعوب المتجاورة عليها أن تجد التسويات المثلى للتعايش والتعاون. لكن للأسف، كما علمنا وذقنا، فإن الوصول إلى التكامل والتعاون في فضاء من التسامح لن يتحقق إلا عبر أطول الطرق وأكثرها وعورة ومشقة. والتورط في صناعة الأفلام الوثائقية، هو محاولة مني كي أستمر في العمل الصحفي مع تغيير في الأدوات والوسائط، طالما أن مهنة الصحافة المكتوبة باتت آيلة للانهيار.

•يحسدك الصحفي طارق أبي سمرا على صراحتك، هل واجهتك عواقب للحقيقة المباشرة في حياتك المهنية؟

••أظن أني كنت محظوظاً على الدوام في عملي الصحفي. فأول منصب وظيفي لي كمحرر، نلته بسبب جنوحي إلى المشاكسة الأدبية، ففي أواخر الثمانينات وانطلاقاً من كوننا شلة شعراء وكتّاب شباب نغامر في نصوصنا وآرائنا وكلامنا على نحو لا يخلو من الاستفزاز، كسبنا بعض الشهرة، ما جذب الصحافة الثقافية إلينا، التي فتحت لنا صفحاتها ومنحتنا الفرصة كي نمتهن العمل الصحفي. وسريعاً ما انتقلت إلى مجلة «الناقد» عام 1991، التي كانت أشد المنابر الثقافية العربية جرأة ومشاكسة وإثارة للجدل، وأكثرها تعرضاً للرقابة العربية. هذا أيضاً منحني فضاء رحباً من حرية الكتابة والقول وشجعني باستمرار على الوضوح والصراحة والمواجهة. ولحسن الحظ أيضاً أن عملي لنحو عام في صحيفة «السفير» ومساهماتي الدائمة على مدى سنوات في «ملحق النهار» كان باستمرار متوافقاً مع ذاك النزوع الراسخ لخوض معركة الحريات، خصوصاً حرية التعبير وحرية الإبداع. لقد كانت المهمة الفعلية للصحافة اللبنانية في التسعينات هي مقارعة حلف رجال المال وأمراء الحرب من ناحية، ومقارعة «الوصاية» السورية آنذاك على لبنان من ناحية أخرى. منذ تلك الحقبة انتبهت إلى التشابك بين الثقافي والسياسي، وإلى معنى عمل «المثقف» في الصحافة ودوره. والغريب أن عملي لقرابة السنتين ونصف السنة في الكويت، عندما شاركت في إعادة تأسيس جريدة «الرأي العام»(1995)، ثم في أبو ظبي مع خطة تجديد جريدة «الاتحاد» (1998)، لم أواجه فيه عواقب كبيرة، رغم مبالغتي بجنوحي للتيار الليبرالي الكويتي بوجه التيارات الإسلامية المتشددة، ورغم المعارك الهامشية التي واجهتني في أبو ظبي. وتعلمت بسرعة من تجربتي «الخليجية» أن لا أكون مبشّراً أو داعية، لا في السياسة ولا في الثقافة، بل أن أكون مصغياً أكثر للحساسيات المحلية وللخصوصيات التاريخية ولاختلاف المسارات في مقاربة العناوين الأساسية: الحرية، التقدم، العدالة.

عدت إلى بيروت عام 1999، من أجل تأسيس جريدة «المستقبل»، لأن الرئيس الراحل رفيق الحريري أراد أن يجمع فيها جميع الاتجاهات الفكرية والسياسية، أكانوا من اليمين التقليدي أو الليبراليين أو من الجناح الديموقراطي لليساريين. كانت الجريدة - حسب طموح الحريري – منبراً لثقافة وسياسة «ما بعد الحرب» وفضاء لصوغ لغة ثقافية وسياسية توائم فكرة «الجمهورية الثانية» الوليدة، التي تسعى إلى السيادة والاستقرار وتوطيد السلم الأهلي. مع انطلاقة الجريدة، تعرضت للتوقيف لمدة ساعات من قبل قاضي التحقيق لشكوى من وزير الدفاع. في ذلك اليوم، صنع مني الإعلام على نحو مبالغ فيه «بطلاً» للحريات وتحول الوزير إلى مسخرة عامة.

بالمحصلة، كنت محظوظاً لأن عملي الصحفي لم يكن «وظيفة» بالمعنى التقني، بل ممارسة يومية نقدية للتفكير الثقافي وكيفية استثماره في السجال العام.

•لم تتفاءل كثيراً بمشروع صحيفة النهار الجديد «كلنا في جريدة»لماذا ؟

••أقول بأسى أن زمن «النهار» أفل وانصرم، ليس فقط لأن الصحافة المكتوبة تعيش أزمة مصيرية، بل لأن الدور التاريخي لهذه الصحيفة العريقة بالذات انتهى. كانت هي صحيفة الجمهورية وتمثل على نحو لامع مشروع النخبة اللبنانية ورؤيتها لدور لبنان في المنطقة. آخر دور لعبته كان معركة «السيادة والاستقلال» (2000- 2005) التي آلت إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري واندلاع أول انتفاضة مليونية مدنية سلمية في العالم العربي. دفعت «النهار» ضريبة باهظة ودموية مع اغتيال رئيس تحريرها آنذاك جبران تويني وكبير كتّابها ومثقفيها سمير قصير، ثمناً لهذا الدور الجليل.

منذ ذلك الحين وحتى اليوم، أعيد تشكيل وعي اللبنانيين وأصيب الخطاب العام بعطب عميق، ولم تعد الجمهورية هي نفسها. لبنان اغترب وابتعد عن لبنانيته. ولا شك عندي أن جريدة هذا اللبنان الراهن هي صحيفة «الأخبار» الموالية لـ «حزب الله». بهذا المعنى، «النهار» هي على الأرجح مشروع حنين. واستطراداً أقول أن الصحافة اللبنانية خسرت أدوارها (واستقلاليتها) منذ أن باتت النخبة السياسية الحاكمة هي نفسها المالكة الفعلية أو الممولة للمؤسسات الصحفية.

•حاول الفيلسوف الفرنسي فوكو الاعتراض على مختلف الجوانب الاجتماعية من خلال العمل الثقافي الجاد، هل يمكن أن نقول إنك تسير في الطريق ذاته؟

••من دون أي ادعاء شخصي، معظم المثقفين اللبنانيين يتبعون ذاك التقليد الفرنسي الذي خطّه إميل زولا في لحظة مقالته الشهيرة «أنا أتهم» دفاعاً عن الضابط الفرنسي اليهودي ألفريد درايفوس، وتابعه المفكرون الفرنسيون أمثال ميشال فوكو وجان بول سارتر وصولاً إلى الدور المثير للجدل الذي لعبه برنار هنري ليفي في صوغ رأي عام أوروبي حماسي تجاه الثورات العربية. وإن كان لا بد من قول يشبه البداهة: لا معنى للمثقف من دون اضطلاعه وانغماسه في الشأن العام على نحو نقدي واعتراضي وبأقصى مشاعر المسؤولية.

•بعد عملك رئيس تحرير لملحق نوافذ في جريدة المستقبل كيف تستعيد خيبة إغلاق الملحق اليوم؟

••أؤمن على الدوام أن للمشاريع مدة صلاحية محددة. من المناسب جداً أن تعلن «المهمة أُنجزت» حين انتهائها. هذا ما فعلته دوماً في مختلف المواقع والمشاريع التي انخرطت فيها. تجربة «نوافذ» التي تولى مسؤوليتها أولاً الروائي حسن داوود بمساعدتي ومساعدة الشاعر الراحل بسام حجار والشاعر فادي الطفيلي وبمساهمة من عشرات الكتّاب العرب، قبل أن أتولى إدارتها طوال ست سنوات، كانت اقتراحاً معقداً وخلّاقاً لصحافة ثقافية تتعدى الاختصاص الأدبي والفني نحو الاشتباك بالظواهر والتحولات في المجتمع والحياة المعاصرة، اشتباك قائم على بعد سوسيولوجي وأنتربولوجي. حاولنا أن نوسع معنى الصحافة الثقافية لتشمل فكرة «العمران» (حسب بن خلدون)، كما أن نترجم الصلة العميقة بين السياسة والثقافة. وهذا برأيي بات اقتراحاً معمولاً به اليوم في التجارب الصحفية الأخرى.

•كأنما تحاول من خلال الشعر الذي تكتب أن تقدم صرخة بوجه كل ماهو مألوف؟

••ما يحيرني أني «أكتب». الكتابة صمت. بالكاد يمكن للكاتب أن يهمس، فهو ليس مسرحياً مثلاً، وليس مذيعاً ولا مؤدياً أمام ميكروفون. مع ذلك، ثمة انطباع أن كتاباتي صارخة وغاضبة وحادة. ربما لأن العبارات والمفردات التي يتكون منها قاموسي الشخصي، تبدو مشحوذة ومبرية ومسنونة.. ربما لأنها هكذا عارية ومباشرة. وهنا في هذا الحوار كما في أي نص أشتغله، غالباً ما أكون مهجوساً بذاك القارئ الافتراضي شبيه المراهق الذي كنته، القلق والمتحفز لملاقاة العالم والخوض فيه، والتائق نحو أبعد حرية ممكنة، نحو عضّ الحياة وتذوقها والتهامها والتلذذ بطعمها..

•تعتبر طقس «الفيسبوك» طقساً ضرورياً لابد منه.. لماذا ؟

••في العالم الواقعي، نعرف ما يجب أن نقوله في المقهى، وما هو الكلام والحديث في السهرات، وما هي اللغة التي نستعملها في المقالات، أو العبارات المناسبة في اجتماعات العمل. نعرف أيضاً (بحدود مواهبنا) شروط الكتابة الأدبية وفنونها، اللهجة المناسبة للحديث مع سائق التاكسي.. لكننا هنا على جدار «الفيسبوك»، كنا أمام حياة ولغة لا خبرة لنا فيهما. كنا كغرباء نصل بلداً أجنبياً، حيث كل كلمة تفضحنا، كل صورة ننتقيها تكشفنا، كل تعبير أو سلوك يدل على هويتنا وعلى مكنوننا أيضاً.

شيئاً فشيئاً، بدأ فن «الستاتوس» عملياً بعد الانتباه إلى جدواه في السجالات التي تنشب إثر كل قضية في الشأن العام. إبداء الرأي والرد على آراء الآخرين، وطرح وجهات النظر والتعليق على الأفكار المنشورة، تأييداً أو معارضة. كانت سمة تلك السجالات أنها بلا إدارة، أي لا تخضع لتنظيم أو رقابة أو سلطة ضبط وتحرير. هي عمومية إلى حد لا يطاق، فورية وفوضوية، حيث الرأي الرصين والبذاءة، الفكرة اللامعة والنكتة، الجهل والمعرفة، الاعتباط والدقة، في خليط أصوات وأفكار ووجوه وخلفيات ثقافية وسياسية ودينية وأخلاقية لا حصر لها.

فجأة انفتح فضاء هائل السعة للتعبير الشخصي والجماهيري.. فضاء لا نهائي يخوض فيه الجميع ويتنافسون على كسب السجال أو التأثير أو المناصرة أو تحشيد الاعتراض، أو اكتساب أصدقاء لا عد لهم، أو تأليف حياة اجتماعية كاملة، موازية أو أفضل من تلك المعاشة، بلا شروط الجغرافيا أو الزمن أو الحضور الفيزيولوجي.

ما فعله الفيسبوك أيضاً أنه حقق عياناً الأنوات. بيوغرافيا مستمرة. كل أنا بات لها البروفايل والسجل والتعريف، والأرشيف الافتراضي ليومياتها، لآرائها، لعدد أصدقائها وماهياتهم. كل أنا مكشوفة ومعروضة للآخرين. وكل أنا مسؤولة عن صناعة نفسها وصورتها، وعن الانطباع الذي تولده عند الآخرين. وكل أنا عليها العمل كل يوم تقريباً لصيانة أو تحسين أو تثبيت حالها وتأكيد ذاتها في خضم هذه الحياة الاجتماعية الواسعة، التي تتنافس فيها كل الأنوات وتتلاقى وتتواصل.