محمد بن عيسى متحدثاً للزميل علي الرباعي.
محمد بن عيسى متحدثاً للزميل علي الرباعي.




.. ويتجول في أحد المعارض الفنية.
.. ويتجول في أحد المعارض الفنية.
-A +A
حاوره: علي الرباعي (أصيلة) Al_ARobai@
ينطلق الوزير الدكتور محمد بن عيسى كل صباح، للمشي لمدة نصف ساعة، ثم يبدأ يوم عمله الطويل، بمحبة وانتماء، واحترام للوقت، وتقدير وتدريب لمن يشاركه الفعاليات من الأطر والحساسيات.

من طفولته، وهو يعشق الإبداع، ويتفاعل مع الطبيعة، ويربّي الأمل، وانتقل في السادسة عشرة من عمره لمصر، لدراسة الصحافة، وفي عام 1961، حاز على منحة لمتابعة دراسته للصحافة في أمريكا، وعمل ملحقاً إعلامياً في البعثة المغربية الدائمة لدى الأمم المتحدة، وكان مسؤول معلومات في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وأديس بابا، وتقلد مناصب في روما وغانا مديراً للمعلومات في منظمة الأغذية والزراعة (الفاو). ومن يزوره، لن يصدّق أن مؤسس «أصيلة» منذ 45 عاماً، البالغ من العمر قرابة 85 عاماً، يستقبل الضيوف، ويحضر الجلسات، ويعلّق على المداخلات، ولا يتحرك من مقعده في أي ندوة طيلة ساعتين إلى أن تنتهي الجلسة أو الجلسات. لمحمد بن عيسى دور في العمل بمؤسسات أممية، وخدمة البشرية، إلا أن عودته من غربة الترحال لفتت نظره ونظرته، لمدينته، فكانت الفكرة، التي غدت عنواناً كبيراً، ومتناً جاذباً للأذواق والعقليات، يقصدها العالم، فيراها الفنان لوحةً تشكيلية فاتنة في فضاء مفتوح، وشاشة عرض أقرب للفانتازيا، وأرضية وطرق ترد بأرواح أهلها التحية بأحسن منها، وخلال أسبوع قضيناه في ضيافة الموسم والقائمين عليه، كان هذا الحوار مع أيقونة «أزيلا» وعرّابها:


• كيف انطلقت فكرة «أصيلة»؟

•• الفكرة كانت عند عودتي من العمل خارج القُطر، إذ اجتمعنا أنا والفنان محمد المليحي، وكلانا من أبناء أصيلة، وقررنا أن نفتح فضاءً للحوار، ونُهيئ أرضيةً ثقافية، تسهم في لفت الانتباه لمدينتنا، وتعزز الاستثمار في الإنسان بالتنمية، وانطلقنا بدعوة الفنانين لرسم جداريات، وأشركنا مع كل فنان عشرة من الأطفال، لمعاونتهم، ولإشعارهم بأن الجداريات لهم، وأن مدينتهم جميلة، ليحافظوا عليها، ويسهموا في نظافتها، لأن الزوار سيتوافدون عليها من الداخل والخارج.

• كيف كانت ظروف أصيلة؟

•• بالطبع لم تكن على ما هي عليه اليوم، فمشروعنا انطلق بتوجيه دعوات لرموز سياسية وثقافية، ما أسهم في خلق حوارات مع النخب والرموز وفتح باب التعاون معنا وأسهمت دول وشخصيات في رفد فكرتنا بالمشاريع، فالملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله اعتمد لنا مدارس لكل المراحل، والإمارات قامت ببناء مجمع الشيخ زايد للفنون والديزاين، والسلطان قابوس رحمه الله أسهم ببناء مركز الملك الحسن الثاني، وكنت في زيارة له، وسألني، ماذا تريد أن أهديكَ؟ فأجبته، أتمنى مركزاً ثقافياً في أصيلة، وحقق الأمنية، والأمير بندر بن سلطان أسهم في ترميم قصر الريسوني (قصر الثقافة) وأقام مكتبة الأمير بندر بن سلطان بناءً ومعلَماً، ودول الخليج وآخرون يسهمون بالدعم، ولا ننسى، ونعتز بافتتاح خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لموسم أصيلة الثلاثين، قبل خمسة عشر عاماً، وألقى خطاباً تاريخياً، نعده وثيقة غاية في الأهمية، خصوصاً أنه حضر ومعه أولاده.

• كيف نجحتَ في كسب السُلطات وصاحب القرار في صف مشروعك؟

•• لا أخفيك أن الملك الحسن الثاني رحمه الله، تبنى المشروع، وكان يفتتح موسمنا بخطاب ملكي، والملك محمد السادس، رعاه الله، قوّانا وأكرمنا بقبول الرئاسة الشرفية للمهرجان، وظل يفتتحه كل عام بخطاب ملكي، وأحسبُ أن صدق التوجهات، ووضوح الفكرة، ينصفان صاحب المشروع، لتمنحه السلطة الواعية، ما يستحق من مكان ومكانة، كون شواهد العمل ظاهرة، ومدينتنا دعت ما يقارب عشرين ألف مثقف دعوناهم ولبّوا الدعوات طيلة أربعة عقود، فالإيجابي والصادق يجد الدعم والحماية، ولا مشروع دون ممانعة، أو حسّاد، أو مناوئين، أو مستخفّين بالأفكار وبالثقافة، لكنك تنتقل مع الوقت للعمل المؤسسي الرصين.

• ما سقف الحريات في هذا الفضاء؟

•• مساحة الحرية متاحة، فنحن ندعو الشرق والغرب، والعرب والأفريقيين للتحاور، وأول دعوة وجهتها للرئيس السنغالي الشاعر (ليوبولد سيدار سنغور) ولبّى الدعوة، وحضر وألقى محاضرة، وكان لحضوره أثر، إذ تمت التغطية الإعلامية، لمحاضرته، ثم بقية الضيوف، الذين يطرحون الآراء بحريّة وجُرأة، ودون إملاءات، ما أكسب أصيلة هذه الثقة الكبيرة من كافة الأطياف.

• من أين اكتسبت الصبر على ردود الفعل الجانحة والجارحة؟

•• لم أعش مع الساسة والدبلوماسيين كثيراً، فحياتي معظمها بين الفنانين والمسرحيين والتشكيليين والأدباء، وهذا الفضاء يمنحك قدرة على الانصراف لمشروعك، وعدم الالتفات لمزايدات وأصوات غير موضوعية من اليمين واليسار، فالمشروع للجميع وللإنسان وللتنمية عملياً وليس تنظيراً.

• كيف ترى تحولات أصيلة؟

•• تحولاتها منها المادي المحسوس، عبر مؤسساتها، ومينائها، ومدارسها، ومراكزها، ومتاحفها، وإنسانها، المتفاعل مع الخدمات التي تكاملت عبر أعوام من العمل، ومنها المعنوى كونها مدينة فكر وثقافة وانفتاح وتسامح وتعاون، ومناقشات في إشكاليات البلدان، وطرح الحلول، والمعالجات، فبالثقافة يمكن توفير الحلول والإسهام في الوعي بالمشكلات والمخاطر والمهددات لتفاديها.

• هل التقى الشرق والغرب، والعرب والأفارقة؟

•• نجحنا أن نوجد في وطننا، مكاناً خارج العاصمة، وبعيداً عن الأضواء، فالتقى العرب مع أنفسهم، والتقى العرب والأفارقة، والتقى الشرق والغرب على أرضية حوار مشترك واحترام متبادل، وجاءت الأضواء لاحقاً لترصد وتوثّق وتنقل.

• هل تعد الثقافة مورداً؟

•• يمكن أن تكون مورداً، وثروة، آن استثمارها في تنمية الإنسان والمكان، وأصيلة نموذج يمكن أن يحتذى، في تكامل أدوار المثقفين والفنانين والمجتمع المدني لإقامة مدينة تحافظ على أصالتها، وتنفتح على المعاصرة، وكان القاطنة الذين زاد عددهم إلى الضعف (34 ألف نسمة)، يشعرون بما كانت عليه مدينتهم وما وصلت إليه.

• ما أبرز الأسماء التي تفاعلت وجاءتكم ملبيةً دعواتكم؟

•• دعونا أدونيس، وأحمد عبدالمعطي حجازي، ومحمود درويش، وإلياس خوري، والطيب صالح، وخالدة سعيد، ثم لاحقاً قاسم حداد، وعثمان العمير. وعدد كبير من كل الدول العربية والخليجية ومن العالم.

• من صاحب الفضل في التعريف بأصيلة؟

•• كان للإعلام من الصحف والإذاعات والتلفزة المحلية والعربية والدولية فضل إيصال الصوت وتسليط الضوء، ومن هنا انتقلت أصيلة من فضاء محلّي إلى عالمي.

• كانت البدايات متواضعة؟

•• بالطبع أغلب المشاريع تبدأ متواضعة، وإذا صحّ العزم، وتم تجويد العمل، ينال المشروع الثقة، ويكسب الدعم، ويحتمي بمظلة، ولم ننتظر في أصيلة لتكون لدينا إمكانات كبيرة، ولم نكن نخجل من بداياتنا البسيطة.

• هل جنى بن عيسى مكاسب من أصيلة؟

•• المكسب الأوحد، في حضور مدينتي في الذاكرة الإنسانية، أنا متقاعد، أعيش براتبي التقاعدي، والفخر بإنجاز ما خططنا له بحُسن نوايا أنا والمليحي، منذ ترشحنا لعضوية المجلس البلدي، وإلى أن أصبحتُ عضو مجلس النواب المغربي، ومقرر اللجنة الثقافية، وعمدة أصيلة.

• ما الذي تشعر به اليوم، وأصيلة تبلغ العام 45؟

•• شعور بالرضا عن نفسي، فحين عُدتُ من العمل لدى الأمم المتحدة، كنتُ في التاسعة والثلاثين، وجلست في البيت وحيداً، وسألتُ نفسي، ماذا أفعل الآن، وقررتُ، أن أقسّم ما تبقى من عمري بين أسرتي، ومدينتي، وفعلتُ، واليوم كبر أولادنا ومنهم المثقف والفنان والقائد.

• ما سرّ استمرارية أصيلة؟

•• البقاء على نزاهة اليدّ. كل ما تم التبرع به لمشروع أصيلة يراه المتبرع أمامه رأي العين، وكل ريال أو درهم يُصرف في ما هو مخصص له.

• لماذا لم تخرج من المدينة العتيقة للأحياء الجديدة؟

•• وفاءً للعهد، وللناس الذين عملوا معنا، وتضامنوا مع مشروعنا، وخدمةً لوطني ومليكي وشعبي، فأنا على مشارف الخامسة والثمانين، وسعيد جداً بما أنجزت ولن أترك المدينة التي وهبتُها جهدي، ووهبتني إيجابية أهلها والعطاء التفاعلي.

• ماذا عن إصدار كتب وتأسيس موقع لجمع الندوات وأوراق العمل؟

•• لدينا أرشيف مخطوط وصور ولعل جهود المعنيين بالتوثيق والمحققين والباحثين تثمر مستقبلاً بإخراجها ورقياً وإلكترونياً.

• هل ترمم الثقافة ما تهدمه السياسة؟

•• أنا ضد تسييس الثقافة، ومع تثقيف السياسة، وليست قضية هدم وبناء بل تكامل، والشعوب المتحضرة ترتقي بالذوق والسلوك والأخلاق، فلا تؤثر فيها السياسات والتوجهات الفاسدة، والتعليم عليه مسؤولية ثقافية في تربية أذواق الأجيال على الإبداع والفن والعناية بالأناقة، وعندما كنتُ وزير الثقافة رأستُ جلسةً لوزراء الثقافة، وافتتحتها قائلاً، لقد أضعنا وقتاً طويلاً في تسييس الثقافة، وآن الأوان لتثقيف السياسة.

• في ظل «تسييل» الثقافة كيف ترى حضور أصيلة؟

•• العالم في تطور متلاحق، والعلم والتكنولوجيا أسرع من الإنسان، ونثق أن لكل جيل أدواته في التطوير والحفاظ على المكتسبات.

• ألا تخشى على أصيلة بعدك؟

•• لا أخشى عليها، فهنا شباب عاش معنا لحظة بلحظة، وأثق به، وأنا متفائل، كون أصيلة لم تعد مشروع بن عيسى والمليحي رحمه الله، بل غدت فكرة تتسامى دوماً وترقى بتوظيف الثقافة لتغيير ظروف الإنسان للأحسن.

• ماذا عن تكريم الشاعر محمود درويش؟

•• كنتُ التقيته قبل عام من وفاته، وأبلغته بالرغبة في تكريمه، ولكن القدر سبقنا، فلم تتحقق الأمنية.

• من ستدعو في الأعوام المقبلة، إثر رحيل شريحة من الرموز العربية؟

•• نرحب بالجيل الجديد من المفكرين والمبدعين من كل الأقطار العربية، وأصيلة لكل العرب، وللإنسانية جمعاء.