إستبرق أحمد
إستبرق أحمد
-A +A
حاورها: دخيل الخليفة (الكويت) alkhalifa_d@
تميز جيل 2000 في الكويت باتجاهه للسرد على حساب الفنون الأدبية الأخرى، ومبكراً انحازت المبدعة إستبرق أحمد للقصة القصيرة فكانت مجموعتها الأولى «عتمة الضوء» المفاجأة التي أفرزت اسماً نسائياً مهماً في السرد الحديث، وفازت في السنة ذاتها بجائزة «ليلى العثمان».. ثم توالت إصداراتها لتؤكد أسلوبها المختلف والمتصاعد فنياً في الوقت نفسه.

وتعتبر إستبرق أحمد «اللا متوقع» سمة لما نحن مقدمون عليه، ما يستدعي إيجاد مقترحات جديدة للكتابة، تتناسب والمستجدات، لكنها لا تقوم على «التخلي التام» عن جماليات الأشكال واللغة، وإنما بالعثور على ما هو أكثر ملاءمة لما نحن عليه بعد رصده برؤية ورويّة ومرونة.


وتؤكد إستبرق لـ «عكاظ» أن آفة المؤسسات الثقافية الركون للتكرار، منتقدة بشدة إلغاء معرض الكتاب العربي في الكويت في نوفمبر من العام الماضي واستبداله بمعرض افتراضي، رغم إمكانية التفكير بحلول أجدى، خصوصاً أن الكثافة السكانية في الكويت قليلة، وقد أجريت انتخابات برلمانية بأعداد أكبر من مرتادي معرض الكتاب ولم يحدث شيء خارج المتوقع.

• بين مجموعاتك القصصية ورواية «الطائر الأبيض» تجارب متباينة، ما الشكل السردي الذي وجدتِ فيه ملاذ الكتابة؟

•• الحياة رحلة مليئة بالقوارب التي تأخذك إلى التحولات المرّة والعذبة، أعتبرُني من الكتاب الشغوفين بالسفر والتجوال بين موانئ التجارب، ولدي مخاوفي الدؤوبة التي تجعل قلقي جحيماً لا يتقزم حول ما أكتب، تتسرب عبر دهاليزه الأسئلة المعتادة التي تلازم الكاتب حول ما ينتجه وكيفية تجاوزه وكيف يجد صوته الخاص ولا يفلته، لذا ما إن تركت أوهامي وأوقفت ضجيجها حتى اتسع الشغف واللعب، بت لا أزعم ولا أفترض شيئاً، فقط مضيت أكتب وأكتب وأكتب مع ضرورة أن أشاكس القارئ، مدركة أن محاولاتي تمثلني تماماً شكلاً ومضموناً في اللحظة التي كتبتها ونشرتها دون ادعاء آخر، الانفتاح على التجارب والمراجعة للذات ينعكسان على نصوصنا، تحقنانها بالحيوية أكثر، لذا يسعدني أن لا تجربة وحيدة تمثلني ويقتصر عليها نصي، وأن أستمر أيضاً مخلصة ومتحمسة ومرتبطة بالقصة القصيرة.

• العالم تغير كثيراً لأسباب صحية واقتصادية وأمنية وثقافية، وكحال الكتاب والأدباء عموماً لا بد أن اللحظة الراهنة تشغلك، فهل حالت بينك والكتابة أم استطعتِ تجاوزها بكتابة إضافية؟

•• العالم الذي كنا نظنه قائماً لم يعد موجوداً، يجب أن ندرب أنفسنا على تقبل ذلك، فنحن بين ثنائيات الترويع والطمأنينة، وإن ظن البعض بأننا لسنا مقبلين على تغييرات جامحة فإنه واهم. كل الأحداث السابقة أسقطتنا في الارتباك، لكن جائحة «كورونا» جعلتنا جميعاً في مواجهة فوهة الموت، أمام هاوية العدم، بالرغم من ذلك ذلك وجدت نفسي في الكتابة بكثافة وأنهيت مشروعاً وشاركت في آخر، وفي دائرة مشاريع أخرى، كل ذلك بالنسبة لكاتبة بطيئة ومتمهلة هو تبدّل كبير.

• كيف أثرت الجائحة العالمية في الكتابة، خصوصاً أنك شاركت في المجموعة المشتركة الصادرة عن دار «الآن» الأردنية «شهود من أهلها»، فهل جاءت وفق مسار المشروع أم أن الهمّ فرض نفسه؟

•• مررت شخصياً خلال الجائحة بأحوال متطرفة، في البداية كانت قدرتي هائلة على القراءة والتركيز والكتابة الوفيرة، ليلحقها بعد ذلك عدم القدرة مطلقاً على الإمساك بكتاب، ظلت الكتابة موجودة ومتلكئة دون غزارة، كنت كماً يسيراً في عالم خاوٍ من المعنى المعتاد، ذلك يذكرني بعوالم كتاب «مأوى الغياب» للمدهشة «منصورة عزالدين» التي أقرأها حالياً، فالأمكنة غامضة تحاول الشخصية الرئيسية فيها إيجاد مساراتها مع الكلمة والمعنى؛ لذا دعني أعترف بأن «أحابيل القتلة» نص أنجزته لكتاب «مرصد المتاهة» لإكمال المشروع ولهمٍّ عام اجتاحنا، وعندما رأيت إعلان دار «الآن ناشرون» أحببت المشاركة فأرسلت لهم النص وتم كرم القبول منهم.

• أيمكن القول إن زخم الأحداث يدفع الكاتب إلى التخلي عن الكثير من أشكال وجماليات اللغة لصالح قضاياه محركة الكتابة؟

•• الأحداث الفارقة تستدعي نتائجها، على سبيل المثال بعد الحرب العالمية الأولى والثانية وكرد فعل ظهرت مدارس واتجاهات جديدة للتعامل مع الفنون والحياة، في هذه الأزمة الوبائية مثلا ظهرت تعبيرات ذات منحى عسكري كوصف «حلف الناتو» للفايروس بأنه «عدو غير مرئي مشترك» أو مصطلحات تصف سلوكيات عبثية للإصابة المتعمدة به تعرف بـ «حفلات كورونا»، التجربة الكورونية تخبرنا بأن اللغة لها تعاملاتها وأيضاً اختصاراتها وتقشفها وأدبياتها بإصدار الكتب عنها، ولكل كاتب «إنصاته» و«طريقته» للتعامل مع ما «يلتقطه» من تأملات تتناسب مع لحظته الراهنة والشكل الملائم لها، بالنسبة لي فمنذ «الطائر الأبيض» تخففت من اللغة الشعرية في بعض تراكيبها أو تعاملت معها بشكل مختلف، دام ذلك في الجائحة وشعرت كذلك بأنني أميل للوصف قليلاً، كأني أخشى ضياع بعض الأمكنة، وأصبحت أختار مواضيع لم أناقشها سابقاً بزوايا معينة.

لذلك باعتبار «اللا متوقع» هو سمة لما نحن مقدمون عليه فإن لذلك تداعياته منها إيجاد مقترحات جديدة للكتابة، تتناسب والمستجدات لكنها لا تقوم على «التخلي التام» عن جماليات الأشكال واللغة، وإنما بالعثور على ما هو أكثر ملاءمة لما نحن عليه بعد رصده برؤية ورويّة ومرونة.

• إلى أي مدى يشغلك القارئ/‏ الرقيب/‏ الآخر بشكل عام في كتاباتك؟

•• يشغلني من ذكرتهم في حدود معينة بشكل متفاوت بالنسبة لكل منهم، إذ لا أدعي انتفاء سطوتهم في التدخل في النص أو إعادة صياغته أو إلغاء وتحوير بعض أفكاره، لكنني لا ألتفت لمناوشاتهم أو لسعيهم للتمرد على حرية نصي، لا أذعن لاقتراح غير متوافق مع ما أرغب بقوله أو يجعلني أسعى لإرضاء أحد ما، باختصار أحاول دائماً ألا تطغى أية سلطة على نصي.

• الثيمة في بناء إصداراتك الأخيرة تكاد تكون ثابتة، تحدد مسار الكتاب، متجنبة كتابتها كرواية، مثل نصوص «الأشياء الواقفة في الغرفة 9»، ما الذي يحدد مسار الكتابة؟

•• هي الإطار أو الفكرة المغناطيسية أو الأخت الكبرى المسيطرة والتي تذعن لها بقية الأفكار، فتنساب باتجاهها، فعلتها في المجموعة القصصية «تُلقي بالشتاء عالياً» عبر عناوين جانبية لعلامات الشتاء كالبرودة والمطر ودمجها لاحقاً في نهاية النص، عاودت استخدامها في كتاب النصوص «الأشياء الواقفة في غرفة 9» بصورة أخرى ربما أكثر نضجاً، خصوصاً في الجزء الثاني من كتاب «بيت آسيا» ذلك الجزء المشغول بشخصية والدتي وكيف أتعاطى مع رحيلها. الثيمة كانت الحنين الهائل والموجع والحارق لتفاصيل أردت التشبث بها، هي المسار الذي أشرك القارئ بتعدد زوايا النظر إلى تشعبات الطريق.

• الاشتغال على الكتاب كمشروع محدد أم الهمّ العام يفرض موضوعاته في نصوص الكتاب؟

•• لا أستطيع إجابتك على وجه الدقة، سأخبرك بما يسبق حالة الكتابة، وهي أحوال تجلب الغمّ، إذ غالباً ما أشعر أنني أسقط بالكآبة، أو أنني متخمة بالروتين، أو أنني سمكة أحتاج لبحر النص، أو أنني يائسة وأحتاج الإمساك بعبارة متفجرة تزيح الأسمنت اليومي المتراكم، أشعر بإلحاح لا يمكن أن أصرف أطيافه إلاّ بترتيب مسرح الورقة البيضاء، لتظهر الشخصيات وأدوارها، وهنا أبدأ بكتابة ما يهيمن علي فقط وهو ما قد يكون ضمن مشروع كتاب أو خارجه ولا يهم ماعدا ذلك.

• «عتمة الضوء» مجموعة قصصية رائعة ومتفوقة، لكن هل أخذت حقها إعلامياً؟

•• بالنسبة لي أخذت حقها تماماً، عرفتني على الوسط الثقافي الذي رحب بها وأدى ذلك إلى حصولها على جائزة ليلى العثمان في دورتها الأولى عام 2004، لكن ربما لأنها إطلالتي الأولى مع ناشر محلي لم تكن لديه خبرة كافية، ولم يستمر في سوق النشر، ظل انتشارها داخل الكويت دون خارجه علماً أن أحد نصوصها «براءة» تمت ترجمته أخيراً إلى الإسبانية وسيرتحل قريباً إلى الإنجليزية عن طريق جهود ومبادرة الأستاذ «حسين نهابة» الشاعر والمترجم العراقي ومؤسسته «أبجد» الثقافية في طباعة أنطولوجيا للقصة القصيرة فله كل الامتنان.

• «الطائر الأبيض في البلاد الرمادية» رواية متعددة البنى، يمكن للناشئة قراءتها بمفهومهم الخاص رغم رمزيتها العميقة التي تفتح أفقاً للقراء، حدثينا عن هذه التجربة.

•• سأبدأ بما أكرره دائماً بخصوص أن البداية كانت عملاً للأطفال ثم تحول إلى ضفة أخرى مختلفة، عمل يتوجه لأكثر من قارئ، نحبه ككبار لأنه يحيلنا لطفولتنا ويقرأه الناشئة فلا يتعالى عليهم، تحقق ذلك حين قررت الكتابة كما أحب دون قيد آخر، هكذا تنامى الكتاب وتفرعت أغصانه، مضى بانتقالاته لأكثر من فئة قرائية بدلالاتها ورموزها. كان أول المشاريع الذي تعاونت فيها مع لوحات الصديقة الفنانة المميزة «إيناس عمارة» على هذه الشاكلة والكثافة، إذ كان لنا تعاون سابق في كتاب «الأشياء الواقفة في غرفة 9» لم يتعدّ الغلاف الأمامي والخلفي ولوحتين تزينان الفصلين الأول والثاني، أما في الطائر فقد كان التعاون تجاور وتحاور مع الكتابة، كل صفحة لوحة خلقت فضاء لونياً خاصاً وغنياً ومدهشاً، كانت تجربة مغايرة لنا في الرسم والكتابة، كتاب كان وسيلتي للشفاء من آلام مررت بها وكتبته بغبطة.

• «مرصد المتاهة» المجموعة القصصية المشتركة بينك وسوزان خواتمي وأفراح الهندال.. كيف تولدت الفكرة؟

•• نحن صديقات قبل أن نكون كاتبات، قررنا عمل مجموعة «معمل البسكويت»، التي تقوم على الكتابة والنقاش، وقد كان لذلك أثره الجميل في كتاب «الطائر الأبيض» ومشاريع أخرى منها رواية «ربع وقت» لسوزان خواتمي، ثم قررنا أن نقوم بعمل مشترك مبتكر، على أن تحافظ كل منا على أغنية صوتها في نصها، وتمت التجربة باستلال خبر صحفي واقعي نختاره ثم يتم التقاطع معه عبر قصصنا التي خلقناها، وأسفر ذلك عن 18 قصة قصيرة لكتاب «مرصد المتاهة» الصادر عن منشورات «تكوين». كانت تجربة مختلفة وممتعة ومضيئة.

• لك تجربة متكررة في الكتب المشتركة، في الكويت، سلطنة عمان، المملكة الأردنية.. ما الذي تضيفه هذه الإصدارات للمشهد الثقافي؟ وهل يمكن أن تؤثر سلباً على الكاتب؟

•• كل مشاركاتي تأتي لثقتي بالقائمين على هذه المشاريع، سواء كان ذلك بتقدمي للمشاركة أو عبر ترشيحات الأصدقاء لنصي، وكنت محظوظة لتنوع المواضيع، وأحد أبرز المشاركات التي أسعد دوماً بتواجدي بها تتمثل بانضمامي المتكرر في مشروع «امنحني 9 كلمات» الذي تشرف عليه وتعده الصديقة الكاتبة «فتحية الحداد»، التي تستحق كل شكر وتكريم وثناء لجهودها المميزة، وصولاً لعضويتي في مجموعة «معمل البسكويت» وتعاوننا الذي أسفر عن كتاب «مرصد المتاهة». من أهم ميزات هذه الكتب أنها تطلعك على تجارب مجهولة لك وتوصلك بقارئ آخر لا يعرفك. ولكنها لا تغني عن وجود إصدارك الخاص، الذي يعلن عن تجربتك بشكل جلي.

• كتبك صدرت من دور نشر مختلفة، كيف تحددين الدار المناسبة لإصدارك؟

•• أعتقد كشأن أي كاتب يحدد الدار الأقرب لاحتضان نصه، عبر سمعتها في التعامل الراقي مع الكاتب والاهتمام بكتابه بوصوله للقراء بشكل أكثر من جيد وأينما كانوا، وهو ما وجدته في أغلب دور النشر التي صدرت أعمالي من خلالها.

• شهد الوسط الثقافي خسارات أدبية متتابعة.. رافقتها حالة التراجع في الأنشطة الثقافية وانكفاء الكاتب على نفسه، فما البديل؟

•• صحيح ما تفضلت به، لكنني أجد أن الأسباب تعود لفترة سابقة لذلك وإن زادت مع جائحة «كورونا» التي فرضت العزلة، وإذ بات خيار الاستغناء عن الكثير مما تعارفنا عليه ظاهراً منذ دخولنا داخل كبسولات الفضاء الافتراضي، يمكننا زيارة المتاحف، لقاء صديق، حضور محاضرة عن طريق هذا الفضاء، المستمر في تفكيك كافة المشاهد بما فيها الثقافي بعيداً عن صورته السابقة والتقليدية والجائحة عززت ذلك بقوة. نحن روبنسون كروزو الذي لا يرغب بترك جزيرته.

• بين معارض الكتب التي أقيمت بشكلها الاعتيادي مع الاحترازات الصحية ومعرض الكتاب الافتراضي في الكويت الذي أقيم مرتين، أيهما أنسب وأكثر ضرورة برأيك؟

•• أوضح أولاً أنني غاضبة لإلغاء معرض الكتاب وإقامة المعرض الافتراضي الأول، إذ وجدت في الأمر استبدالاً متسرعاً، وأنه كان بالإمكان الانتظار، لكنني قدرت مبادرة مؤسسة التقدم العلمي لاحقاً، وحين تم تكرار ذات المعرض الافتراضي الثاني، انفعلت أكثر؛ لأنني أظن أن المعارض الافتراضية يمكن إقامتها بشكل مستمر، حتى بعد الجائحة، وإن من الضروري إعادة تقييم الوضع وقد توفر الوقت للتفكير بحلول أجدى، خصوصاً أن الكثافة السكانية في الكويت قليلة؛ لذا كان يمكن تشديد الالتزام بالاحترازات، فقد تم عمل انتخابات برلمانية بأعداد أكبر من مرتادي معرض الكتاب، كما يمكن مثلاً حجز مواعيد مسبقة لعدد معين يومياً، أو معرض أقل حجماً يقتصر على دور النشر المحلية ووكالاتها، أو حتى الاستفادة من تجربة معرض الشارقة الذي ألغي ثم أعيد، لكن آفة المؤسسات الثقافية «الركون للتكرار».