عاد تركي الدخيل في ظهور حديث في برنامج «عرب كاست» إلى المساحة التي يعرفها جيداً، مساحة الحديث العميق، والاستدعاء الهادئ للتجربة، والربط بين المعرفة والسيرة.
بدا الرجل كما عرفه متابعوه منذ عقود؛ قارئاً واسع الأفق، متأملاً، يمشي في أفكاره بلا استعجال، ويستعيد محطات من مسيرته الإعلامية والفكرية بلغة رصينة تخلو من الاستعراض، لكنها مشبعة بالخبرة.
غير أن المفارقة المؤسفة أن معظم ردود الفعل لم تتوقف طويلاً عند ما قيل، ولا عند الأفكار التي طُرحت، ولا عند ذلك الخيط الممتد بين الثقافة والإعلام والسياسة الذي لطالما شكّل جوهر تجربة الدخيل. بدلاً من ذلك، انشغل كثيرون بما هو أبعد ما يكون عن صلب الحوار: ملامح الوجه، علامات العمر، وتفسيرات عابرة ذهبت سريعاً إلى التأويل والتشخيص.
ما حدث لا يخص تركي الدخيل وحده، بقدر ما يعكس ظاهرة أوسع في زمن الصورة السريعة والمنصات المتعجلة؛ حيث يُختصر الإنسان في مظهره، وتُهمّش الفكرة لحساب الانطباع، ويُقاس الحضور بما يُرى لا بما يُقال. في هذا السياق، يصبح العمر عبئاً بصرياً لا رصيد خبرة، وتتحول سنوات التراكم المعرفي إلى تفاصيل ثانوية أمام عدسة لا ترحم.
تركي الدخيل، في المقابل، لم يقدّم نفسه في اللقاء بوصفه «نجماً» يسعى لإثبات حضور، بل كمثقف يتحدث من موقع التجربة. رجلٌ تغيّره السنوات كما تغيّر الجميع، لكنها لا تنتقص من قدرته على التحليل، ولا من عمق معرفته، ولا من حضوره الذهني. بل لعل تلك الملامح التي شغلت البعض، هي ذاتها شاهد صامت على رحلة طويلة في العمل بين الإعلام والفكر والدبلوماسية.
اللافت أن من تابع الحوار بإنصاف، يدرك أن ما قُدّم كان مادة غنية للنقاش: أسئلة عن التحولات الإعلامية، التجربة الدبلوماسية، التاريخ، الكتابة، الثقافة، وعن معنى الظهور، وعن حياة الدخيل. لكنها أسئلة ضاعت وسط ضجيج السطح.
ولم يكن تركي الدخيل يوماً شخصية عابرة في المشهد الإعلامي والثقافي السعودي والعربي. على امتداد مسيرته، قدّم نفسه بوصفه مثقفاً قبل أن يكون إعلامياً، قارئاً نهماً، وصاحب حضور فكري تشكّل بين الصحافة، والنشر، والعمل العام. عرفه الجمهور من خلال برامجه الحوارية ومقالاته وكتبه، حيث ظل سؤال الفكرة حاضراً، حتى في أكثر اللحظات ارتباطاً بالحدث السياسي أو الإعلامي الساخن.
وعبر سنوات طويلة، تنقّل الدخيل بين أدوار مختلفة، من العمل الصحفي والإعلامي إلى التمثيل الدبلوماسي. وكان حضوره قائماً على التراكم والهدوء، وعلى قناعة بأن المعرفة لا تُقاس باللحظة، بل بما تتركه من أثر طويل المدى. وهو ما يجعل اختزال تجربة بهذا الامتداد في مظهر عابر، قراءة قاصرة لا تسيء إلى صاحبها بقدر ما تكشف عن أزمة أوسع في طريقة التلقي نفسها.
في مشهد كهذا، لا يبدو تركي الدخيل في حاجة إلى دفاع بقدر ما تبدو الفكرة نفسها في حاجة إلى إنصاف. فالمعرفة لا تُقاس بلحظة عابرة، ولا تُختزل في صورة، بل بما راكمته من أثر عبر الزمن. وبين ما يُقال وما يُلتقط، تبقى التجربة الأعمق أقل ضجيجاً، لكنها الأكثر بقاءً.