سليمان الفليح.. ابن الصحراء الذي لم يغادر ذاكرة محبي الشعر.
سليمان الفليح.. ابن الصحراء الذي لم يغادر ذاكرة محبي الشعر.
سليمان الفليح
سليمان الفليح
عبدالله عبيد
عبدالله عبيد
شتيوي الغيثي
شتيوي الغيثي
طارق الصميلي
طارق الصميلي
-A +A
علي فايع (أبها) @alma3e
تحلّ اليوم 21 أغسطس الذكرى التاسعة لرحيل الشاعر سليمان الفليّح المولود - كما قال بحسب رواة القبيلة - بين 1951 م - 1952 م في الحدود الشمالية للمملكة العربية السعودية، وتحديداً في صحراء الحماد التي تتقاسمها جغرافياً عدة دول عربية هي المملكة والعراق والأردن وسورية، وضعته أمّه تحت شجيرة في الصحراء، ولفّته بطرف عباءتها، ثم سارت تغني في ركب القبيلة الضاعنة نحو حدود الغيم بحثاً عن الكلأ والماء.

عاش الفليّح - بحسب ويكيبيديا - طفولة بائسة بين رعي صغار الغنم، ورعي الضأن، ورعي عدة نوق عجفاء، وهي آخر ما تبقى لأهله - كما قال - بعد سنوات متوالية من الجدب والقحط والجوع.


يستعيده نقاد وشعراء سعوديون شباب اليوم بوصفه الشاعر السعودي الأحق بأن نباهي به دول المركز سابقا وباقي المحيط العربي، لأنّه - كما يعتقد هؤلاء الشباب - أبو قصيدة التفعيلة السعودية التي تحمل هوية لا تشبه هوية أخرى.

في طفولة الفليّح الذي مات أبوه بسبب الظروف وفقر الدم وداء السلّ تزوجت أمه من رجل آخر، وتعهد خاله سكران بن لافي بتربيته، فكان – كما قال الفليّح - أكرم الرجال، وأطيبهم معشراً.

في معية الصبا والشباب عاد سليمان الفليّح إلى قبيلته التي طوت خيام الترحال، وتوزعت بين المملكة والكويت لتستقر نهائياً في هذين البلدين، أما هو فقد التحق بالجيش الكويتي منذ عام 1970 م إلى أن تقاعد في أوائل 1997 م، وتدرّب خلال تلك المدة على العمل الصحفي في جريدة السياسة الكويتية، وكتب أولى مقالاته (هذرولوجيا) فيها، كما عمل صحفياً ومراسلاً حربياً لفترات وجيزة على الجبهتين المصرية والسورية خلال حرب الاستنزاف 1971 – 1973م، إضافة إلى كتابته للعديد من الصحف والمجلات السعودية والكويتية.

صدرت لسليمان الفليّح العديد من الدواوين الشعرية، وكتبت عنه دراسات أدبية وأكاديمية عديدة، فيما ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات كالإنجليزية والفرنسية.

///////

الغياب القاسي لقصيدة الفليّح

عبدالله عبيد - شاعر وروائي ومترجم، يمكنُ للحياة أن تتفادى الموت إن أرادتْ، أو أنْ تقارعهُ، وربما تحرمه من مهنته الأبدية، إلا أنها لا تستطيع تفادي شاعر يصرخُ في برية الله. أقول هذا وأنا أتعجبُ من تفادي المشهد الشعري، والثقافي السعودي للشاعر الراحل سليمان الفليح بطريقة تدعوني للرثاء البارد لهذا المشهد الذي يتنكر لفكرة الأصالة الشعرية. فحيث تزدحم المدونة النقدية بقصص أبطال الحداثة، وتجترها بطريقة سينمائية مملّة تتجاهل تجربة الفليح الكبيرة، هذه التجربة التي قدمت النص الجديد، باعتبارها جزءًا لا يستطيع الفكاك عن محيطه العربي، غير متناسية رائحة الخيمة، أو صوت الربابة، بل حاملة الشخصية البدوية بكل تعلاتها، وحسناتها إلى أفق آخر، عبّرتْ عنهُ التجربة بكل عُرْيٍ، وحريةٍ، وصدق. لقد حمل الفليح المكان، والزمان في شعره، حمل كل الموجودات التي تفاعل معها لتكون تجربته الشعرية تعبيرًا عن هذا التفاعل الخاص، والمميز بينه وبينها. وظل يراوح في تعبيره هذا بين الكتابة المقالية والشعرية، فصيحةً كانت أم نبطية. إنه من نافلة القول أن نذكر بأن المزاج النقدي في الأساس، يظل محكوما بالذائقة، وهذا ما لا يمكن إنكارهُ. ولكن المزاج النقدي، قد يتعمد أن يتجاهل تجربة مميزة لأسباب لا علاقة لها بالفعل النقدي، لكنه لا يستطيع أن يتفادى تجربة كبيرة ومؤثرة كتجربة الفليّح، إلا عن جهل وعدم مواكبة لما يُنشر، أو أن المزاج النقدي العام يخضع لما هو خارج النص بالدرجة الأساس ولا يُعنى بقراءة التجارب الإبداعية لذاتها؟ هناك اتهام كلاسيكي يوجهه عدد لا بأس به من الشعراء دائما، للفاعلين في الحركة الشعرية والثقافية، يتلخص في فكرة «الشللية» التي أتحفظ تجاهها شخصيا، فكل من لم ينل حظه من الحضور الشعري، عزا السبب إلى كل شيء عدا نصه، وهذا لا يعني وجود بعض الحالات التي حصلت على الضوء بعد وقت طويل من الإهمال، والتجاهل. لكنني بدوري أود في هذه المساحة مساءلة جدوى التكريس في النقد الأدبي الذي يعنى بالشعر السعودي المعاصر. أعني ذلك الذي يتحدث عن جماليات القصيدة السعودية الحديثة، ويبحث في سماتها. دون أن يضع الأسئلة الأهم في نظري على الشعر والشاعر السعودي. عن ماذا يكتب الشاعر السعودي؟ ما الذي يمنح القصيدة السعودية ثوبها؟ هل أبدو مغاليا عندما أطرح أسئلة كهذه على التجربة الأدبية السعودية وأحاول قياس مخرجاتها وفقا لمدى إجابتها على هذين السؤالين؟ ثم هل انفتاح الشاعر على الكتابة في ألوانٍ أخرى يحد من أهمية المنجز الشعري، أم يضيف للتجربة ثراءً، وتنوعاً؟ إن تجربة الفليح امتدّتْ لتصل الشعر النبطي، والكتابة السياسية، وحتى اليومية. ولعلي أسأل هنا هل أكلتْ المساحات الأخرى التي حاول الفليح طرقها حصته من حضوره الشعري؟ لماذا لم تلمع قصيدته كما لمعت قصائد مجايليه؟ إنني في ذكرى رحيله هذه لا أود أن أكون عاطفيًا بقدر ما أود أن أكون منحازًا، لعمق تجربته التي أدهشتني شخصيًا، والتي أستغل هذه المساحة إلى الدعوة إلى إعادة قراءتها وفق سياقها التاريخي، وتقييمها إلى جانب تجربة القصيدة الحديثة، وتطورها في المملكة العربية السعودية. هناك زعم يشاركني فيه الكثير من زملائي الشعراء المجايلين لي يتلخص في أنّ الشاعر السعودي بعد أن انتهى من التعبير المحافظ، اتجه للتعبير الرومانسي، وعندما تلقف حركة قصيدة التفعيلة، حاولتْ بعض الأسماء فيه كتابة القصيدة الرمزية كما في بعض أعمال «سعد الحميدين» و«محمد العلي» ثم ظل يراوح ضمن مستويات مختلفة في التعبير عن قلقه وهواجسه، بطريقة جعلت الكثير من الشعراء متطابقين، سواءً في استخدام المفردات، أو في الاستفادة من دلالاتها كالـ«مرآة، والطين، والناي، وغيرها». وضمن هذا المستوى ظهرتْ تجارب حاولت منح القصيدة السعودية ثوبا يميزها، مستثمرة عناصر المكان، مستخدمة الصحراء، والنخل، والشيح، والخيمة وكل العناصر التي تشير إلى سمة البداوة في الشعر، ولسان حالها كما قال الشاعر القديم: «وفي البداوة حسن غير مجلوبِ» حاملةً في نصها ذات القلق الوجودي المشترك، دون أن تظهر سمات جادة تميز التجارب الشعرية عن بعضها، هذا مع الإشارة إلى بعض الأصوات التي حاولت التغريد بعيدًا عن أسلافها، وقامت بمراكمة رصيد يستحق الاحترام، وسنتعرض لها في وقت آخر. إن المفارقة المثيرة للسخرية تكمن في أن الشعراء في المحيط العربي كانوا يمرون بتقلبات سياسية، واجتماعية، وتراجيدية جعلتْ الكثير منهم ينشد الاستقرار ليتفرغ لمشروعه الشعري، باعتبار الاستقرار، والأمن سيدفع تجربته الإبداعية إلى مناطق لن يصلها وهو يعيش الاضطراب. بينما الشاعر الذي ظل ينعم بوضع سياسي واقتصادي واجتماعي مستقر ودافعٍ للنظر في التجربة الإبداعية بهدوء، ودون منغصات، ظل يبحث عن موضوع لتجربته الشعرية، وهذا الأمر ليس انتقاصًا للعملية الإبداعية لكثيرٍ من الشعراء الرائعين لدينا، ولكنه سؤال للنقد الأدبي السعودي، لماذا غفل عن دراسة جوهر مشكلة التعبير الشعري في السعودية؟ والتي نجا منها الشاعر سليمان الفليح، الذي أزعم بمقالي هذا أنه استطاع الإجابة عن سؤال مضمون التجربة الشعرية كشاعر سعودي في المقام الأول، وشاعر عربي يعرف متى يتفاعل مع الهم المشترك، ويعرف متى يعبر عن الجواني. فإننا نجد في تجربة الفليح، والتي أدعو فيها إلى الالتفات إلى طرائق تعامله مع الرموز التراثية التي تنتمي للجزيرة العربية، واستنطاقه للمظاهر التي شكّلتْ وعيه، وثقافته، التعبير الأصيل، والبعيد عن التكلف، والافتعال لدى الفليح جليا في نصوصه عبر اتكائه على عناصر المكان الصحراوي التي تحدثنا عنها لكن مع منحها دلالات مختلفة، وإيحاءاتٍ جديدة. وبالعودة للسياق الزمني الذي أرّختْ فيه نصوصه، فإنني أراه سابقا للعديد من الأسماء التي تم تكريسها لنا كآباء للقصيدة الحديثة في السعودية. وأعود لأسأل في خاتمة هذا المقال: كيف غفل النقد السعودي عن شاعر سعودي بقيمة سليمان الفليح؟ داعيًا وزارة الثقافة ممثلة بهيئة الأدب والنشر والترجمة لإعادة طباعة أعماله الكاملة تكريمًا لهذا الشاعر العظيم الذي رحل في الـ21 من أغسطس من عام 2013 تاركًا خلفه صوت ربابته الشعرية شاهدا على غياب قصيدته القاسي. نقرأ من ديوانه «أحزان البدو الرحل»: «يعذبني أن غيما كثيفا إذا اعتم القلب و(اغتم) يأتي بذهني كثيفا كثيفًا بطيءْ.. ويحزنني أن رعدا يهز جبال العذاب بقلبي..عنيفًا.. عنيفا يجيءْ.. ويقتلني أن برقا يشع بصحراء روحي.. ولكنه لا يضيءْ».

////////

بداوة الفليّح والوعي الشعري الحداثي

شتيوي الغيثي

لا أعرف شاعراً سعودياً يكتب القصيدة الحداثية الفصيحة أكثر بداوة من سليمان الفليح (رحمه الله) وكل الشعراء الذين استهدفوا هذه الثيمة الشعرية جاؤوا متأخرين عنه، فهو الذي فتح باب الوعي الشعري الحداثي على الاشتغالات البدوية بوصفها اشتغالات رمزية وشعرية يمكن الوقوف عليها، ليس بوصفها موضوعاً شعرياً فحسب وإنما وعي بأهمية الانطلاق من الذات الشعرية رغم الإمكانات التي تتيحها الحداثة الشعرية في وقته إلى آفاق أوسع، لكنه فضّل أن تبقى القصيدة لديه قصيدة بدوية مع كل تلك الحداثة التي انطلق منها في صياغة تراكيبه الشعرية؛ خصوصا إذا ما عرفنا أن هذا الوعي كان مبكراً جداً منذ منتصف السبعينات التي بالكاد خطت الحداثة السعودية الشعرية خطواتها نحو التجديد الشعري، إلا أن الفليح كان أكثر وعياً بهذه الحداثة في وقت أبكر دون التخلي عن المضامين البدوية رغم محاولات التجديد على مستوى الصورة والتراكيب والشكل الشعري.

وأظنّ أن هذا الوعي المبكر لسؤال الحداثة الشعرية في وقته في محاولاته الانطلاق من الذات الشعرية البدوية -التي جاءت لاحقاً كواحدة من أهم الهويات التي يتكئ عليها شعراء الحداثة السعودية في الثمانينات- كانت نتيجة اتصاله الواعي بمراكز الشعرية العربية الحضرية في العراق ولبنان ومصر وغيرها كونه عاش في الكويت فترة من الزمن، مما جعله يعيد التفكير في الحداثة نفسها وفي البداوة كذلك، لتخرج لنا تركيبة شعرية عجيبة في وقته سميتها: «حداثة البدوي» في دراسة سابقة عنه، على اعتبار أن ما جاء به الفليح يصب عميقاً في مفهوم الشعرية الحداثية رغم اتكائه على البداوة، وهذا الاتكاء نراه واحداً من أهم الأساسات الحداثية التي ركز عليها الشعراء السعوديون من بعده بسنوات.

وبرغم عدم الالتفات النقدي السعودي لتجربة الفليّح لأسباب لا أدري عنها صراحة، ولا أدري عن دوافعها أو مشكلاتها، إلا أنه قدّم رؤية شعرية مختلفة ربما لم يسبقه عليها أحد من قبل، ولا أريد أن أجزم في ذلك لعدم توفّر الشواهد والأدلة، ولكن أظن أن عدداً من الشعراء السعوديين فترة الحداثة لابد وأن اطلعوا على تجربته لمدى تقارب الرؤية أحياناً، وفي تصوري أن ما قدمه من تجربة تكاد تكون فريدة؛ لا على مستوى الفترة الزمنية التي كتب بها، ولا حتى على مستوى الرؤية الشعرية نفسها التي كانت شديدة الخصوصية بالاعتماد على المعطيات التي يمتلكها تجعله مختلفاً عن غيره في عموم الشعر السعودي أو الخليجي بشكل عام.. أقول ذلك وعيني على مجمل تجربة الشعراء السعوديين في فترة السبعينات، فعلى رغم حضور الشعرية الحداثية في تلك الفترة إلا أنها كانت تجربة حضرية أو لم تتكئ إلا على هويات لم تكن البداوة من ضمنها رغم تجاور البداوة والتحضر في الجزيرة العربية؛ وحده الفليّح كان متفرداً في هويته البدوية التي لم يُلتفت إليها نقدياً رغم كل ما تمتلكه التجربة من عمق الرؤية وطرافة التناول، وحينما قدّمت الثمانينات رؤية حداثية أخرى، ودمجت معها البداوة أو الصحراء بوصفهما هوية شعرية تاريخية وجغرافية كُتب عنها الكثير أو قُدّمت بوصفها رؤى حداثية بعيدة الغور، لكن بقيت تجربته تقبع وحيدة هناك في الظل أمام أسماء أخرى برز حضورها رغم أسبقية التجربة التي قدمها سليمان الفليح (رحمه الله).

لم يكن الوعي الشعري لدى تجربته وعياً عادياً حتى يتم تجاهلها نقدياً؛ بل كانت تجربة شديدة العمق في مدى النظر إلى الذات الشعرية وما يمكن أن تمتلكه من هوية شعرية خاصة، والتي رآها الفليّح في الحالة الشعرية الأقرب إلى وجدانه وفكره وأرضه وتاريخه وحياته، وكأن قراءة تجربته هي قراءة لتجربة التاريخ الثقافي في الجزيرة العربية التي امتزجت فيها الحداثة بالبداوة وهذا ما يجعل لتجربة الرجل فرادة ربما لم تتحقق لغيره، على الأقل في تلك الفترة المبكرة من الوعي الشعري السعودي، ولنقرأ هنا نموذجاً شعرياً من تلك النماذج التي قدمها، يقول:

أيها الولد البدوي

إيتنا بالربابهْ

وغنّ لنا _ يا طويل البقا _ ما ينحي الكآبهْ

وتأنّ قليلاً بلحنك

إنّ السماء ملبدةٌ بالعقارب

والليل يرخي حجابهْ

ونحن سنسهرُ حتى الصباح نعيد حديث الصعاليك

نأرقُ

إن نام كلّ خليّ وأوصد بابهْ

نحتسي (تمرتنا)

ونقاسم كل خليّ بهذا الزمان عذابهْ

وأعتقد أن أول من استدعى صورة الربابة في الحداثة الشعرية السعودية هو الفليّح، ولعل هذا يذكرنا جميعاً ببعض تلك الصور التي قدمها الشعراء السعوديون من بعده، لكن هذا الاستدعاء لم يكن استدعاءً بشكل مباشر حتى يكون الوعي الشعري به وعياً مباشراً وغير جدير بالالتفات؛ بل يذهب أعمق إلى تلك الرؤية التي تحاول التواصل مع التاريخ الشعري العربي بأكمله فيقول في نفس القصيدة:

غنّ لي _ أيها الولد البدويّ _

فثلجٌ تراكم في الروح منذ سنين

يريد الإذابهْ

وحادي القوافي تغرّبَ عنّي طويلاً

إلى أن مللتُ فطال اغترابهْ

أضئني فإني لمحتُ بناركَ

عروة، والشنفرى، والسليكْ

وابن الغرابهْ

تبارك شجوك

إني ثملتُ بهذا الأنين الأليفِ

رحلتُ لكل العصورِ

انتبهتُ لضوء الصباح الجديد

فتحت ذراعيّ للفجر

قلت هلا بهْ

وأظن أن فكرة حادي القوافي وفكرة الصعاليك واحدة من تلك الاشتغالات الشعرية التي ارتكز عليها شعراء الحداثة السعوديون فيما بعد، في حين أن الفليّح كان يتعاطى مع هذه الشعرية برؤية مبكرة تجعل منه شاعراً حداثياً بامتياز رغم بداوته الأصيلة شعرياً، حتى أن حضور الصحراء كان حضوراً مختلفاً لديه يشي بوعي شعري خاص، ويطول الحديث حول هذه الموضوع لعمق الرؤية تجاه الصحراء التي قدمها سواء على المستوى الجغرافي أو حتى على مستوى الرمزية التي تحضر لديه؛ فضلاً عن الحديث عن الصعاليك الذين كثيراً ما استدعاهم في شعره بوصفهم شخصيات شديدة التأثير في الشعرية العربية القديمة، وهذا الاستدعاء لهم تحديداُ يفضي إلى وعي شعري سابق لدى الفليّح.

في الأخير.. لا أعتقد أن تجربة الفليّح كانت تستحق ذلك الإهمال النقدي لما فيها من رؤى كان يجب -في تصوري- الوقوف عندها طويلاً وتجليتها وإبرازها للأجيال التي ربما لم تعرفه إلا كاتباً شعبياً، رغم كل ما يمتلكه من حداثة لا تقل عن الحداثات الشعرية التي كُتب عنها الكثير وما زال يُكتب.

///////

سادن الصحراء

طارق الصميلي

«إلى البدويِّ الأخير

سليمان الفليح»

علِقتْ بهِ الصحراء عند ذهابِهِ

لن تفهمي يا بيدُ كُنْهَ غيابِهِ

ماضٍ وعرس الرمل يطفئُ بعده أفراحه

ويضيءُ ناي عذابِهِ

لم تعرف الصحراء بعد رحيله

حزنا سوى جعلته من أسبابهِ

أجرى عذوبته لها نهَرا

ولم يبخل على أحلامها بسحابِهِ

فكأنها المرآةُ

تعكس جنَّةً في الغيبِ

لم تعبر سوى من بابِهِ

وأباح للتاريخ سر خلودِهِ وخلودِها

ليكون من كُتّابِهِ

في صدره «أحزان بدوٍ رحّلٍ»

والحزن مجبولٌ على أصحابِهِ

لم يُغْرِهِ لحن المدينة

إنّما أشجى ربابته وهيّج مابهِ

فَرَثَى صعاليك الجزيرة كلّهم

هم وحدهم سَيَعُونَ حجم مُصابِهِ

ومضى لخيمته يشد حبالها

ويقيم دلّته على مشهابِهِ

والعابرون تبخَّروا من طيبه

وتقاسموا ما فاض من أنخابِهِ

وأنا أتيتُ إليه تجمع بيننا نَسَبا

ملامح حزننا المتشابِهِ