عرفت الدكتور عبدالله الغذامي فاعلاً في المشهد الثقافي قبل أكثر من ثلاثين عاماً، عندما اشتدّت عليه رماح محاربي ظاهرة (الحداثة) في الصحافة الثقافية، فهرعت إلى مكتبة جامعة الملك سعود أقرأ كتابه (الخطيئة والتكفير)، الذي جعله حول النظرية النقدية، وتطبيقاً ‏لقراءة نموذج إنساني في شعر حمزة شحاتة؛ لأجد أن الخطيئة لا علاقة لها بالذنوب، والتكفير يتحدث عن النقد الأدبي والنظرية التشريحية والبنيوية، وانتهت محاكمتي الشخصية السريعة له آنذاك بتبرئته ومحبته، ومن حينها وأنا أتتبع إنتاجه وأخباره وما أكثرها وما أكثر معاركه وأنصاره وخصومه.

وعندما عزمت على الكتابة عن الغذامي قبل نحو عام ونصف العام، ضمن الشخصيات السعودية الثقافية الناجحة، وبدأت في البحث عن تفاصيل سيرته، وجمع ما كتب (أستاذ النظرية) ومُعلِن موت النقد الأدبي بعد سنوات من إصداره (الخطيئة والتكفير)، محتفلاً بمولوده الجديد المثير (النقد الثقافي)، الذي أصبح شاباً وسيماً مبهراً؛ هالني القدر الكبير من مئات المقالات والاعتراضات والموافقات، والدراسات والبحوث التي أثارها (منهج الغذامي) وكتبه ومقالاته طوال تلك السنوات، وحديثه المتأخر نوعاً ما عن الأنساق الثقافية وتأليفه عنها، وعن المرأة واللغة والهوية وتفكيك مفهوم النقد الثقافي، وكثرة من يختلف معه، ومن يوافقه ويحبه أيضاً، ليس على المستوى المحلي فقط بل إقليمياً وعربياً، ثم توقفت عن الكتابة حينها تقريباً، عنه وعن غيره، لأسباب صحية تخصني وتحثني على تجنب غبار المعارك مهما كان.

ولعل هذا الصدى المتباين -دوماً- من أطراف مختلفة، بعضها حول شخصيته وأخرى حول ما يكتب -على ما يبدو- هو ما جعله، وهو الكاره للرتابة، يستمتع منذ عام ٢٠٠٠م بهذه المناوشات والمماحكات والدراسات والإسقاطات، ويستمر في ما شعر به فتحاً جديداً للخروج عن النص وغوصاً في قراءة التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، وتجاوزاً وتحليلاً لرمزية النسق، برز فيها متحدياً ومتجاوزاً الجميع، ممن جايله في الساحة الثقافية التي كانت تنشط في الملاحق الثقافية للصحف الورقية قبل أن تهرم، وأكثرها شراسة -آنذاك- نقاشه مع (أدونيس)، الذي كان يسميه صديقي، رغم قسوته عليه، وانتهاءً بالعديد من الخصوم الذين لا ينتهون!

ومع ذلك استمر تجلد الغذامي وصلابته في الحوار، ونشاطه ودفاعه عن (نظريته) فهو: أستاذ النظرية وأستاذ الأدب وأستاذ النقد الثقافي وأستاذ الأنساق.

والمتتبع لسيرة الغذامي يستنتج مسايرته الساحة النقدية الحديثة منذ ظهور (الحداثة) كنوع أدبي في السعودية اصطدم مع التيارات الأدبية والدينية، المعتدلة والمتطرفة، ومع ذلك جاوز زملاءه في الساحة، وفي النادي الأدبي، وفي الجامعة، وفي المشهد الثقافي والأدبي السعودي، وانطلق (يجوب في المناهج القرائية من أجل مقاربة الظاهرة النصية، في زمن المابعديات الذي ألغى جميع الحواجز والفوارق، وما تخفيه من أنساق مضمرة، جعلته يعلن ضرورة موت النقد الأدبي وميلاد النقد الثقافي، كبديل منهجي ومعرفي داخل الخطابات المهيمنة للذكورة والفحولة الثقافية)، شرحها في كتبه الأخيرة المتلاحقة !

وبرر الغذامي انتقال منهجه من النقد الألسني إلى النقد الثقافي، بأن النقد الأدبي أصيب بالعمى الثقافي في اكتشاف الأنساق المضمرة المختبئة تحت عباءة الجمالي (الخطاب الشعري والبلاغي) حتى أصبحت هذه العيوب النسقية متحكمة في ذواتنا وسلوكياتنا.

وليس (النقد الأدبي) أول الميتين، فقد بدأت لعبة إعدام الأنساق منذ أعلن الناقد الفرنسي رولان بارت عام 1968م موت الكاتب، وهي دعوة إلى عدم التركيز على المؤلف، أو القصد من النص، ثم بعد نحو عقدين ظهرت الأقوال التي أعلنت موت العديد من الفنون، كموت النقد الأدبي وظهور النقد الثقافي، وهو ذلك الموت الذي لا يتردد زميله أستاذ الأدب الإنجليزي الدكتور سعد البازعي الشخصية السعودية العربية الرصينة والمشهورة بالجدية في وصفه: بالموضة التي تنشأ بعيداً عن المسالك المؤدية للمعرفة، منتقداً ما يطرحه الغذامي.

والغذامي يتهم الجماليات بأنها خداعة ومراوغة، وقد يتوهم المبدع أن الجمالية وحدها تجعله متجاوزاً، وحينها يقع في التقليدية دون وعي منه، مبرراً أن النقد الثقافي -والحديث للغذامي- هو المنهج الكاشف لهذه المخاتلات، واصفاً (أدونيس) بأنه (رجعي)، ولم تغنه جماليات نصوصه أن يكون حداثياً إلا بحداثة مزورة لا يكشفها النقد الأدبي، ولكن النقد الثقافي يعريها ويفضحها، وهنا الفارق -والكلام لا يزال للغذامي- بين أن تخدعنا الجماليات أو نضعها في مشرحة التحليل الناقد ونكشف قبحيات الجميل.

ورغم هذه المعارك والاختلافات عُرف عن (أبي غادة) شخصيته العلمية القوية النبيلة، والفكر المشاكس المتقبل للاختلاف، والمنهج البحثي الذي يتلمس الضوء والجدادة وتفكيك النصوص وهندسة الأنساق في مشروع النقد الثقافي الذي أصبح الآن مضماراً للبحوث الجامعية وللرسائل، وهو النقد المختلف في مفاهيميته وإجراءاته.

والنقد الثقافي الذي بدأ كمنهج في الغرب أصبح يمثل ضرورةً عصريةً وتحولاً معرفياً ومن ثم يقدّم وظيفة مختلفة للتحليل والكشف والحفر عن النسقيات الثقافية.

والقضية ليست وليدة اليوم فقد ألف الدكتور عبدالله الغذامي والدكتور عبدالنبي اصطيف منذ عام ٢٠٠٤م كتاباً عن هذا الاختلاف في وظيفة النقدين الحيّ منهما والميت، ويعرض الكتاب حواراً بينهما، في موضوع النقد الثقافي والنقد الأدبي، ويعلن الغذامي فيه موت النقد الأدبي، ليحل النقد الثقافي بديلاً منهجياً عنه، ويرى (اصطيف) تفرد الأدبي أيضاً وأن له مسوغات وجوده، ويبين أنه لم يخفق في تأدية وظائفه ومهاراته ليستعاض عنه بالنقد الثقافي.

‏وقد ارتبطت الدعوة إلى النقد الثقافي في المشهد النقدي العربي المعاصر بالدكتور عبدالله الغذامي، من خلال كتابه «النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية» (2000م)،‏ (يدعو فيه إلى تنصيب النقد الثقافي ليكون الوريث الطبيعي للنقد الأدبي واستلام سلطته الأبوية على الأذواق، ومحاورتها لا من منطلق معرفة سابقة، تريد أن تكرر ذاتها، فيما هو طارئ، ومتطوّر بل من منطلق فضول سابق، يريد تأسيس معرفة عن ذلك الطارئ والمتطوّر).

والخلاصة أن شخصية الدكتور عبدالله الغذامي كمثقف وكأديب وناقد وقارئ للأنساق وفقه التغيير الاجتماعي رغم اتهامه بالتلون وفق المشهد صارت وجهاً مألوفاً لقراءة التغيرات بشتى أنواعها وأكثر رحابة لفهم النصوص والأذواق والثقافات والتغيرات الاجتماعية، تشهد على ذلك عشرات المؤلفات والبحوث بعناوين فصولها المختلفة جداً، والمستفزة للعقل، النائية عن الرتابة.

أمّا الغذامي نفسه فهو هو لم يتغير بدعوته إلى (الاستقلالية) في التفكير، وحرية التعبير، وإبقاء مساحة للاختلاف واقتناص متعة المواجهة، خصوصاً للنخبة المثقفة التي ملّت غثاء برامج التواصل الاجتماعي، ودروشة كثيرين يتلذذون (بتصنيم المشاهير) الذين أصبحوا نسقاً مؤثراً في الفراغ!

وما زال الغذامي، رغم ما يلحقه من أذى أحياناً، بطل المشهد الثقافي في زمن صار فيه وجود أمثاله من الأساتذة المؤثرين فرصةً كبيرة للاستفادة من تجاربهم وفكرهم ونتاجهم، حتى لو أفسد الخلافُ للود والنقد قضية، وظل زامر الحيّ في حيّه لا يُطرب ولا يُعجب!