-A +A
عادل حوشان
قبل اليوم الأخير من الحرب

اليوم تنتهي آخر الحروب التي خضناها معاً..


15 عاماً وأنا ألبس حذائي عن الأفاعي، ألبسه مقلوباً وأنسى تعديل خوذتي كما يليق بجنديّ معطوب..

أشعر بالجوع أحياناً، وأترك النوم مكوماً تحت شجرة، دون أن يكترث بيقظتي الدائمة ولا بعينيّ المحمرتين من الغناء

رتّبت القصائد التي سألقيها في حضرة الموتى

المنديل الذي سأمسح به زجاج الوجوه

أعدت حفظ النهايات

زجاجات النبيذ أغلقتها

ألبست صاحبتي قميصها المرقّط

و........ حضنتها بينما كنت أدسّ في جيبها مسدساً يجيد شمّ رائحة الهزائم تفوح من قلوب الجُبناء

تركتها تسبقني ريثما أنهي آخر الصلوات التي سبقتني بها.

أعرف أن الطريق أطول من المتوقّع، وأنها خائفة

حاولت نسيان ذلك وأنا أضع على وجهي ثلاث كلمات بشكلٍ طوليّ

تذكّرت أنها مسحت دم أحد الموتى لأن أمّه يتيمة، وأعطت أحد الأطفال قطعة من فيلمٍ استثنائي.

الطفل الذي وجدَته بجانب أخيه قبل أن تهرب يده إلى السماء، تذكّرت أيضاً أنها بنت بيتاً لعائلة من ثلاث أخوات في ستة أيام، كنت قد ذبحت أبيهم قبل أن يطعنَ ظهرها، وتذكّرت حقيبة الإسعافات الأولية التي تحملها في قلبها.

حملت أمتعتي وأخذت الطريق من يده.

أول الحرب

لم أسمع دويّ الرصاص

حاولت أن أعيد صياغة «تكنيك» الصوت واستعنت بما قاله له صديقي الميكانيكي دون جدوى

توقيت الساعة «مضبوط» حسب آخر مكالمة تلقيناها من غرفة التحكّم

ويفترض أن أول رصاصة قد أطلقت قبل ثانيتين

الرصاصة التي لن تصيب أحداً حسب الخطة

يعقبها إفراغ مخزن السلاح الآلي في بقعة ضوء

لا خطأ في التوقيت ولا في المكان ولا في الأعداء الذين كتبنا أسماءهم وأسماء عائلاتهم واحداً واحداً

ظهر صاحبتي غائمٌ في ضباب كثيف

الرؤية أعدِمت في زنزانة ضيّقة، سمعت الطلقات باتجاهها

كنت مستعداً... بمشيتي شبه العسكريّة، تمرّنت عليها لساعتين قبل أن يقبض عليّ وقتٌ قصيرٌ أعرج

وضع في فمي كاتمَ صوت. رأيت رتبته العسكريّة «كولونيل»

راقب بصري وهو يدسّ في يدي ليلاً كاملاً

عيناه تلمعان بينما يعطيني ظهره حينما يتكلّم عبر جهاز الاتصال اللاسلكي

راقبت ظهره المتين، راقبته طويلاً ونبرة صوته، راقبته جيداً محاولاً إعادة تمارين اليوغا التي لا أعرفها

يدي تأكلُ قميصاً ليس لي

فمي فاتحٌ يخرجُ الندمَ مِنه

دخّنت عطباً قديماً في التاريخ

ابتلعت عبارة لم أفهمها

عددتُ النيران التي أشعلتها في جثث خائفة

حاولت نزع صوتي من مكانه

جيوشٌ تطارد فكرة واحدة تسرّبت من أكمامي

فقدت النّفس قبل أن أشعر بيد الكولونيل تمدّ لي قبضتها ملفوفة بورق خشن

منتصف الحرب

...واقفاً ومتروكاً بعينين ناقصتين

جلست مرتين أو ثلاثاً

كنت أرى العيون تتحرك رغم العتمة

بجانبي قنينة عشب

أنصتُ لأصوات أعدائي من خلال ثقب أسود لا يسمح سوى بسماع الصوت خلف جدار يفرك نفسه

كانوا ثلاثة بالضبط...

صاحب الأسنان الاصطناعية يتجه يميناً، الآخر بلكنة مصطنعة في المنتصف، وأسوأ الثلاثة، الكبير بالسن، تفوح منه رائحة نفايات، انحنى يساراً....جلسوا، ثم قاموا...حكوا عن قلبي طويلاً قبل أن يلمعوا رصاصاتهم

فرّش الأسوأ أسنانه بغراب ميّت

أخرج صاحب الأسنان إصبعه من مكانٍ ما

أما صاحب اللكنة فـ... بكى

اصطف الثلاثة على جذعٍ ميّت يلتهمون دوداً يخرجُ من أعينهم

جذعٌ كدت أن أرى نهايته لولا أن الهواء تعمّد ألا يتحرك من مكانه

اختلطت أصوات الثلاثة بينما سمعت صوت صاحبتي تمدّ فوهة المسدّس باتجاه أسوأ الثلاثة

ريقها ناشفٌ، يداها ناعمتان، قطنها نائمٌ، يدها...

شعرت بارتجافها بينما كنت أبعد الأفاعي عن حذائي

التفت، خفتُ، خرجت و...عُدت...

ريثما انتهَت من قتل الثلاثة دون أن أسمع دويّ رصاصة واحدة

نهاية الحرب

انتظرتها عند الباب الذي لا أعرف كيف وجدته

رجالٌ كثيرون في الانتظار

نساءٌ يخرجن من حواصل العربات

سائقون يدخنون بلدانهم

شممت رائحتها على الرصيف ولم أستطع التوقف عن النحيب.

بعد الحرب

اشتريت لها خاتماً من أحد الموتى

الأغنيات التي أحببناها غدَت أطفالاً يركضون على الهواء

شجرُ البيت تلكأ في شرب الماء وغمزَ لي أن أذهب

حملت تعبها في فمي

قلبي بركة ماء

حين خلعَت قميصها المرقّط وضعت المسدّسَ على الرفّ وبللت أصابعها بأسماء العائلة

لكننا...

لم ننتبه القَدر الذي ترك قلماً وورقة موقّعة...عليها تاريخ الحياة بنهاية مفتوحة.