-A +A
نجيب يماني
طلب الأستاذ قينان الغامدي (الوطن) أن يكون DNA أول خطوة لإثبات بنوة الابن لأبيه، والأخذ بالتطور العلمي في هذا المجال بدل الاعتماد على الوثائق الورقية التي ربما تكون مزورة ويتطلب معرفة حقيقتها وقتا طويلا، ومع تقديري لرأيه، أرى أن اللجوء إلى الوسيلة الحديثة تعتريها بعض المحاذير، التي لا تتوافق مع الستر المطلوب حفاظاً على المجتمع وترابطه.

فالشريعة الإسلامية أثبتت النسب لمجرد وجود فراش أي عقد عند (الولادة)، ذكر ابن عابدين في حاشيته بأنه لو ولدت المرأة فاختلفا في المدة، فقالت المرأة نكحتني من نصف حول، وادعى الرجل أقل من ذلك فالقول قولها بلا يمين والولد ابنه بشهادة الظاهر لها بالولادة من نكاح حملاً لها على الصلاح، وقال ابن قدامة حنبلي المذهب لو ولدت امرأة وزوجها غائب من (20 عاماً) لحقه نسب الولد وإن لم يعرف له قدوم إليها ولا عرف لها خروج إليه من بلدها. وأرجع أهل العلم ثبوت النسب إلى أدنى مدة الحمل وهي ستة أشهر من أحداث الفراش ويعني (عقد النكاح)، فلو جاءت المرأة بالولد لهذه المدة فأكثر ثبت نسبه من غير ادعاء علاوة على أن الأصل في (العلوق) أي انعقاد الحمل (الخفاء) فليس هنا موطن الإشهار أو الرؤية وما كان الأصل فيه الخفاء يكفي فيه الاحتمال لثبوت النسب. عكس الزنا لا يثبت بالاحتمال أما النسب فيحتاط له بالاحتمال لأن المرأة في نظر المجتمع طاهرة وعفيفة وانزلاقها إلى المعاصي لا ينزع عنها هذه الصفات، فالحكم على الناس يكون بالظاهر وما خفي فهذا بين العبد وربه. والذي عليه كافة أهل العلم في ثبوت النسب من (غير ادعاء) هو تحقيق أدنى مدة الحمل.


ويبقى قوله عليه الصلاة والسلام (الولد للفراش) هو الأصل طلبا للستر ولعدم إشاعة الفاحشة وهو قانون نبوي تمثل في قصة (جارية زمعة) وقد اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله في وليد الجارية زمعة وحملها من عتبة بن أبي وقاص فقال سعد هذا ابن خالي أوصاني بأخذه وقال عبد بن زمعة هذا أخي ولد على فراش أبي فقضى رسول الله بينهما بمقولته (الولد للفراش) بمعنى أن نسب الولد يلحق صاحب الفراش أي من كانت المرأة فراشا له بعقد نكاح أو ملك اليمين. فقضى بالغلام أن يلحق بزمعة في النسب وإن كان عليه الصلاة والسلام يعلم أنه ليس من زمعة بل هو ابن لعتبة حقيقة وصدقا يوضحه قوله عليه الصلاة والسلام (واحتجبي عنه يا سودة) ومعنى ذلك أن هذا الغلام ليس أخا لسودة حقيقة ولذلك أمرها أن تحتجب عنه وإن كان قد قضى أنه أخوها حكما. وهذا الحكم النبوي يرمي للستر والصون ولو قضى رسول الله بالغلام لعتبة وهو ابنه الحقيقي، وهو ما سوف يعمله تحليل DNA فتشيع الفاحشة ويكثر القيل والقال وبالتالي يحرم من حقوقه بما فيها الجنسية. يقول ابن تيمية إن الفجور أمر باطن لا يُعلم ويجب ستره لا إظهاره كما قال عليه الصلاة والسلام (وللعاهر الحجر) وكما قال (بفيك الكثلب ولك الأثلب) أي تسكت عن إظهار الفجور فالله يبغضه، ويرى أبو حنيفة طلباً للستر والعفاف أنه إذا زنى الرجل بالمرأة فحملت منه أن يتزوجها ويستر عليها والولد ولده. ولذلك تأسس القول عند الحنفية في ثبوت النسب للولد بمجرد وجود الفراش وهو (عقد النكاح). أو أن تأتي بالولد لأدنى مدة الحمل ولو لم يكن ثمة وطء ولا احتمال اللقاء بين الزوجين، ويمثل لهذه المسألة (بعقد نكاح رجل في المشرق على امرأة من المغرب لم يعلم عنهما اللقيا). ثم حملت المرأة وجاءت بالولد لأدنى مدة الحمل فالولد ولد هذا الرجل ينسب إليه تأسيسا على وجود عقد النكاح وليس على حصول الوطء أو احتمال اللقاء. ويقول ابن حجر في فتح الباري إن المرأة تصير فراشا بمجرد العقد فلا يشترط في الاستلحاق إلا الإمكان وهو أدنى مدة الحمل لأنها تراد للوطء فجعل العقد عليها كالوطء ولا أثر للوطء في ثبوت النسب. طالما أتى الولد على فراش قائم صحيح لعموم لفظ الفراش في حديث رسول الله وهو حجة في إلحاق الولد بصاحب الفراش وإن لم يكن صاحب الفراش هو أبوه حقيقة. فالنسب يثبت للولد لمجرد عقد النكاح وإن لم يكن ثمة وطء ولا احتمالاته. فمن مقاصد الشريعة حفظ النسب والاحتياط له ولا ضلع للولد في ورطة أبيه وهذه قاعدة من قواعد العدل الإلهي وهي تحقيق الستر والصون ومنع القيل والقال في الأنساب والأعراض وتبقى شريعة الله خالدة وضعت لمراعاة مصالح الناس.