حضرت بالأمس محاضرة عبر برنامج حديث الرياض للدكتور سعيد بنتاجر عن مبدأ التبرّع وأخلاقيات المناظرة، وقد قادتني هذه المحاضرة إلى التفكير في حال مبدأ التبرّع في الخطاب الإعلامي اليوم؛ خاصة وأن الخلاف لم يعد مجرد اختلاف في الأفكار بقدر ما أصبح صراعًا على المواقف. ومع اتساع المنصات الرقمية وتسارع المحتوى، بات الرأي يُدان قبل أن يُفهم، ويُصادر قبل أن يُفسر، وتُصنّف الأفكار قبل أن تُناقش. في هذا المشهد يغيب مبدأ التبرّع، وتغيب معه أخلاقيات المناظرة والحوار والاستفادة من الرأي الآخر، كما أشار البليهي إلى أن الآخر ليس خيرًا مطلقًا ولا شرًا مطلقًا.

وللذين يبتعدون عن علم اللغة والفلسفة، أحب أن أوضح معنى «التبرّع» الذي يقوم على فكرة بسيطة، وهي أن نفهم رأي الآخر بأقوى صورة ممكنة قبل أن ننتقده، لا أن نبحث عن ثغرة لغوية، ولا أن نحمّل الكلام ما لا يحتمل، بل أن نعرض الفكرة كما يقصدها صاحبها وكما ظهرت لنا. هذا المبدأ، الذي شكّل أساسًا في نظريات الحِجاج الغربية، لم يكن ترفًا فلسفيًا، بل شرطًا لضمان نقاش عادل ومثمر.

غير أن الخطاب الإعلامي اليوم، خصوصًا في الفضاء الرقمي، يسير غالبًا في الاتجاه المعاكس. ففي بعض البرامج الحوارية، يُستضاف صاحب رأي مخالف لا ليشرح موقفه، بل ليُحاصر؛ تُقاطع إجاباته، وتُعاد صياغة أقواله بأسلوب استفزازي، فيتحوّل الطرح إلى مواجهة، ويغيب الحِجاج لصالح الاستعراض فقط.

وفي عدد من برامج البودكاست والمنصات المرئية، يتكرر نمط آخر، اختيار مقطع قصير من حوار طويل، يُنشر منفصلًا عن سياقه، ويُقدَّم باعتباره خلاصة الموقف ولب الموضوع وهذا المقطع المقتطع يصبح مادة للترند، ويُبنى عليه حكم أخلاقي أو اجتماعي واسع، بينما يغيب النقاش الحقيقي حول الفكرة الأصلية.

أما في وسائل التواصل الاجتماعي، فغياب مبدأ التبرّع يأتي بشكل أوضح، تغريدة أو تصريح يُفسَّر بأسوأ احتمال، ويُهاجم الرأي ويُصادر دون الاستفادة، ثم يُعاد تدويره مصحوبًا بسيل من الاتهامات. لا أحد يسأل: «ماذا قصد؟ وهل يمكن الاستفادة من طرحه؟»، بل السؤال الوحيد يصبح: «كيف نُدينه؟ ونحاصره ونصادره!»، وهنا يتحوّل الجمهور من متلقٍ ناقد إلى طرف في حملة، ويصبح الاختلاف تهديدًا لا فرصة للفهم والاستفادة.

حتى التغطيات الإخبارية لم تسلم من هذا الخلل، حين تُغلّف بعض الآراء بإطارات لغوية مُسبقة، تُوجّه المتلقي نحو حكم معين قبل عرض الوقائع، في هذه الحالة، لا يُمنح الجمهور فرصة التفكير، بل يُدفع إلى الاصطفاف دون وعي!

استعادة مبدأ التبرّع اليوم ليست مسؤولية الإعلاميين وحدهم، بل مسؤولية مشتركة تشمل الكُتّاب، وصنّاع المحتوى، وأهل الثقافة، والجمهور نفسه؛ فكل تفاعل، وكل مشاركة، هي تصويت على شكل الخطاب الذي نرغب أن يسود وينتشر.

ختامًا.. مبدأ التبرّع ليس ضعفًا في الموقف، بل قوة في الوعي وزيادة في التنمية الفكرية والثقافية والإعلامية، به نختلف دون أن نتخاصم، وننقد دون أن نشوّه، ونحافظ على الحوار بوصفه أداة للفهم والتنمية لا ساحة للصراع والمعارك الوهمية.