على قصر المدة الزمنية بين إعلان أستراليا عزمها على حظر دخول الأطفال دون سن السادسة عشرة، لمنصات التواصل الاجتماعي، وإقرار ذلك بتشريع جديد، ودخوله التنفيذ في خواتيم الأسبوع الماضي، إلا أنّ حجم التفاعل كان كبيراً جدّاً، وواسع الانتشار، كونه الحظر الأول من نوعه عالمياً، ولما انطوى عليه من «جرأة» تكاد تمسّ مبدأ «الحرية المقدّس» في المجتمعات الغربية، واستعلائها دوماً بفكرة رفض الوصاية بأيّ شكل من الأشكال، وتعظيم حرية الاختيار؛ انصياعاً للعبة الديمقراطية والليبرالية، قديمها وجديدها، ليبرز هذا التشريع قافزاً فوق هذه الثوابت، تعبيراً عن قلق حقيقي، و«أزمة» ماثلة، وخطر داهم يتهدّد مستقبل الأجيال في أستراليا، بما حرّك مستشعراتها نحو إقرار هذا التشريع، في محاولة لوقف تداعيات هذا الخطر، وإدراك ما يمكن إدراكه، في ضوء أبحاث ودراسات كثيرة نبّهت على عظيم أثر منصات التواصل الاجتماعي على المراهقين واليفّع، ولعلّ أبرزها الدراسة الحديثة التي قامت بها مؤسسة «ديمِنشيا أستراليا» بمشاركة خبراء مختصين، وخلصت إلى الربط بين الإفراط في استخدام الهواتف الذكية وتراجع صحة الدماغ لدى المراهقين والشباب، حيث ذهب المشرف على الدراسة، أخصائي علم الأعصاب البروفيسور مارك ويليامز، إلى القول بأن «نتائج الدراسة بيّنت وجود تغيّر ملحوظ في قدرات الذاكرة والانتباه لدى مستخدمي الأجهزة الإلكترونية لفترات طويلة، مؤكداً أن الاعتماد المستمر على شاشات الهواتف الذكية يقلّل من القدرة على معالجة المعلومات، ويزيد فرص نسيان المهام، ويؤثر في الذاكرة» الأمر الذي وجد فيه رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي، الحجة المنطقية، والسند العلمي، لدعم التشريع، معضداً موقفه في رسالة مصورة، أوضح من خلالها أن «الهدف من الحظر هو دعم الشباب الأسترالي وتخفيف الضغط الذي يمكن أن يتعرّض له من البث والخوارزميات التي لا نهاية لها».

وذهب إلى أبعد من ذلك بالقول: «هذا هو اليوم الذي تستعيد فيه العائلات الأسترالية زمام الأمور من شركات التكنولوجيا العملاقة، إنهم يؤكدون حقّ الأطفال في عيش طفولتهم، وحقّ الآباء في الشّعور براحة البال».

على أن هذا «الفرح الرسمي»، ومناصريه، واجهته في المقابل آراء مخالفة، بدوافع متفرقة، فأنصار الحرية بلا قيود رأوا في التشريع الجديد تجاوزاً للحريات بلا مبرر منطقي، أما الأكثرية فذهبت إلى «صعوبة التطبيق»، مع توقع واسع وعريض بتجاهل بعض الأطفال وذويهم هذا الحظر، وهو ما أقر به رئيس الوزراء نفسه، بالقول: «الأمر لن يكون سهلاً».

أما موقف الشركات المعنية بالتشريع الجديد، فليس بمستغرب أن تقف في الضفة الأخرى منه، قياساً على الخسائر الاقتصادية من جرّائه، لكنها في المقابل اتخذت من «صعوبة التطبيق»، ومناصرة بعض أولياء الأمور حجة لتقوية موقفها الرافض للتشريع، وتقديم بدائل أخرى، ضمّنها المتحدث باسم «ميتا»، في بيان؛ جاء فيه «يتفق الخبراء وجماعات الشباب والعديد من أولياء الأمور على أن الحظر الشامل ليس هو الحل، فهو يعزل المراهقين عن المجتمعات والمعلومات عبر الإنترنت، مع توفير حماية غير متسقة عبر التطبيقات العديدة التي يستخدمونها، فهناك طريقة أفضل تشريع يُمكّن أولياء الأمور من الموافقة على تنزيل التطبيقات والتحقق من العمر، مما يسمح للعائلات وليس الحكومة بتحديد التطبيقات التي يمكن للمراهقين الوصول إليها».

إن المراقب لهذا المشهد المائج بالآراء المختلفة، لا بد أن يقف موقف المتأمل، والمستبصر، ليدرك أن هذه المعضلة لم تعد شأناً يخص مجتمعاً دون مجتمع، وأن حاجتنا إلى المعالجة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عامة، والسعودية على التخصيص باتت كبيرة، فلئن كانت دوافع الحظر لدى المجتمع الأسترالي قائمة على «صيانة عقول المراهقين من الاستهلاك، وفتح النوافذ أمامهم لممارسة حياة طبيعية بما فيها من ترفيه بريء وممارسة الرياضة وتكوين علاقات في العالم الواقعي بعيداً عن الافتراضي»، فإن دوافعنا تبدو أكبر لما نلمسه من تقاطعات كثيرة في مشهد تعامل المراهقين عندنا مع وسائل التواصل الاجتماعي، وكلها لا تصب في شيء إيجابي، بل تنطوي على مخاطر كبيرة، سواء من حيث تعاطيهم مع المواقع المشبوهة، أو جماعات الهوس الديني والتطرف العقدي، أو شبكات الجريمة المنظمة، وغير ذلك من «البلاوي» التي نعيشها كل يوم، ونكتوي بنارها في صمت، ليبقى السؤال معلّقاً كيف العلاج، وما هي طرق الحل؟

فلو كان لنا أن ننظر إلى تجربة أستراليا الوليدة، فالحقّ أنها – على نصاعة أهدافها – قابلة للخرق والتحايل والالتفاف لصعوبة الضبط بصورة مثالية، في ظل منظومات أسرية لا تعمل بمحركات «الوصاية الأبوية» الصارمة، بما يمثّل رادعاً أو جرس تنبيه للأطفال والمراهقين، ولهذا ربما لا تجد التجربة ما تصبو إليه من النجاح المنشود، لكنها تظل جرساً معلّقاً يقرع باستمرار تنبيهاً لهذا الخطر الداهم، لهذا فمن المهم أن نبدع وسائل جديدة منسجمة مع واقعنا، وقابلة للتنفيذ بصورة منطقية ومعقولة، وفي خاطري تجربتنا «المريرة» مع كل المستحدثات التي «غزت» مجتمعنا؛ بدءاً من «الدش»، مروراً بالجوال، والجوال المزوّد بالكاميرا، وغير ذلك؛ حيث ظل «خطابنا الوعظي الصحوي» يستهدف الآلة «المسكينة» بالحظر والمنع، وكان الأولى بها استهداف الإنسان المستخدم، وتحصينه بقيم إيجابية، تجعل من الآلة بين يديه «نعمة»، بدلاً من كونها «نقمة» جرّاء سوء تصرفه، وسلوكه المُلغّم، فلا حظر سيفيد، ولا مراقبة ستجدي، ولا تشريعات ستحد، بالشكل المؤثر ما لم يصحب ذلك تبصير وتوعية وتوفيق..

بظنّي أن الأمر جدير بالنقاش المستفيض، حتى لا يتسع الفتق على الراتق، بأكثر مما هو متسع الآن في صمت مقلق، حفظ الله أبناءنا وبناتنا.