المهندسة هند العوضي في مكتبها.
المهندسة هند العوضي في مكتبها.




هند مع نموذج من الطائرات.
هند مع نموذج من الطائرات.




هند أثناء عملها في صيانة الطائرات.
هند أثناء عملها في صيانة الطائرات.




صورتان حديثة وقديمة لهند.
صورتان حديثة وقديمة لهند.




صورة والدها سمير العوضي وصورتها أيام طفولتها.
صورة والدها سمير العوضي وصورتها أيام طفولتها.
-A +A
بقلم: د. عبدالله المدني abu_taymour@
العادات والتقاليد هي المشجب الذي يُستخدم دوما للحيلولة دون اقتحام المبدعات في منطقة الخليج العربي لمجالات عمل معينة من تلك التي يهيمن عليها الذكور، ويُقال عنها إنها لا تتناسب مع طبيعة المرأة وقوتها البدنية عموما. من هذه المجالات الهندسة، التي يقل فيها عدد الإناث عن الذكور بنسبة ملحوظة.

حينما أرادت الكويتية سارة حسين أكبر التي وصفها الصديق الراحل د.أحمد الربعي بـ«سيدة الكويت الحديدية» بسبب دورها المشرف في إخماد حرائق آبار النفط بُعيد تحرير الكويت سنة 1991، أن تقتحم مجال هندسة البترول جوبهت بمعارضة شديدة من أهلها وأقاربها ومجتمعها بداعي أن التخصص في هكذا مجال يتطلب من الملتحقين به العمل والسهر والمغامرة والارتحال إلى مناطق صحراوية نائية أو مناطق في عرض البحار.


تكرر الأمر نفسه مع البحرينية هند العوضي عندما أرادت أن تحقق حلم طفولتها بدراسة هندسة الطيران كي تستخدمه سلما لدخول مجال الفضاء. فقد قيل لها إن كلا المجالين غير ملائمين للفتيات، وإن دخلتهما فسوف تصبح شاذة، وقد تحرم من تكوين عائلة، غير أن هند لم تكترث بمن حاول أن يهبط عزائمها ويثني إرادتها ومضت تعمل في سبيل تحقيق طموحها.

كان هذا طبيعيا في مجتمع عربي خليجي محافظ بعكس المجتمعات الغربية التي راحت منذ عام 1921 تتعمق شيئا فشيئا في دراسة واستكشاف الفضاء من خلال تسخير مجموعة من الآليات والمعدات ومراكز الأبحاث لهذا الغرض، خصوصا بعدما افترض بعض العلماء الروس والأمريكيين احتمال وجود حياة على بعض الكواكب.

وإذا كانت المرأة الغربية تأخرت عن الرجل الغربي في ارتياد الفضاء فما بالك بالمرأة العربية. فتجربة المرأة الغربية في الفضاء يعود تاريخها إلى عام 1963 حينما أرسل الاتحاد السوفيتي السابق مواطنته الروسية فالنتيتا تريشكوفا للدوران حول الأرض 48 مرة في المركبة فوستوك 6، فدخلت تريشكوفا التاريخ مذاك وحتى الآن كأول امرأة تصعد منفردة إلى الفضاء الخارجي، وتعود بسلام.

ابنة المنامة

ولدت هند في المنامة في الواحد والعشرين من ديسمبر 1988 ابنة لعائلة مثقفة مثابرة. فوالدها هو سمير صدّيق عبداللطيف العوضي من عائلة العوضي المنتشر أفرادها في كل دول الخليج العربي دون استثناء؛ التي تتحدر من بلدة «عوض» الواقعة في بر فارس العربي، الذي يسمى اليوم «محافظة فارس». وتقول صفحة عائلة العوضي على الفيسبوك إن أصولهم من المهاجرين العرب من نجد والحجاز الذين نزحوا إلى فارس إثر قحط وشدة صابتهم فهاجروا واستقروا بأرض سموها عوض تعويضا عن أرضهم بالجزيرة، ثم عادوا وانتشروا في الخليج والحجاز فبرز منهم أعلام كثر في مختلف المجالات، ومنهم من شغل حقائب وزارية كما في الكويت (الدكتور عبدالرحمن العوضي وزير الصحة الأسبق) والمملكة العربية السعودية (الأستاذ محمد بن محمد علي العوضي وزير التجارة والصناعة في عهد الملك فيصل رحمه الله)، ومنهم من نبغ في العلوم والتجارة والدبلوماسية والشريعة والإعلام والأدب والشعر والفن وإدارات الدولة والحقل الأكاديمي، علما بأن سمير العوضي عمل محاسبا في شركة طيران الخليج (الناقل الرسمي لمملكة البحرين) لسنوات طويلة ترأس خلالها في سنة 2019 مجلس إدارة النقابة الوطنية للشركة.

أما والدتها فهي السيدة نهلة عبدالرحمن خليفة الفايز وهي ابنة المربية الفاضلة السيدة تاج (توفيت عام 2014) إحدى بنات تاجر اللؤلؤ محمد بن علي بن إبراهيم الزياني من زوجته الخامسة السيدة «حصة بنت محمد بن أحمد بن هجرس التي عاشت معه حتى تاريخ وفاته، حيث تزوجت تاج من ابن عمتها عبدالرحمن الفايز وأنجبت له ابنتها نهلة، علما بأن تاج الزياني عُرفت في البحرين كعضوة ناشطة في الجمعيات الخيرية والهلال الأحمر وجمعية نهضة فتاة البحرين التي كانت ضمن مؤسساتها، كما عُرفتْ بتأسيسها لروضة أطفال ناجحة في مدينة المحرق في مطلع سبعينات القرن العشرين.

حلم الفضاء منذ الصغر

تقول هند العوضي في حوار صحفي مع جريدة الأيام البحرينية (10/‏7/‏2019) إنها حلمت منذ أنْ كانت في العاشرة من عمرها بأنْ تصبح رائدة فضاء، خصوصا أنها كانت تسافر كثيرا مع عائلتها بواسطة الطائرات (إلى مصر ولبنان وبريطانيا وفرنسا ودول جنوب شرق آسيا وجنوب أفريقيا)، وأنها -مذاك- راحت تشارك في كل الأنشطة ذات الصلة وبالتزامن كثفت من قراءاتها الخارجية حول الطيران والفضاء. وحينما وصلت إلى المراحل النهائية من دراستها ما قبل الجامعية، (بدأت تعليمها الابتدائي بمدرسة رابعة العدوية وتعليمها الاعدادي بمدرسة أم سلمة وتعليمها الثانوي بمدرسة خولة) قررت أن تختار المسار العلمي، وبمرور الأيام كان شغفها وفضولها بعوالم الفضاء والطيران الساحرة يزداد، ومعهما كانت ثقتها بنفسها تتعاظم. ومن دلائل تجذر هذا الشغف بداخلها أن والدتها كانت حريصة أن تأخذها في عطلات الصيف المدرسية السنة تلو الأخرى إلى «مركز الشيخ سلمان الثقافي» الترفيهي للأطفال (مركز الإبداع الألكتروني حاليا) التابع لوزارة الشباب والرياضة بمنطقة أم الحصم من العاصمة، حيث كانت تُعقد دورات في مختلف العلوم والهوايات. في هذا المركز انضمت هند إلى قسم الفضاء والفلك، وتعلمت على يد الأم المثالية والتربوية المخضرمة والكاتبة المتميزة أمينة هاشم الكوهجي ودكتورة الطاقة المتجددة بجامعة البحرين حنان البوفلاسة وأستاذ الفيزياء بجامعة البحرين البروفسور وهيب عيسى الناصر.

السخرية من أفكارها

بعد حصولها على الثانوية العامة في عام 2006 من مدرسة خولة الثانوية للبنات بالمنامة حصلت على ثلاث بعثات دراسية بسبب تفوقها، لكنها رفضتها كلها لأنها كانت في تخصصات بعيدة عن تخصص علوم الفضاء والطيران. فوقفت حائرة لا تدري ماذا تعمل وإلى أين تتجه. فجامعة البحرين الوطنية ليست بها كليات ذات صلة بعلوم الطيران والفضاء. ومن ناحية أخرى كان والداها معارضين لفكرة أن تتخصص في هذا المجال، بل حتى صديقاتها كن يسخرن منها كلما أفصحت لهن عن رغبتها تلك.

جاءتها النجدة في هذه الأثناء من صندوق العمل «تمكين». فالأخيرة أطلقت في عام 2006 ضمن برامجها للتنمية البشرية برنامجا لهندسة صيانة الطائرات تكلفته أكثر من مليون دينار بحريني ومدته أربع سنوات (سنتان للدراسة النظرية وسنتان للتدريب العملي) يحصل على إثرها الخريجون على شهادة دولية في صيانة الطائرات. فالتحقت هند بالبرنامج مع 30 شخصا، كان بينهم ثلاث فتيات هن بالإضافة إليها فجر مفيز وأمينة بوعلاي. حتى ذلك التاريخ لم تكن هندسة الطيران ضمن اهتماماتها، لكنها وافقت على خوض التجربة من منطلق أن هندسة الطيران هي الأقرب إلى عالم الفضاء ولأنها تمثل البوابة التي استخدمها غيرها لولوج هذا العالم المليء بالتحديات.

خطوات واقعية

وهكذا وضعت هند أولى خطواتها لجهة تحقيق ما حلمت به منذ نعومة أظفارها. فدرست واجتهدت في أكاديمية باس لهندسة الطيران بالمحرق إلى أن أوفت بكامل متطلبات الدراسة النظرية، لتنتقل على إثر ذلك إلى شركة طيران الخليج لمواصلة البرنامج العملي لمدة سنتين أخريين. وفي عام 2010 كانت ضمن أول دفعة تتخرج من الأكاديمية المذكورة وتحصل على رخصة الهندسة الدولية للطيران. وعلى حين ساقت الأقدار زميلتيها فجر مفيز وأمينة بوعلاي بعد تخرجهما معها إلى وظائف إدارية بشركات الطيران، تمكنت هند من الحصول على وظيفة مفتش صلاحية طيران أول في هيئة الطيران المدني البحرينية، وهي وظيفة ميكانيكية تقوم بموجبها بالتأكد من سلامة الطائرة وجاهزيتها للإقلاع والتأكد من سلامة وكفاءة الأجهزة الميكانيكية وصيانتها واستبدالها إن دعت الحاجة، ودخلت تاريخ بلادها بهذه الصفة التي لم يسبق لأي من بنات جنسها نيلها من قبل، وفوق هذا كله نجحت في تغيير نظرة من كانوا يستهزئون بها وحولتهم من ساخرين إلى داعمين.

هذا الإنجاز، معطوفا على بقاء طموحاتها القديمة مشتعلة بداخلها، رفع من سقف آمالها وإيمانها بعدم وجود المستحيل، وبأن المرأة العربية -والخليجية تحديدا- قادرة على تذليل كل الصعوبات وتحقيق كل أحلامها. وبهذا الإيمان العميق وتلك الثقة القوية بالنفس راحت تفتش عما يحقق لها بقية طموحاتها وعلى رأسها خوض مجال الفضاء.

تأسيس هيئة الفضاء

ومن حسن حظها أن مملكة البحرين ومعها شقيقتها دولة الإمارات العربية المتحدة بدأتا في الآونة الأخيرة توليان اهتماما كبيرا بعلوم الفضاء. ففي البحرين تمّ تأسيس «الهيئة الوطنية لعلوم الفضاء» بعد أن أقرت لجنة استخدام الفضاء الخارجي للأغراض السلمية التابعة للأمم المتحدة (COPUOS) منح عضويتها للبحرين. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة تمّ تأسيس وكالة الإمارات للفضاء منتصف عام 2014 بهدف تطوير قطاع فضائي وطني ينقل البلاد إلى مرحلة عملية وفكرية جديدة ويحقق لها طموحاتها في اكتشاف الفضاء، علما بأن اهتمام الإمارات بالفضاء بدأ في السبعينات حينما التقى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان مع فريق وكالة ناسا المسؤول عن رحلة أبولو، وهو اللقاء الذي توج بتأسيس شركة الثريا للاتصالات عام 1997، وشركة «ياه سات» للاتصالات الفضائية عام 2007، والتي أدمجت لاحقا مع «مركز محمد بن راشد للفضاء».

تجربة BBC

في يوليو من عام 2015، أطلقت قناة دبي الفضائية بالتعاون مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) برنامجا لتهيئة الشباب العربي لخوض تجربة رواد الفضاء، فتم التواصل مع هند للمشاركة في البرنامج. وحول البرنامج المذكور ومشاركتها فيه، والتي عدته إنجازا لها وللبحرين كونها كانت المشاركة البحرينية الوحيدة بين المتنافسين العرب، قالت ما مفاده أنها دعيت للمشاركة في هذا البرنامج، وهالها أن يكون هناك برنامج في الوطن العربي بذلك الحجم وبتلك الإمكانيات الضخمة، مضيفة أن البرنامج عبارة عن عدة مراحل في كل مرحلة يتأهل الأفضل للمرحلة التي تليها. وموضحة: «في البداية كان عدد المشاركين 500 مشترك من جميع أنحاء الوطن العربي، وتمت التصفية لحين وصولنا إلى 50 مشتركا فإلى 24 مشتركاً، وتم استدعاؤهم لدبي لخوض التجارب النهائية لاختيار 12 شخصاً فقط، ولله الحمد تم اختياري من ضمن 12 مشاركاً لأكون البحرينية الوحيدة والبنت الرابعة من ضمن 12 متسابقاً، فهناك سعوديتان ولبنانية واحدة، سنخوض تجارب ومراحل الإعداد التي يخوضها رواد الفضاء الحقيقيون، ليكون هناك فائز واحد».

كانت صدمتها كبيرة حينما خرجت من التنافس في التصفيات الأخيرة، لكنها قبلت بما قدره الله واعتبرته مرحلة في حياتها مضت وانتهت. لم يكن خروجها من المنافسة بسبب قصور في حماسها أو معلوماتها، وإنما كان متعلقا فقط باللياقة البدنية. فبالرغم من ممارستها لرياضتي الجري والغوص، إلا أنها لم تتمكن من مجاراة المشاركين الآخرين في الرياضيات القاسية من تلك التي يتم التدريب عليها في الكليات العسكرية، مثل سباق الحواجز وقيادة الآليات الثقيلة والزحف تحت السواتر الشبكية.

هند: «حياتك خيارك فأحسني اختيارك»

تعيش هند اليوم بانتظار من يأخذ بيدها ويوفر لها فرصة التعليم والتدريب في المعاهد والوكالات المتخصصة في علوم الفضاء كوكالة ناسا الأمريكية للفضاء مثلا عبر بعثة أو منحة دراسية. غير أنها في الوقت نفسه، لا يمر عليها شهر إلا وتدخل «كورس» دراسياً أو تدريبياً في مجال هندسة الطيران. وبالتزامن مع وظيفتها في هيئة الطيران المدني، تدرس في معهد البحرين للدراسات المصرفية والمالية (BIBF) بهدف نيل درجة الماجستير في العلوم الإدارية، طامحة أن ترفد الماجستير بدرجة الدكتوراه مستقبلا.

الجانب المشرق الآخر من سيرة هند العوضي هو أنها مشتغلة ومنشغلة في الوقت ذاته بمسار بعيد كل البعد عن الطيران والفضاء وهندسة صيانة الطائرات المدنية وما يحيط بالأخيرة من العمل وسط الآلات والمحركات والأسلاك والزيوت والعدد اليدوية. ونعني بذلك شغفها وعملها في مجال الأزياء والمجوهرات والإكسسوارات من خلال قناة خاصة باسمها على اليوتيوب جذبت حتى الآن أكثر من 70 ألف متابع ومتابعة.

حينما أعربتُ لها في مكالمة هاتفية عن استغرابي حول انخراطها في المجال المذكور، ردت بثقة قائلة ما مفادها أن لديها شغفاً بالموضة وعروض الأزياء منذ الصغر، وأنها تحاول اليوم أن تقول إن حياة المرأة المهنية شيء وما تعشقه شيء آخر، كما تريد أن تثبت للجميع أن انخراط المرأة الخليجية في التخصصات الصعبة المقتصرة عادة على الرجال يجب ألا يكون من منطلق التشبه بالرجال ومنافستهم، بمعنى أن عليها عدم نسيان أجمل ما فيها وهو أنوثتها ورقة مشاعرها وتذوقها للجمال لبساً وسلوكاً ومظهراً. أما عن مصدر ثقافة الأزياء والاكسسوارات التي تروج لها من خلال شبكات التواصل الاجتماعي فهو المجلات العالمية المتخصصة التي تحرص على اقتنائها أولا بأول.

ولئن كانت هند تدين لما وصلت إليه إلى والديها، اللذين كانا معارضين لدخولها مجال هندسة الطيران إلى درجة أنها أخفت عنهما موضوع التحاقها بأكاديمية باس لبعض الوقت، قبل أن يتحولا إلى محفزين ومساندين لخطوتها، فإنها من جهة أخرى تدين بالكثير للمجتمع البحريني الذي عاش عبر العصور كمجتمع يؤمن بأهمية الانفتاح والتحرر والتماهي مع تطورات الزمن وظروفه المتغيرة.

سألتها صحيفة أخبار الخليج البحرينية (22/‏5/‏2019) في حوار معها عما إذا كانت قد تعرضت لمواقف حرجة خلال عملها فكان ردها: «نعم، كثيرا، أذكر منها حين واجهتنا مشكلة بإحدى الطائرات، فذهبت إلى الكابتن لشرحها له، فوجدته يطلب مني أن أحضر له المهندس المسؤول، وحينما فوجئ بأنني المسؤولة عن توقيع تلك الرحلة أصابه نوع من التشكك. وموقف آخر أذكره عندما أصيبت طائرة متوجهة إلى الكويت بعطل فني، وحين شاهدتني إحدى المسافرات وأنا أقوم بإصلاح العطل وإجراء اللازم وعلمت أنني المهندسة المسؤولة، غادرت الطائرة ورفضت السفر. وهذه المواقف تؤكد أن عملي يتطلب جهدا مضاعفا نفسيا وجسديا ومعلوماتيا، وطاقة عظيمة أحيانا تفوق تحملنا». أما كلمة هند الأخيرة لبنات جنسها فهي: «حياتك خيارك فأحسني اختيارك».