أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد يصافح الوجيه محمد طاهر البغلي.
أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد يصافح الوجيه محمد طاهر البغلي.




أحمد طاهر البغلي عميد عائلة البغلي.
أحمد طاهر البغلي عميد عائلة البغلي.
علي أحمد البغلي وزير النفط الكويتي السابق.
علي أحمد البغلي وزير النفط الكويتي السابق.




محمد طاهر البغلي حاملاً حفيده قبل اختفائه في ظروف غامضة.
محمد طاهر البغلي حاملاً حفيده قبل اختفائه في ظروف غامضة.




الحاج أحمد طاهر البغلي يفتتح أحد مصانعه للمفارش.
الحاج أحمد طاهر البغلي يفتتح أحد مصانعه للمفارش.
-A +A
بقلم: د. عبدالله المدني - أستاذ العلاقات الدولية في مملكة البحرين abu_taymour@
يعتبر «البشت» جزءا من اللباس التقليدي للشيوخ والأمراء والتجار وعلية القوم في منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية والعراق، ورمزا للهيبة والاحترام في المجتمع. لذا كانت صناعته مقتصرة على أفراد وعائلات معينة ممن توارثوا المهنة أبا عن جد، وأفنوا حياتهم في المحافظة على فنونها وجودتها واختيار موادها بعناية ودقة، بحسب أنواع البشت العديدة التي تتدرج في الألوان والخامات ومواصفات ما يتصل به من زري وخلافه.

وفي بحثي عن أصل كلمة البشت (بكسر الباء وتسكين الشين) وجدت من يقول إنها كلمة فارسية بمعنى ظهر الشيء أي خلفه، وهذا خطأ فادح لأن الكلمة الفارسية المقصودة هنا هي «بـُشت» بضم الحرف الأول الذي يلفظ كحرف P باللغة الإنجليزية.


تعرّف المعاجم «البشت» بأنها «عباءة يرتديها الرجل فوق ثيابه، وأن هذا الاسم استخدم في نجد والعراق على نطاق واسع ليحل محل الكلمة العربية الفصحى وهي العباءة، بينما يقابلها عند أهل الحجاز والشام كلمة مشلح». وعن أنواعه وجدت مصادر تقول، إن أرقى أنواع البشوت في العالم هي البشوت السعودية المصنوعة في الأحساء، حيث يوجد لها متحف خاص.

ومن العائلات الخليجية التي تخصصت في صناعة البشوت منذ القدم عائلة البغلي الكويتية، التي ستكون محور حديثنا في ما يلي. تنحدر هذه العائلة من بني جهم من بني عمر بن مسروح بن حرب، الذي عـُرفت قبيلة حرب الحجازية باسمه. أما عن لقب «البغلي»، فيخبرنا المؤرخ السعودي عاتق بن غيث البلادي، في كتابه «معجم قبائل الحجاز» (دار مكة للنشر والتوزيع/‏ مكة المكرمة/‏1983/‏ صفحة 43 وصفحة 95)، أنه نسبة إلى «البغولية»، وهي بطن من بطون حرب كانت لهم منازل في منطقة «وادي الفرع» (أحد أودية الحجاز المعروفة بالمياه والخصوبة)، وعين ماء تابعة لهم تسمى «عين البغالية»، فأطلق على من يسكنون حول العين اسم «البغلي».

لكن كيف ومتى وصلت العائلة إلى الكويت؟ الإجابة نجدها في مجلد ضخم من القطع الكبير يقع في حوالى 900 صفحة، أصدره عميد العائلة الحاج أحمد طاهر البغلي في عام 2018 تحت عنوان «عائلة البغلي»، متضمنا العديد من الصور والوثائق والمعلومات عن العائلة وفروعها وسير أبرز رجالاتها على امتداد القرن العشرين. وطبقا لما ورد في الكتاب فإن أفرادا من عائلة البغلي هاجروا في بداية القرن السابع عشر الميلادي من موطنهم الأصلي في الحجاز (تحديدا المدينة المنورة) باتجاه شرق الجزيرة العربية فوصلوا إلى الأحساء واستقروا بها وتعلموا من أهلها فنون خياطة البشوت، كما تملكوا العديد من العقارات والأراضي الزراعية وعيون الماء، وقدموا العديد من الأوقاف الخيرية لفقراء المسلمين. وهناك وثائق في الكتاب تشير مثلا إلى أن الحاج حسن البغلي اشترى من الحاجة آمنة الفوزان أرضا مساحتها 500 ألف متر مربع مقابل وزن رقبة ناقة ذهباً، وجعلها مقبرة لدفن أموات المسلمين.

الهرب من بطش العثمانيين

وفي منتصف القرن التاسع عشر قرر القسم الأكبر من آل البغلي ترك الأحساء، هربا من بطش الوالي العثماني. فكان أن حلوا في الكويت التي شعروا فيها بالأمن والأمان، حيث استقروا في فريج الصوابر بمنطقة الشرق، وتنقلوا ما بين الأخيرة ومنطقة الوسط قرب دروازة العبدالرزاق، وارتبطوا بعلاقات وثيقة مع الحكام والشيوخ من آل الصباح، نجد تجلياتها في مشاركتهم في معركة الجهراء التي دارت رحاها في أكتوبر 1920، بين قوات حاكم الكويت آنذاك الشيخ سالم المبارك الصباح وقوات شيخ قبيلة مطير/‏زعيم الإخوان البدو فيصل الدويش، ناهيك عن مشاركتهم في بناء سور الكويت الثالث الذي بوشر في بنائه في يونيو 1920، بغية حماية مدينة الكويت من النزاعات الإقليمية والحروب القبلية والدفاع عن حكم آل الصباح.

أمهر صناع البشوت

وعلى غير عادة الكثيرين ممن هاجروا إلى الكويت من خارجها، لم تعمل عائلة البغلي في الغوص وتجارة اللؤلؤ، وإنما وجدت في الكويت سوقًا جيدة لممارسة خبرتها في تجارة وصناعة البشوت. ومع توالي السنين، توسعت تجارتها وأعمالها وذاع صيتها كأمهر صناع للبشوت، ليس في الكويت فحسب وإنما أيضا في بقية دول الخليج العربي.

يخبرنا أحد أبناء العائلة، وهو «علي طاهر البغلي»، في حوار أجرته معه صحيفة الأنباء الكويتية (14/‏8/‏2010)، أنه عمل في خياطة البشوت مع أخيه محمد وأخيه الآخر عبدالله، وافتتحوا دكانا لبيعها ووظفوا عمالا يصنعونها في ديوانيتهم، موضحا أنهم كانوا يستوردون الأقمشة من الدورق بالأحواز والنجف بالعراق، ثم صاروا بعد سنوات يستوردونها من لندن. أما عن طريقة توزيع منتجاتهم فقال ما مفاده، إنه في الفترة من 1955 وحتى 1958 كان يجمع مئات البشوت مع بضائع أخرى كأخشاب «الجندل» وينقلها في سيارات مستأجرة إلى الرياض ليبيعها هناك على أحد التجار ويستلم ثمنها ويعود، مضيفا أنهم اعتمدوا كثيرا على سوق الرياض لأنها سوق واسعة وتحتاج لكمية كبيرة من البشوت مقارنة بسوق الكويت الذي كان الطلب فيه ضعيفا في تلك الفترة.

ومما لا شك فيه أن اشتغال العائلة في صناعة وتجارة البشوت وما خلقته لها من شهرة ومكانة كان مفتاحها لتوسعة وتنويع أنشطتها. حيث دخلت العائلة مجالات تجارية وصناعية أخرى، أهمها صناعة الإسفنج وقطاع المقاولات والبناء والأمن والحراسة والعقارات والخدمات والمعدات الطبية، فيما كان أبناؤها يتقلدون مناصب الدولة الرفيعة، أو يساهمون بعلمهم وخبراتهم في الأنشطة العامة.

عميد العائلة

وبالعودة إلى كتاب «عائلة البغلي» المذكور آنفا، نجده يورد بعض التفاصيل عن عميد العائلة الحالي الحاج أحمد طاهر البغلي، ورحلته في العمل والعطاء على امتداد 80 عاما، ومنها أنه ولد في الكويت وتعلم في مدرسة ملا بلال، حيث ختم القرآن في التاسعة من عمره وأتقن القراءة والكتابة، ليأخذه والده على إثر ذلك إلى معلم كان يلقب بـ«الصباغ» كي يتدرب على يديه مهنة آبائه وأجداده وهي خياطة وصناعة البشوت. وبعد أن أنهى فترة التدريب التي استغرقت 3 سنوات ألحقه والده بالعمل معه. ويتصدر الكتاب مقدمة كتبها عميد العائلة، أشار فيها إلى أن عائلته استوطنت الكويت وشاركت أبناءها في بناء السور لصد الغزاة والمعتدين وشاركت في حرب الجهراء دفاعا عن الأرض والعرض، وساهمت في بناء الوطن في شتى مجالات الحياة «فمن أفراد العائلة من أبحر في العلوم المختلفة، ومن استثمر وقته وأفنى حياته في خدمة الدين الحنيف، ومن اعتلى مناصب عليا في الدولة، ومن برز في الكتابة السياسية، ومن عمل بالتجارة والاستثمار العقاري وأسواق المال، ومن أبدع في المجال الفني بمختلف أشكاله، ومن تميز في الرياضة والفوز بالكؤوس والميداليات، ومن مارس العمل بتميز في مجال الصناعة، ومن كرس حياته وماله لخدمة ومساعدة الآخرين، والأهم من هذا كله تمسك أفراد العائلة بالأخلاق الحميدة والعلاقات الطيبة مع الجميع والحرص على صلة الرحم».

تنوع لافت

والحقيقة أن الكثيرين من أبناء العائلة برزوا فعلا في مجالات مختلفة. فهناك على سبيل المثال: أحمد محمد أحمد البغلي وأحمد محمد علي البغلي (من شعراء القرن الرابع عشر الهجري)، علي مليخان البغلي الأحسائي (من شعراء القرن الثالث عشر الهجري وقد ورد ذكره في كتاب «أعلام هجر» لمؤلفه هشام محمد الشخص)، عبدالحميد علي محمد البغلي (من رجال التعليم الأوائل في الكويت، حيث التحق بالسلك التعليمي سنة 1941، وصار مراقبا لإدارة التعليم الخاص بوزارة التربية والتعليم)، عضو مجلس الأمة ووزير النفط في الفترة 1992 ــ 1996 علي أحمد إبراهيم البغلي (محام وكاتب صحفي حاليا وشغل أيضا منصب رئيس مجلس إدارة الشركة الوطنية الدولية القابضة، وكان قبل توليه حقيبة النفط مساعدا للمستشار القانوني لشركة البترول الوطنية الكويتية ووكيلا للنائب العام)، إبراهيم طاهر أحمد البغلي (مؤسس جمعية رعاية المسنين ومبرة إبراهيم طاهر البغلي للابن البار، ومدير متحف الكويت الوطني من عام 1971 إلى عام 1990)، ناصر حسين محمد البغلي (مندوب الكويت في منظمة «الجات» بجنيف)، هشام حسين عبدالله البغلي (نائب سابق بمجلس الأمة، وعضو المجلس البلدي سنتي 2008 و 2009)، علي عبدالله البغلي (الوكيل المساعد السابق لشؤون الشركات بوزارة العدل، والمحكم القضائي في مسائل الشركات المعتمد في الكويت ودول مجلس التعاون الخليجي)، رياض محمد طاهر البغلي (مؤلف كتاب «بشت البغلي/‏تاريخ وتراث» وهو أول كتاب من نوعه يستعرض أنواع البشوت وألوانها وقياطينها وأسعارها وأنواع الزري المستخدم فيها)، وغيرهم.

الحفاظ على المهنة

في يونيو 2014 أصدرت مجلة الرجل تحقيقا واسعا عن العائلة، وصفتهم فيه بشيوخ البشت والإسفنج في الكويت. في هذا التحقيق تحدث عميد العائلة أحمد طاهر البغلي فقال: «إن تصنيع البشوت في الكويت لم يكن حكرا فقط على عائلة البغلي، بل كانت هناك عائلات كويتية أخرى تمتهن صناعة البشوت، ولكن العديد منهم تخلى عن هذه الصناعة، في حين حافظت عائلة البغلي عليها من خلال شركة البغلي للنسيج (محمد طاهر البغلي وشركاؤه)، واستمرت في تطوير صناعتها ليصبح (بشت البغلي) الأكثر شهرة في الكويت ومنطقة الخليج، ومصنعه المقام في منطقة صبحان هو المصنع الوحيد للبشوت في الكويت».

ومما ورد في التحقيق أيضا على لسان عميد العائلة، أن والده الحاج طاهر أحمد البغلي ولد في الكويت عام 1900 بحي الشرق وصار واحدا من أشهر تجار البشوت في الكويت والخليج العربي، وكان محكما بين التجار في سوق البشوت، وقد أطلق اسمه على أحد شوارع الكويت في منطقة الرميثية. كما أشار الرجل إلى أن عائلته تملك شهادة صادرة من شركة CARLHIAN الفرنسية تفيد بأن البغلي كانوا يستوردون منها خيوط الزري وبعض المستلزمات الأخرى الداخلة في صناعة البشوت منذ عام 1927، علاوة على وثائق أخرى تفيد بامتلاك العائلة لمحلات في سوق قيصرية البدر، التي بناها المرحوم ناصر البدر في عشرينات القرن العشرين زمن الحاكم الشيخ مبارك الصباح، قبل انتقال تلك المحلات لقيصرية فهد السالم عام 1939، التي سميت بسوق البشوت والزل.

مأساة صادمة في تاريخ العائلة

لم تكن صناعة وتجارة البشوت هي العمل الوحيد الذي مارسته العائلة، فطبقا لعميدها أحمد طاهر البغلي، فإن أولاد عمه محمد وحسين حسن البغلي مارسوا تجارة الأقمشة، بل كانوا أول من زاول هذه التجارة منذ العام 1946، وحققوا فيها نجاحات مشهودة قادتهم إلى المشاركة في مصانع لإنتاج الأقمشة بإسبانيا، موضحا أن محلاتهم بدأت في سوق البنات وكانت متخصصة آنذاك في بيع الملابس قبل أن تنتقل إلى شارع فهد السالم وتتخصص في أثواب الأعراس، إلى أن استقرت أخيرا على تجارة أقمشة الستائر والتنجيد مع الاهتمام بالتراث الكويتي من خلال إدخال نقوش السدو عليها.

كما أن تجارة وصناعة البشوت لم تكن المجال الوحيد الذي خاضه عميد العائلة نفسه. فإضافة إليها دخل شراكة مع أخيه الحاج عبدالرسول طاهر البغلي مجال صناعة الإسفنج بدءا من عام 1974، وذلك من خلال «شركة البغلي لصناعة الإسفنج» التي قدمت للمستهلك أول مرتبة إسفنجية متكاملة مصنوعة في الكويت، إضافة إلى منتجات إسفنجية أخرى مثل الوسائد والألحفة. لاحقا طورت الشركة أعمالها وخطوط إنتاجها، حيث تحولت إلى «شركة البغلي لصناعات الإسفنج ــ أحمد طاهر البغلي وأولاده» المعروفة اختصارا باسم «البغلي للإسفنج»، وراحت تركز على إنتاج المراتب الصحية وتصديرها إلى الدول العربية والأجنبية بعد تغطية احتياجات السوق المحلية.

وأخيرا فإن العائلة كانت في صيف عام 2015 على موعد مع مأساة صادمة في تاريخها، مشابهة لما حدث عام 1974 لعائلة تجارية خليجية أخرى هي عائلة السلطان العمانية، مع اختلاف الزمان والمكان والتفاصيل. ففي الخامس من شهر أغسطس من تلك السنة فقد أثر عميد العائلة السابق «محمد طاهر البغلي» أثناء قضائه إجازته الصيفية في بلدة «كيا» الرومانية الواقعة على بعد 135 كيلومترا شمال العاصمة بوخارست على نحو ما اعتاد على مدى العشرين السنة السابقة، حيث قيل إن الرجل البالغ آنذاك 79 عاما خرج للتريض حاسر الرأس مرتديا «الدشداشة» الخليجية، وممسكا بعصا من الخشب الأسود عليها نقوش من الفضة، لكنه لم يعد إلى مقر إقامته وانقطعت أخباره.

وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي قامت بها الشرطة الرومانية وحرس الحدود ورجال الدفاع المدني والسفارة الكويتية في بوخارست، بالتعاون مع متطوعين من المنطقة، ممن عرفوا البغلي وأحبوه وقدروا له مساعداته الإنسانية والخيرية لهم ولمؤسساتهم وثمنوا له اختياره لمحافظة براهوفا الرومانية مكانا لاستثماراته الكبيرة، فإنه لم يهتد إليه وظلت مسألة اختفائه لغزا محيرا إلى اليوم.

وكما جرت العادة في مثل هذه الحوادث تعددت الفرضيات، فكان هناك من طرح فرضية انزلاقه في مجرى مائي، أو فرضية وقوعه فريسة لدب جائع من دببة الأحراش المجاورة، أو فرضية أن يكون قد ضل طريقه. غير أن الفرضية التي كانت الأكثر تداولا هي تعرضه للخطف بقصد الحصول على فدية، لكن حتى هذه اُستبعدت لاحقا لأن العائلة لم تتلق أي اتصال من أي جهة. وفي عام 2018 أعلنت العائلة، دون جدوى، عن مكافأة مقدارها مليون يورو لمن يدلي بمعلومات عن اختفاء الرجل.