اجتماع «المائدة الطويلة» لا يزال يثير التكهنات. (وكالات)
اجتماع «المائدة الطويلة» لا يزال يثير التكهنات. (وكالات)
-A +A
ياسين أحمد (لندن) OKAZ_online@

لم تترك الأزمة بين روسيا والغرب، في شأن سيادة أوكرانيا، وسيلة إعلامية في الغرب إلا وطغت على تناولها الإخباري طغياناً تاماً. وهو أمر يمكن فهمه من خلال المخاوف الأوروبية من أن يتسبب عناد «الدب الروسي» في اندلاع أول حرب في القارة العجوز منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في سنة 1940، مخلّفة أكثر من مليوني قتيل. غير أن الوباء العالمي لا يزال حاضراً بقوة، على رغم زحزحته من صدارة المتابعات الإعلامية، بسبب أوكرانيا. ومن بين ركام العراك الروسي-الغربي حدثت أخيراً ملابسات مهمة على مستوى عالٍ، ربما لم تحظَ بما تستحقه من أضواء، في أتون التراشقات الإعلامية بين موسكو والعواصم الغربية. فقد كانت موسكو محطّاً لعدد من الزعماء الغربيين، الذين زاروها قبيل اتخاذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قراره الاعتراف بجمهوريتين منشقتين في الشرق الأوكراني، ما أدى إلى فرض سلسلة من العقوبات الاقتصادية القاسية على روسيا. وكان أبرز أولئك الزعماء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي قاد وساطة للجمع في باريس بين بوتين ونظيره الأمريكي جو بايدن، لتبديد التوتر، وتلافي تفاقم الأزمة. كما زار موسكو المستشار الألماني أولاف شولز.

من أبرز الملاحظات خلال زيارتي الزعيمين لروسيا رفضهما الخضوع لفحص PCR على أيدي مضيِّفيهما في الكرملين، قبيل لقاء بوتين. ولما لم يُعرف عن كلا الزعيمين الغربيين أيةُ مناهضةٍ للإجراءات الهادفة لمكافحة الوباء؛ فقد خلص المراقبون إلى أنهما لم يريدا أن يعطيا الجانب الروسي فرصة استخلاص عينة من حمضهما النووي الريْبي، من خلال عينة فحص كورونا. ومعروف أن فك أسرار الحمض النووي الريبي سيوفر للاستخبارات الروسية معرفة أدق الأسرار الشخصية المتعلقة بالشخص المعني. ويرى علماء كثر أن معرفة أسرار الحمض النووي ستكون أهم أسلحة ترسانة التنافس الاستخباري بين الدول خلال الفترة القادمة. ومنهم من يروْن ذلك قريباً، فيما يراه آخرون سابقاً لأوانه.

وعلى رغم أن أياً من الزعيمين الفرنسي والألماني لم يتهم روسيا صراحة بمحاولة معرفة معلومات حمضه النووي؛ فإن ذلك لم يوقف التكهنات المتزايدة بهذا الشأن. لكن مسؤولين فرنسيين أشاروا إلى أن روسيا اشترطت قواعد محددة لتمكين ماكرون من الاقتراب من بوتين. ولوحظ أن بوتين اختار لقاء ماكرون وشولز على مائدة طويلة، بحيث كانا متباعديْن جداً أحدهما عن الآخر. وهو ما أذكى بدوره التكهنات في شأن مزاعم محاولة استدراج ماكرون لإعطاء مسحة فحص. وقال مسؤول فرنسي إن الشروط الروسية للجمع بين بوتين وماكرون كانت «غير مقبولة»، و«غير متسقة» مع أجندة الرئيس الفرنسي؛ فيما قال المتحدث باسم الحكومة الألمانية ستيفن هيبستريت إن المستشار شولز اتبع الإجراءات الألمانية الرسمية المتعلقة بمقابلة الأعيان الأجانب. ولو طلبت روسيا منه الخضوع لفحص كورونا كان سيتم ذلك بحضور الطبيب المرافق للمستشار الألماني على متن طائرته الخاصة. وأضاف المتحدث الألماني أن الجانب الروسي شدد على أن الفحص يجب أن يكون روسياً. فما كان من شولز إلا أن أبلغ مضيِّفيه بأنه لن يخضع لأي إجراء من ذلك القبيل.

وأكد العلماء أن الحمض النووي للفرد موجود في كل خليّة من خلايا الجسد. ويمكن أخذ عينة منه بطرق عدة، منها مسحة الأنف؛ على رغم أن مسحة الأنف التي تؤخذ لفحص PCR تستهدف مادة وراثية مختلفة، وهي الحمض النووي الريبوزي RNA. لكن مسحة الأنف تحتوي في واقع الأمر على قدر كبير من عينات الحمض النووي الريبي DNA. وتتيح أسرار الحمض النووي للاستخبارات المعنية معرفة التاريخ المرَضي للزعيم الأجنبي، ومعرفة ما إذا كان له أقارب يمكن استغلالهم بشكل معادٍ لبلاده.

بيد أن علماء آخرون يرون أن الذهاب إلى أن بالإمكان استغلال أسرار الحمض النووي لزعيم دولة لمصلحة دولة أخرى أمر فيه قدر كبير من خصوبة الخيال. وتساءلوا: لو عرف الروس أن ماكرون مثلاً يواجه مخاطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم... ماذا سيفيدهم ذلك؟! وقالوا: صحيح أن الحمض النووي يتيح أسراراً شخصية عدة. لكنه لا يقدم وصفة سحرية لمعرفة كيفية اغتيال الزعيم المعني.

غير أن خبراء في شؤون الاستخبارات يؤكدون أن روسيا يمكن أن تستغل مثل هذه المعلومات الحساسة لابتزاز قادة غربيين بالتهديد بنشر أسرار شخصية وعائلية قد تتسبب في إحراجهم، أو تهديد مستقبلهم السياسي. وفي الولايات المتحدة، يشترط البيت الأبيض على كل زعيم أجنبي زائر أن يخضع لفحص PCR قبل لقاء الرئيس جو بايدن. وإذا كان الزائر بحاجة إلى الفحص، فإن الوحدة الطبية التابعة للبيت الأبيض مجهزة لتقديم هذه الخدمة. لكن البيت الأبيض لا يمانع إذا أبرز مرافقو الزعيم الزائر نتيجة فحص تم إجراؤه بمعرفة دولته.