سجناء يعملون في المجال الزراعي.
سجناء يعملون في المجال الزراعي.




جانب من احتجاجات حركة أنتيفا.
جانب من احتجاجات حركة أنتيفا.
-A +A
تقرير: خالد عباس طاشكندي Khalid_Tashkndi@
حين اندلعت الاحتجاجات على وفاة الأمريكي من أصول أفريقية جورج فلويد في 26 مايو الماضي بعد 24 ساعة من إعلان وفاته خلال عملية اعتقال تعسفية من قبل شرطة مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا الأمريكية، كانت الأسباب الظاهرية لحركة الاحتجاجات التي اتسعت رقعة انتشارها لاحقاً لتشمل جميع أرجاء الولايات المتحدة، منحصرة في عنف الشرطة والعنصرية ضد السود، وهي قضية لها جذور تاريخية وولدت انطباعات دائمة في المجتمع الأمريكي بانعدام المساواة والعدالة الاجتماعية بين البيض والسود، وعادة ما ترتبط بذريعة التظلم التاريخي من العبودية والعنصرية التي تعرض لها الزنوج الأمريكيون، ولكن تغير هذا الوضع منذ عقود وأصبح جميع المواطنين سواسية منذ إقرار قانون الحقوق المدنية في 1964 الذي يحظر التمييز العنصري على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو الأصل القومي، ولذلك كشف تطور الأحداث أن المسألة أبعد من أن تكون قضية مقتل شاب أسود على يد شرطي أبيض تحت دواع عنصرية، فالتوظيف السياسي الممنهج من داخل اليسار الديموقراطي كشف أن قضية «فلويد» ما هي إلا قمة جبل الجليد التي تخفي تحتها صراعات متشعبة ومتعددة الأوجه، فالنظام الأمريكي «الرأسمالي» خلف صراعاً طبقياً نتيجة الفجوة الهائلة التي أحدثها بين الأثرياء (1%) وباقي الطبقات الأخرى (99%)، وهذا الصراع نشأت معه وتولدت على إثره صراعات الأفكار والأيديولوجيات المناهضة للمبادئ الراسخة للرأسمالية الأمريكية، وهذه الصراعات خرجت عن نطاق الصراعات التقليدية داخل نظام الحزبين المهيمنة على السلطة (الجمهوري والديموقراطي)، ورغم أن صراع الأيديولوجيات قديم في التاريخ الأمريكي ومضت على وجوده عقود عديدة ولكنه متجدد ويتطور، وعادة ما يبرز على السطح بكامل عنفوانه مع الأزمات الكبرى على مختلف أصعدتها أيديولوجياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، ولعل من نافلة القول إن النزعة أو النعرة الاشتراكية -إن جاز التعبير- تطل برأسها مع كل أزمة اقتصادية في بلاد العم سام، ظهرت على سبيل المثال مع أزمة الكساد العظيم (1929-1933)، وخلال أزمة الركود في 2008، ووقفت خلف حراك «احتلوا وول ستريت» في 2011، ومع أزمة جائحة كورونا أخيراً.

وتجلت حقيقة هذا الصراع مع اتهامات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لليسار الراديكالي بأنه يقف وراء تأجيج احتجاجات مقتل «فلويد»، ولكنه اختزل الصراع في منظمة «أنتيفا» و«الأناركيين»، وربط بينهما، فكلاهما يلتقيان في انتمائهما لليسار واليسار المتطرف ومناهضة الرأسمالية واعتناق الأفكار الاشتراكية وما يدور في فلكها من أفكار شيوعية وماركسية ومستجدة مثل «النيو يسارية» و«النيو اشتراكية» و«النيو ماركسية»، إلخ..، ومنظمة «أنتيفا»، التي تعني مناهضة الفاشية، لديها توجهات تتخطى هذا المسمى، فهي مناهضة أيضاً للنازية والرأسمالية والنيوليبرالية (الرأسمالية المطلقة)، ولكنها أقرب إلى التنظيم العصابي حيث تحمل توجهاً فوضوياً صريحاً بجنوحها إلى العنف في مواجهة العنصرية واليمين المتطرف وجميع معارضيها، بينما «الأناركية» أو «اللاسلطوية» هي فلسفة سياسية يفسرها البعض على أنها تعني «الفوضوية»، ولكنها حركة لها مفكرون وتاريخ طويل ممتد منذ منتصف القرن التاسع عشر وتفرعت منها عدة مدارس فكرية في أوروبا وأمريكا، وفي إطارها العام، تعارض «الأناركية» وجود السلطة بتسلسلها الهرمي التقليدي، وتسعى إلى مجتمع تدير شؤونه مؤسسات المجتمع المدني بدلا من الدولة، ونشأ هذا الفكر في أمريكا تزامناً مع ظهور الأحزاب الاشتراكية الأمريكية والحركات العمالية في الولايات المتحدة، واتسمت «الأناركية» في بداياتها التاريخية بالعنف لكنها طورت أفكارها وأنتجت حركات أقل تطرفاً مثل «الأناركية السلمية» و«اليسار الأمريكي الجديد»، ولا يسع المقام هنا لشرح تفاصيلها.


ولكن الصورة الأكبر للصراع الحقيقي الذي بات يشكل تهديداً وجودياً للنظام الأمريكي القائم على الرأسمالية أكثر من أي وقت مضى في تاريخ الولايات المتحدة يكمن في عودة الأفكار والأيديولوجيات الاشتراكية بعد نحو قرن من إقصائها عن المشهد السياسي الأمريكي، وذلك نتيجة لسلسلة من العوامل التي ساهمت في إخراجها من القمقم المختبئة فيه، ومهدت لها العودة والانتشار داخل المجتمع الأمريكي بعد أن أوجدت مساحة لها داخل اليسار الديموقراطي «الفضفاض» خلال السنوات القليلة الماضية، لتتسلل لاحقاً إلى الشارع الأمريكي.

الهيكلية السياسية والأمن الأيديولوجي الأمريكي

نشأت الولايات المتحدة الأمريكية على الأمن الفكري، وقام دستورها على أساس أن تكون دولة بلا أحزاب، ولذلك لم ينتمِ جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة، إلى أي حزب طيلة فترة رئاسته (1789-1797)، ثم شهد العقد الأخير من القرن الثامن عشر ظهور الحزب «الجمهوري الديموقراطي» كمعارض للحكومة الفيديرالية، ولاحقاً انقسم الحزب في منتصف القرن التاسع عشر ليشكل «نظام الحزبين» الأشبه بجناحين داخل حزب واحد، وهما «الديموقراطي» (حزب اليسار) و«الجمهوري» (حزب اليمين)، ولا توجد فروقات أيديولوجية عميقة بين الحزبين، بل يوجد تداخل أساسي بين الأفكار والسياسات الفعلية للحزبين اللذين يختلفان في «الرتوش» وكيفية الوصول للغاية ذاتها، لذلك يلتقي الحزبان لا محالة في الخطوط العريضة للسياسة الأمريكية القائمة على «الرأسمالية» والرامية إلى الهيمنة بكافة أوجهها والحفاظ على موقعها كقائد لهذا العالم.

كما توجد ثلاثة أحزاب أخرى مسجلة رسميا، «الليبرتاري» و«الخضر» و«الدستوري»، ولكنها أحزاب ثانوية صغيرة وهامشية، في بعض الأحيان تفوز بمناصب رئيسية على مستوى الولاية، ولكن غالبًا ما تكون المناصب المحلية غير حزبية.

والسمة المشتركة في تاريخ جميع هذه الأحزاب هي «الأمن الأيديولوجي»، حيث لا أفكار معادية للديموقراطية والحرية والرأسمالية، وهي القيم الأساسية المشتركة التي نشأت عليها الولايات المتحدة.

أوباما «الجمهوري».. وترمب «الديموقراطي»

ولا يجد أي من الحزبين (الجمهوري والديموقراطي) المهيمنين على السلطة في الولايات المتحدة حرجاً في التداخل المنهجي واقتباس السياسات والأفكار والتوجهات، فكما أسلفنا لا توجد فروقات أيديولوجية عميقة بين الديموقراطيين والجمهوريين لأن النظام منذ نشأته تعمد ألا يخلق فوارق جوهرية قد تقوض مبدأ «الرأسمالية»، ولهذا اتبع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما (الديموقراطي) سياسة إدارة الرئيس بوش الابن (الجمهوري) لإنقاذ وول ستريت بعد الأزمة المالية في 2008، متخلياً عن دعم المواطنين الذين خسروا منازلهم بسبب الإفلاس الناتج عن التعثر عن السداد وتراكم فوائد الديون الباهظة على العقارات، كما واصل أوباما حرب بوش على الإرهاب مع بعض التغييرات الطفيفة في الاستراتيجيات، من بينها التركيز على العمليات العسكرية التي لا تتطلب مواجهة مباشرة، مثل استخدام الطائرات المسيرة (الدرونز)، حيث أظهرت إحصاءات الحرب على الإرهاب خلال فترة الرئيس جورج بوش الابن قيام القيادة الأمريكية بشن 57 ضربة باستخدام الدرونز ضد قيادات وعناصر «القاعدة» في أفغانستان، بينما تضاعف ذلك الرقم 10 مرات في عهد الرئيس السابق باراك أوباما ليصل إلى 563 ضربة، وهو ما يعتبر على العكس تماماً من سياسات الديموقراطيين التي تميل إلى التردد في استخدام القوة العسكرية وتدعو إلى الزيادة البطيئة في الميزانيات العسكرية. وعلى صعيد سياسات الهجرة، رحّل أوباما عددا أكبر من المهاجرين غير الموثقين مقارنة بأعداد الذين تم ترحيلهم في عهد بوش الابن، وفي وقتٍ أسرع، وهو ما يخالف توجهات للديموقراطيين الذين يعتقدون أن عملية طلب اللجوء يجب أن تكون أسرع وأن الترحيل الجماعي ليس هو الحل لجميع المشاكل المتعلقة بالجريمة والبطالة، كما رفع أوباما من وتيرة خصخصة التعليم، بينما الديموقراطيون عادة يسعون إلى مجانية التعليم.

أما الرئيس الأمريكي دونالد ترمب فقد أظهر الخطاب الذي ألقاه عقب مراسم تنصيبه في 20 يناير 2017، أنه يحمل الكثير من أفكار الديموقراطيين واليسار بشكل لافت، فمن بين ما قاله ترمب في خطاب التنصيب: «يجب إعادة توزيع الثروة على المواطنين كافة»، وقال: «يجب النهوض بالصناعة الوطنية، وإعادة تشغيل المصانع المغلقة، وردّ حقوق المهمشين من أبناء الشعب»، وأضاف: «في مدن الداخل أمهات وأطفال يحاصرهم الفقر، ومصانع ضربها الصدأ، تنتشر مثل شواهد القبور في أنحاء بلادنا.. اشتروا المنتجات الأمريكية ووظفوا المواطنين الأمريكيين»، وأكمل: «سنحمي الاقتصاد الأمريكي.. إن الحماية ستقود إلى ازدهار عظيم وقوةٍ عظيمة». هذه المضامين تتماهى مع رؤى اليسار الديموقراطي في مسألة التدخل الحكومي في إدارة شؤون الاقتصاد وإجراء الإصلاحات الاقتصادية، وهو على النقيض تماماً من رؤى الجمهوريين التي تميل عادة إلى الليبرالية الاقتصادية وتقليص دور الحكومة في فرض سياساتها على الشركات والمصانع.

الأمن الفكري ومقصلة مكارثي

حماية «الأمن الأيديولوجي» من أي أخطار فكرية وأيديولوجيات مؤثرة، كانت السمة المشتركة في جميع الإدارات الأمريكية، هذا المبدأ تم تطبيقه بشدة مفرطة مع ظهور الاشتراكية الأمريكية التي تأسست أوائل القرن التاسع عشر، ونشأت معها في ذات الفترة أيضاً «اللاسلطوية» (الأناركية)، وانخرط الاشتراكيون بمختلف نزعاتهم وأطيافهم في المنظمات العمالية الأمريكية الأولى، وبدأت الأحزاب التي تدور في فلك الأفكار الاشتراكية في الظهور، بداية من حزب «العمال الاشتراكي الأمريكي» الذي تأسس في 1877 ثم الحزب «الاشتراكي الأمريكي» (1901) و«الحزب الشيوعي الأمريكي» الذي تأسس في 1919.

وفي أعقاب الثورة الروسية البلشفية عام 1917 حين ظهرت أنشطتها الفوضوية التي بدأت تمتد إلى الدول الأوروبية، انتشرت حالة من الخوف بين الأمريكيين من احتمالية نهوض الشيوعية أو الأناركية أو اليسارية المتطرفة داخل البلاد ووجود تهديد محتمل من الحركة العمالية الأمريكية بإحداث ثورة فوضوية وانتشار الراديكالية السياسية، وأطلق على تلك المرحلة «الخوف الأحمر» (1917-1920)، وأدت معارضة الحزب الاشتراكي الأمريكي دخول أمريكا في الحرب العالمية الأولى إلى التوجه نحو القضاء على الحزب وسجن الكثيرين من أعضائه ورموزه وفي مقدمتهم يوجين دبس رئيس الحزب الاشتراكي الذي حكم عليه بالسجن 10 سنوات.

وبعد الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ظهرت المرحلة الثانية من «الخوف الأحمر»، بعد أن وجدت السلطات الأمريكية أن أمنها الفكري أصبح في خطر، لم تتردد عن اتخاذ كل ما يلزم لتجريم واجتثاث الاشتراكية والشيوعية بكافة أطيافها وكل ما يقع تحت مظلتها من لجان وأعضاء ونقابات، وبدعم من الحكومة الأمريكية نشأت «المكارثية السياسية» نسبةً إلى السيناتور جوزيف مكارثي، الذي كان رئيساً لإحدى اللجان في مجلس الشيوخ، واشتهر بأسلوبه في توزيع الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بالأدلة، وبناء على تلك الاتهامات تمت محاكمة الكثيرين ممن لهم علاقة بالاشتراكية والشيوعية والماركسية حتى على صعيد الميول الفكرية والزج بهم في السجون، والإجهاز كذلك على الحركات العمالية والمثقفين اليساريين داخل أمريكا، ودب الرعب بين الأكاديميين اليساريين في الجامعات الأمريكية خشية من وصفهم بـ«الماركسيين»، وطالت محاكم التفتيش عن الشيوعية في أمريكا جميع المواطنين، حتى موظفو وزارة الخارجية الأمريكية كانوا يُتهمون بالشيوعية ويتعرضون للمحاكمة والفصل من وظائفهم، ومن بينهم دين أتشيسون الذي كان وزيراً للخارجية في فترة الرئيس ترومان، وذلك بعد أن وصفه مكارثي بالشيوعي.

وأفضت محصلة حملة مكارثي إلى سجن أكثر من 200 شخص بتهمة أنهم شيوعيون يعملون لمصلحة الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى فصل أكثر من 10 آلاف موظف والتنكيل بهم وفق تهم ملفقة، ومن هؤلاء مارتن لوثر كينغ، والعالم الفيزيائي ألبرت أينشتاين، والروائي آرثر ميللر، والممثل الكوميدي تشارلي تشابلن. من بعد تلك الحملات توارت الاشتراكية الأمريكية بكافة أشكالها واختفت من المشهد السياسي الأمريكي، وظلت لسنوات عديدة تعد من المحرمات الفكرية في الولايات المتحدة.

«النيوليبرالية».. الكابوس الأمريكي

قاد النظام الرأسمالي الولايات المتحدة إلى قمة العالم، وجعلها أرض الأحلام، حيث الحرية والرفاهية والمساواة في الحقوق ووفرة الفرص الوظيفية والاستثمارية، هذا ما تروج له ماكنة الإعلام الأمريكي منذ عقود تحت مسمى «الحلم الأمريكي»، ولكن مع الزمن ظهرت أعراض مرضية لهذا النظام الرأسمالي نتيجة التطورات النمطية التي طرأت عليه مثل ظهور «النيوليبرالية» (الليبرالية الجديدة)؛ وهي أيديولوجيا رأسمالية متطرفة تؤمن بالرأسمالية المطلقة، أي خلق اقتصاد حر لا تفرض عليه أي قيود حكومية مع التوسع في خصخصة جميع القطاعات بما في ذلك قطاعات الصحة والتعليم وعدد من القطاعات الأمنية وتقليص القطاع العام إلى أدنى حد ممكن، فالغاية الأساسية هي الربحية المادية، وبدأت تطبق بشكل واسع منذ عهد الرئيس الراحل رونالد ريغان في الثمانينات إلى يومنا هذا، وأدت إلى خلل كبير في توزيع الثروة وحالة متنامية من «انعدام الأمن الاقتصادي لدى الغالبية العظمى من الأمريكيين»، بتسببها في اتساع الفجوة بين متوسط دخل الأثرياء الذين يشكلون 1% ومتوسط الدخل لدى الـ99% الآخرين، فعلى سبيل المثال بلغ إجمالي ثروة أغنى 5 أثرياء فقط في الولايات المتحدة العام الماضي أكثر من 435 مليار دولار؛ أي أن ما يعادل 2% من إجمالي الناتج المحلي لأمريكا يستحوذ عليه خمسة أفراد فقط، وكذلك أغنى 10% يستحوذون على 47% من إجمالي الدخل القومي.

وبحسب ورقة بحثية حول معدلات «اللامساواة» في الولايات المتحدة، صادرة عن معهد السياسة الاقتصادية في 2018، وهو مركز أبحاث غير حزبي وغير ربحي يقع في واشنطن، تحصل نسبة الـ1% (الأثرياء) على عائد سنوي يبلغ نحو 25 ضعف فئة الـ99% الآخرين، وفي ولاية نيويورك على سبيل المثال بلغ متوسط الدخل السنوي لأسرة من فئة الـ1% نحو 2.2 مليون دولار سنوياً، بينما يصل متوسط دخل الأسرة من الـ99% أقل من 50 ألف دولار سنوياً، وفي ولاية كاليفورنيا بلغ متوسط الدخل السنوي لأسرة من طبقة الـ1% نحو 1.5 مليون دولار سنوياً، بينما يصل متوسط دخل الأسرة من الـ99% أقل من 40 ألف دولار، هذا التفاوت الكبير بين الغني والفقير موجود بنسب متشابهة ومتقاربة في جميع الولايات الأمريكية.

توحش الرأسمالية.. «بيزنس» السجون نموذجاً

تعد خصخصة السجون الأمريكية التي ازدهرت استثماراتها في السنوات الأخيرة من النماذج الصارخة على توحش الرأسمالية والنيوليبرالية، مساهمة في ارتفاع مخيف في أعداد السجناء الذين بلغ تعدادهم عام 1972 أقل من 300 ألف سجين، وارتفع بحلول عام 1990 إلى مليون سجين، وفي الوقت الحاضر، تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى عالميا من حيث تعداد السجناء نحو 2.3 مليون شخص بما يعادل 25% من إجمالي المساجين في العالم، ويوجد في الولايات المتحدة 1833 سجن ولاية، و110 سجون فيديرالية، و1772 سجناً للأحداث، و3134 سجناً محلياً، و218 سجناً لاحتجاز المهاجرين، وظهرت خصخصة السجون الأمريكية كنشاط تجاري للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة عام 1984 عندما تم منح الشركة الأمريكية للإصلاحيات (Core Civic) عقداً بموجبه تم تسليمها جميع مهمات إدارة وتشغيل أحد السجون في مقاطعة شيلبي بولاية تينيسي، وفي العام التالي نالت هذه الشركة شهرة أكبر حينما قدمت عرضاً للسلطات بتسلم وإدارة وتشغيل جميع السجون في ولاية تينيسي مقابل 200 مليون دولار، إلا أن الصفقة تعطلت بسبب بعض العراقيل القانونية التي تتعلق بالجانب التشريعي في الولاية.

وفي عام 2013، بلغ عدد السجناء في سجون تتولى شركات القطاع الخاص إدارتها وتشغيلها أكثر من 133 ألف سجين، أي ما نسبته 8.4% من إجمالي عدد السجناء في الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، كما تشير بيانات صادرة عن مكتب إحصاءات وزارة العدل الأمريكية إلى أنه منذ عام 2000 إلى 2017 ارتفع عدد السجناء في السجون الخاصة بنسبة 39.3٪، مقارنة بالزيادة الإجمالية في السجون بنسبة 7.8٪، وفي 6 ولايات (أريزونا، إنديانا، أوهايو، فلوريدا، تينيسي، جورجيا) ازداد عدد نزلاء السجون الخاصة فيها بأكثر من الضعف خلال هذه الفترة الزمنية، وفي 2017 تم احتجاز أكثر من 26 ألف شخص من المخالفين لنظام الهجرة في سجون خاصة؛ وهو ما يعادل 73٪ من إجمالي المحتجزين المخالفين لنظام الهجرة، وتضاعفت أعداد المهاجرين المحتجزين في السجون الخاصة منذ عام 2000 إلى 2017 بنسبة 442٪.

وقد أصبحت بنوك وول استريت أكبر مستثمر في قطاع السجون الخاصة، فقد قام بنك «ويلز فارجو» باستثمار نحو 100 مليون دولار في شركة «GEO Group» وقرابة 6 ملايين دولار في الشركة الأمريكية للإصلاحيات (Core Civic)، ومن بين كبار المستثمرين أيضاً «بنك أمريكا»، وشركة «فيدليتي انفيستمنتس»، و«جنرال الكتريك»، و«مجموعة فانجارد»، كما ارتفعت قيمة السهم الواحد في الشركة الأمريكية للإصلاحيات من دولار واحد عام 2000 إلى 34.34 دولار عام 2013 (مات تايبي، الظلم الأمريكي في عصر فجوة الثروة، 2014، صفحة 214-216)، وبحسب تقرير منشور على موقع شبكة «CNBC» الإخبارية بتاريخ 11 نوفمبر 2016، شهدت أسعار أسهم الشركات التي تدير السجون الأمريكية الخاصة ارتفاعاً هائلاً بالتزامن مع فوز الرئيس ترمب في الانتخابات.

وقد لا يصدق البعض أن السجون الفيديرالية المخصخصة والمعروفة باسم «يونيكور» تحولت إلى ما يشبه المجمعات الصناعية، حيث تنتج السجون بنسبة 100% من إنتاج السوق المحلية للخوذات العسكرية، وأحزمة الذخيرة والسترات الواقية من الرصاص، والشارات، والقمصان والسراويل والخيام والحقائب وأدوات الطبخ والطعام، كما تنتج أيضاً 93% من جميع الدهانات، و92% من مواقد المطبخ، و36% من الأجهزة المنزلية، و30% من السماعات ومكبرات الصوت، و21% من الأثاث المكتبي (غريغ باراك، علم الجريمة، ص 146)، وهناك صناعات أخرى عديدة استقطبتها شركات السجون بسبب العمالة شبه المجانية (السجناء) حيث تشير العديد من التقارير إلى أن أجورهم تتراوح بين 30 سنتاً إلى دولار ونصف في الساعة، كما أن السجناء ليس لديهم حقوق شبيهة بحقوق العمال من حيث الحد الأدنى للأجور وساعات العمل والإجازات والتأمينات، ولا شك أن هذه السياسة غيرت مفهوم إصلاحية السجون، التي ستزداد مدخولاتها وأرباحها مع كل سجين جديد يدخل إليها، وهذا ما يضع تفسيراً منطقياً حول أسباب تشدد قوانين العدالة الجنائية والأمنية وآليات ضبط واعتقال المتهمين والمشتبه بهم.

أزمة الطبقة الوسطى

لم يكن اتساع الفجوة بين الأثرياء والطبقات الاجتماعية الأخرى وجشع الرأسمالية يشكل تهديداً قوياً للنظام الرأسمالي الأمريكي، خاصة أن خلل توزيع الثروة قائم منذ سنوات عديدة، والسبب يعود إلى أن شريحة الـ99% تحتوي على نسبة مرتفعة من «الطبقة المتوسطة» بالغة الأهمية، بينما نسبة الفقر أقل من 12% من إجمالي السكان، ولكن التطور الخطير الذي حدث هو تآكل الطبقة المتوسطة تدريجياً منذ أزمة الرهن العقاري التي طرأت في 2007-2008، وهذه الطبقة المتوسطة تعد الضمان الأكبر لتوازن أي مجتمع، وأكدت دراسة أجراها مركز «بيو» للاستطلاعات نهاية عام 2015 على تراجع نسبة الطبقة الوسطى في المجتمع الأمريكي منذ السبعينات، إذ بلغ تعداد الطبقة المتوسطة في عام 1971 نحو 80 مليون نسمة بما يعادل نصف السكان آنذاك مقابل 51.6 مليون نسمة لإجمالي الطبقتين العليا والدنيا، وفي 2015 بلغت أعداد الشريحة الوسطى 120.8 مليون نسمة مقابل 121.3 للطبقتين العليا والدنيا، وتراجعت كذلك نسبة الثروة لدى الطبقة المتوسطة من 62% عام 1970 إلى 43% في 2014، وجاءت نتائج تقرير «الثروة العالمية» التي أعدها بنك «كريدي سويس» في 2015 عن أكبر الطبقات الوسطى في العالم صادمة وكارثية، فرغم أن ثروة الطبقة الوسطى في أمريكا هي الأكبر بين دول العالم، ولكن الوضع يختلف وينقلب رأساً على عقب عند تقييم نسبة ثروة الطبقة الوسطى من إجمالي قيمة الثروة بالدولة، حيث حلت في المرتبة الأخيرة على القائمة المؤلفة من 21 دولة، ولم يتعد نصيب الطبقة الأمريكية الوسطى من إجمالي الثروة 19.6%.

المؤشرات الحالية تؤكد أن وضع الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة متجه نحو الأسوأ، وقد أكد على ذلك رئيس الاحتياطي الفيديرالي الأمريكي جيروم باول، خلال خطاب له أمام مؤتمر بشأن أبحاث التنمية في مايو 2019، داعياً إلى وضع «سياسات عامة سليمة» لمساعدة مزيد من الأمريكيين على الانتماء إلى الطبقة الوسطى التي تتراجع باضطراد، قائلا: «إنّ أكثر من 80% من أبناء الطبقة الوسطى في الخمسينات كانوا قادرين على جني أموال أكثر من آبائهم، بينما يُحقّق ذلك الآن نصفهم فقط»، ما يعني أنّ الأُسر ذات الدخل المنخفض لديها فرصة أقلّ للانتماء إلى الطبقة الوسطى لتحقيق «مستوى أساسي من الأمن الاقتصادي».

الحرب القادمة

لقد كانت إنجازات الرئيس ترمب على الصعيد السياسي والاقتصادي إلى ما قبل أزمة جائحة كورونا وحادثة مقتل الأمريكي من أصول أفريقية جورج فلويد، كفيلة باكتساح غريمه الديموقراطي جو بايدن في انتخابات نوفمبر القادم، ففي غضون ثلاث سنوات من حكمه استطاع أن يوفر 7 ملايين وظيفة، وأن يرفع دخل الفرد بزيادة قدرها 7 آلاف دولار مقارنة بارتفاع قدره 975 دولارا خلال 8 سنوات من رئاسة أوباما، كما انخفض معدل البطالة بين الأمريكيين من أصول أفريقية لأدنى مستوى في التاريخ، لكن تداعيات أزمة جائحة كورونا الطارئة قلبت الموازين رأساً على عقب بعد أن قفز معدل البطالة من 3.5% في فبراير الماضي إلى 14.7% حالياً وفقدت أكثر من 20 مليون وظيفة في شهر أبريل الماضي.

هذه الملابسات أنعشت صراع الأيديولوجيات اليسارية الذي أصبح له تأثير قوي جداً في الشارع الأمريكي، حيث أظهرت حادثة مقتل فلويد تياراً راديكالياً يمثله «الأناركيون الجدد» (اللاسلطويين)، وهؤلاء يميلون إلى الثورة العنيفة واستغلال القلاقل الاجتماعية لإشعال الفوضى من أجل فرض مطالبهم بالتغيير ويقفون وراء المطالب بتفكيك صلاحيات الشرطة ورفع الحصانة عن أفرادها، وهناك منحى اشتراكي آخر يقدمه الديموقراطيون (النيواشتراكيون)، يستغل التداعيات الاقتصادية لأزمة كورونا ويروج لمبدأ توزيع ثروة الـ1% من المرفهين على الـ99% الآخرين وتوفير مجانية العلاج والتعليم وتحقيق المساواة والتضامن الاجتماعي لتحقيق الرفاهية الاجتماعية قياساً بنموذج «دول الرفاه» على غرار الدول الإسكندنافية، وهذا النموذج قام المستشارون الاقتصاديون للرئيس ترمب بإجراء دراسة بحثية مستفيضة عنه في 2018، وكانت خلاصتها أن قياس معدل الرفاهية بين النموذجين توصل إلى أن الولايات المتحدة أعلى رفاهية من دولة اسكندنافية مثل السويد بـ15%، وهو ما يبرهن على أن الجماهير الحالمة بمثل هذه النماذج تغيب عنها الكثير من الحقائق، ونسبة كبيرة منها انجذبت بعاطفية تجاه بعض الأفكار الاشتراكية الطوباوية.

المحصلة هي أن أمريكا اليوم منقسمة أيديولوجياً بين فريقين؛ أحدهما يسعى إلى مبدأ «المساواتية» الذي يندرج تحت قيم اشتراكية جديدة متعددة، والآخر يريد أن يبقي على مبدأ «التنافسية» تحت مظلة الرأسمالية وأنماطها المتعددة، الإشكالية أن المبدأين لا يجتمعان في أي منظور فكري «واقعي» حتى اللحظة، وأحدهما يجب أن يقضي على الآخر.