علي ثويني
علي ثويني




القط العسيري.. لوحات تراثية مميزة.
القط العسيري.. لوحات تراثية مميزة.
-A +A
علي ثويني
يقرن الجميع العرب وشبه القارة العربية بشفق الإسلام حصراً، وهو موعد متأخر في التأريخ التراكمي للمنجز الإنساني، فقد كانت تحف حواشيها حضارات كبرى في العراق ومصر والشام وفارس والهند والحبشة، ولا يمكن أن تستثني عنها منجزاً. إن ما يكتنف بيئتها من جفاف وتصحر اليوم، خلال دهور متأخرة خلت، ويمكن الاستدلال على ذلك فيما ورد في القرآن الكريم، بما يؤكد وجود المياه والقرى في أكثر من أربعين آية وتؤكد ذلك البحوث الحفرية والعلمية المعاصرة.

ثمة سؤال: هل كانت في تلك الأرض ثقافة أو حضارة؟، وهل كان لأهلها فنون عمرانية ومعمارية سابقة للإسلام؟. حيث يعد جل العلماء والباحثين المحدثين ومنهم فيليبي وتوينبي وفيلد وأحمد فخري وأحمد سوسة وغيرهم أنها الموطن الأصلي بما دعي لدى الغربيين بالشعوب «السامية والحامية» التي أقامت حضارات ومدناً في الهلال الخصيب ومصر وشمال أفريقيا، بُعيد هجراتها المتعاقبة منها وهذا يعني انتقالها ونقلها للحضارة إلى تلك الديار. وقد تعود آثار الاستيطان المعروفة الآن إلى الألف السابعة قبل الميلاد، وإن البحث المعمق يكشف الجذور المؤسسة لحضارات الشمال ولا سيما الأكدية والكنعانية وربما السومرية. وثمة دلائل كثيرة تشير إلى التشابه العجيب بين سكان الجزيرة وشمال أفريقيا في السحن والثقافة والعمارة، وحسبنا أن لمنطقة عسير الكثير من المشتركات بينها وبين تلك الأصقاع.


تشكل عسير اليوم إحدى المناطق الإدارية في جنوب غرب المملكة، حيث مساحتها 81.000 كم² وعدد سكانها حوالى المليونين وعاصمتها ومقر الإمارة فيها مدينة أبها وأميرها تركي بن طلال بن عبدالعزيز صاحب الرؤى والمشروع فيها. حيث تعد ثقافتها وبيئتها الطبيعية أفقاً واعداً ومتكاملاً للتنمية. وأن جمال ما أرسي فيها خلال قرن بعد التوحيد، من بنى تحتية وطرق فتحت العزلة عن أجزائها المزوية، وقربت المسافات وأنساق التواصل، لكنها تحتاج إلى عملية تنظيمية لدرء فوضى الاستخدام أو التلوث البصري وخلق فراغات جمالية لا تشذ عن أجمل منتجعات العالم، وتأسيس لخصوصية تستثمر الناس من سكانها الذين رحلوا إلى المدن الكبرى ونجحوا وظيفياً. ورغم ترددهم عليها لكن يمكن أن يشكلوا زخماً استثمارياً فيها.

وثمة مجهول في تأريخ عسير الأقدم، فقد وردت بأقدم نصٍّ في كتاب (صفة جزيرة العرب) للهمداني الذي عاش حتى أوائل القرن الرابع الهجري (ق:9-10م). حيث وردت تسميتها (إيفا) في المدونات القديمة، وهل هي مصدر مفردة (حواء) في اللغات الغربية يا ترى؟. ولا يخلو المكان العسيري من مواقع أثرية مهمة مثل (جرش) التي تحوي طبقات من أزمنة متعددة. واليوم نجد قلاعاً شاخصة لعهود سابقة مثل: قلعة أبو خيال الأثرية وقلعة شمسان وقلعة الدقل التاريخية، التي احتفظت بسمات المكان المعماري. وحري الإشارة بأنها نشأت كسوق وسطي لقرى تقطنها قبائل متعددة، أحاطت بقلعة ابن عائض (قصر الشدا) منذ 1237هـ- 1820م، وأمست القرى أحياء المدينة، واحتفظت بتسمياتها مثل (المناظر) وهي البؤرة الحضرية الوسطية، والبديع والخشع والنصب والمقابل، والذي أصبح متحف التراث الشعبي.

ويمكن تلمس ثراء واقع عسير المعاش، بعدما حافظ على وجوده حتى خمسة عقود خلت حينما أغوت الحداثة الناس بترك ما مكث من منجز تراثي ليبنوا بشكل لاعلاقة له بتراكم التجربة في نفس البيئة الموحية بقوتها التي شجعت الإنسان أن يقابل تحديها بتحد التفكير والتدبير حتى غلبتها واستمر وجودهم فيها.

وحسبنا أن تراث عسير يتمتع بميزة التطور الأفقي، أو الماكث الثابت عبر الأزمنة، بما يجعله الأغزر والأوفر والأقر بالمقارنة مع ما تبقى من تراث مناطق المملكة، وربما كان للبيئة الجبلية والتضاريس الصعبة وطبيعة العمائر وخامات البناء المستخدمة وطبيعة التجمعات الريفية المكرسة للتورية والإدغام مع محيطها، ومؤاثرة الإنزواء بل والاستقلالية والاكتفاء بنفسها، جعلها بمأمن من التغيرات التي حصلت خلال العقود المتأخرة، وكبحت تقويضها، يضاف لها العامل البشري الذي مكث أكثر ائتماناً ومحافظة، من خلال البناء على تخوم المواقع التراثية وعدم تركها عرضة للإزالة بل وحصلت عمليات ترميم عشوائية وبعض محاولات إعادة الاستخدام، بما أبقاها شاخصة. ورغم بعض الخراب الذي سببه الإهمال لكنه بقي أقل خطراً من الهدم المبرم الذي مارسته (بلدوزرات الحداثة)، حينما أزالت قرى ومراكز حضرية برمتها.

وثمة خمسة طرز في عسير تتبع بيئاتها تماماً وتحاكي نباتاتها تماماً، وكأنها متماهية ومتداخلة مع الطبيعة بشكل عجيب، وخامسها هي فيفاء التي احتفظت بالهيئات المدورة للمباني وكأنها مكثت من الأصل الأقدم. فمن تهامة وعششها مثل البرك والقحمة حتى منحدرات السرات وقراها مثل رجال ألمع ومحايل وبارق والمجارده، ثم بيوت الجبال وحصونها مثل السودة وباللسمر وتنومة وسراة عبيدة ثم مدن التلال المتموجة مثل أبها وخميس مشيط وبالقرن، حتى تخوم نجد والصحراء بواحاتها تثليث والبيشة. ورغم البيئة الاجتماعية القبلية المختلفة أحياناً، لكنها منسجمة في إيجاد مواقع وسطية لتبادل السلع، حتى أن مدنها كانت أسواقاً وسميت بأيام الأسبوع التي تقام فيها، لا بل إن ثمة طرقاً للقوافل اخترقت ثناياها ونقلت عنها ومنها ما تجود أو نقلت إليها سمات ثقافية، لكن ثمة محافظة وثبوت ظاهر في حياتها الاجتماعية.

وربما يكون مكوث طرز العمارة الخمسة في تراث عسير عدم خضوعها لمؤثرات خارجية غربية أو شرقيه كما حدث في الحجاز أو اليمن المتاخمتين، من جراء التأثيرات الآتية من الشمال في الشام ومصر، بل نجد في اليمن وحضرموت تأثيرات أتت حتى من شرق آسيا. وقد مكث الطراز الساحلي بمنأى حتى عن تأثيرات طراز البحر الأحمر المتاخم بسماته الخاصة. بل وبالعكس نجد نفحات من عمائر عسير قد وجدت في شمال أفريقيا سواء عمارة الواحات المحاكية لبيشة وتثليث أو حتى في جنوب إيبيريا والأندلس أين هاجر أهل عسير ونقلوا الكثير من سمات عمائرهم، حينما حلوا ببيئة مقاربة لبيئتهم الأولى، ولا نستبعد أن تسمية (المجاردة) كانت أساس تسمية مجريد -مجريط، التي تحولت من قرية إلى عاصمة إسبانيا تباعاً، ومازالت تحتفظ بتسميات عربية، لا بل إن أبراج جنوب إسبانيا التي تسمى (تورا) هي نفسها عنصر(القصبة) في تراث عسير.

نصنف عمارة عسير بأنها فطرية Vernacular نشأت وتطورت من حاجة الإنسان للمأوى في بيئة صعبة المراس، استطاع أن يذللها من خلال التفاهم والانسجام بين حالة طبيعية وظف معطياتها لصالحه. فقد ذهبت العمارة العسيرية لهدفها بشكل مباشر في الإيواء والحماية والعيش والإنتاج والتكاثر. وقد ساعدت العزلة في المحافظة على طرزها. وإذا حللنا التوسعات العمرانية التي نشأت حول القرى الفلاحية أو من خلال ثبات الأسواق في الموقع، فإن الحالتين لم تؤسسا لما ندعوه المركز الحضري أو التراثي (down Town) الذي لم يتبلور بشكل صريح، وربما كان سبباً في إهماله، وقد خلق وجوده بعض التشوهات في خضم التوسعات اللاحقة وشق الطرق الحداثية العريضة، والتي لم تأخذ بالحسبان منذ ستة عقود، إبان الصعود الحضاري في المملكة، تلك المراكز لتؤسس حولها خطوطها البؤرية أو المطوقة والالتفافية، أي يكون للمركز التراثي امتدادات توسعية وموقع وسطي يرمم ويعاد له التوظيف ضمن امتدادات وريدية وسياقات عمرانية عامة.

لقد اتسمت القرى بالنسيج التقليدي العضوي والمتضام لكنه كرس في الحداثة التشتت والعزلة والتفرد، بل إن البيوت الحداثية المتبارية بصرحيتها توظف حجرات قليلة فيها ويترك الباقي، وهذا يعاكس البيوت التراثية التي كان فيها لكل خطوة معنى ووظيفة وجدوى. والمجتمعات العسيرية مكثت تعاونية مؤثرة للتكافل والنخوة والعمل والمنتج المشترك، يشارك فيها الجميع رجالاً ونساء، حينما اضطلع الرجال بالبناء والنساء بالأعمال التزيينية والجمالية (فن القط التجريدي)، وهذا بحد ذاته ثراء تراثي، يمكن التعويل عليه والبناء على قواعده الرصينة، من خلال تطوير المهارات الفردية والجماعية، بأسلوب التعليم المكتسب بطرق منهجية علمية.

وغير المحافظة العمرانية، فقد عانى تراث عسير من الإهمال في التوثيق، فلم نجد الكثير من البحوث بخصوص العلاقة بين العمارة والمجتمعات وثقافتها، ومنها مثلاً اللسانية، كالاصطلاح وبقايا المفردات التي تغور في تأريخ المكان. وكان يفترض أن توثق وتصنف وتحلل من مصادرها في اللغات القديمة (المعينية والسبأية والحميرية والآرامية والأمهرية)، التي لا تبتعد عن عربيتنا اليوم كونها من جذر «جزيري» مشترك. وحسبنا أن ثمة حلقات مفقودة في تراث المكان العسيري يحتاج إلى ربط خيوط متقطعة مع ثقافات أخرى قريبة أو أبعد. ونعد عسير كنزاً ثقافياً منسياً لابد من الانتباه له.