ما إن وطئت قدماي ثرى المدينة المنورة حتى أحسست أنّ قلبي يسبقني إليها شوقًا، كأنّ الروح تُساق إلى مألفها الأول، وإلى الرحاب التي تطهّرت بأنفاس المصطفى صلى الله عليه وسلم، كانت الطريق المؤدية إليها تبدو لي كأنّها صفحة من نور تُهيّئ الوافد لاستقبال ما ينتظره من سكينة وطمأنينة، وما إن دخلت حدودها حتى انكشف أمامي وجهٌ آخر من البهاء، وجهٌ تصنعه القلوب قبل الأبنية، وتصوغه السجايا قبل المظاهر. لقد أحسست في تلك اللحظات بأنّي لا أعبر مدينة كبقية المدن، بل أدخل عالمًا من الطهر اختاره الله ليكون مهاجر خاتم الأنبياء، ومهبط السكينة، ودار الأنصار الذين قدّموا للعالم أوّل درس في الإيثار والوفاء.


وفي إمارة المدينة المنورة وجدت ما يدهش القلب قبل العين، فقد كانت حفاوة الاستقبال أشبه بحديقة من المشاعر النبيلة، تتفتّح في وجوه القادمين دون تكلّف أو تصنّع، لقيت من البشاشة والترحيب ما جعلني أوقن أنّ الكرم في المدينة ليس صفة عارضة؛ بل هو طبعٌ راسخ يسري في أبنائها كما يسري العطر في نسيمها الطيب، وقد انعكست في وجوه موظفي الإمارة ملامح هذه السجية الأصيلة؛ فكلٌّ منهم كان يحرص أن يقدّم لي ما يظنّه يُدخل السرور على قلبي، وكأنّهم يتوارثون عن أسلافهم واجب الاحتفاء بالضيف، ويدركون أنّ القادم إلى المدينة ضيفٌ على إرث نبوي قبل أن يكون ضيفًا على بشر.


وكان في نفسي شوق كبير لأن ألتقي بأمير المدينة المنورة الأمير سلمان بن سلطان، لما سمعته عن نشاطه وحسن قيادته وبصماته التي تتجلّى في كل جانب من جوانب المدينة، وكنت أرجو أن أحظى بلقياه، وأن أهنّئه بما رأيت من أثر جهوده في انتظام العمل وازدهار المرافق، غير أنّ الظروف لم تُسعفني بأن أُحقق تلك الأمنية، لكنّ غياب اللقاء لم يحجب عني أثره، فقد عكست الإمارة بهاءً يدل على يقظة راعيها، كما دلّ حضور موظفيه وسعة صدرهم على مدرسة إدارية محكمة، يحرص فيها الأمير على أن تكون للإنسان قيمته، وللضيف مكانته، وللمدينة صورتها التي تليق بتاريخها.


وقد نهض السيد أمين من مكتبه، ومعه سائر الحاضرين، بما يملأ النفس تقديرًا وإعجابًا؛ إذ كانوا مثالًا في حسن الاستقبال، والرغبة الصادقة في الإكرام، والاحتفاء الكريم الذي يسبق الطلب ويغني عن السؤال، أحسست وأنا بينهم أنّ المدينة لا يتغيّر طبعها، وأنّ أهلها، على مرّ العصور، يحملون من إرث الفضيلة ما يجعلهم أقرب إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي بارك أرضهم وقلوبهم، فما من داخل إلى المدينة إلا ويشعر بأنّ ثمة يدًا غير مرئية ترفق به، وروحًا مشرقة تحيطه بعطف خاص لا يوجد في غيرها.


إنّ المدينة المنورة ليست مجرّد موضع جغرافي أو محطة زمنية في تاريخ الإسلام؛ بل هي معنى متجدد يسكن الروح قبل أن تسكنه الأجساد. فيها يتجلّى الكرم لا بوصفه عادة اجتماعية، بل بوصفه خُلقًا رساليًا يُورّث من جيل إلى جيل، فمنذ اللحظة التي دخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إليها، استقبلته بسطوع من النور وشلال من الإيثار، وفتح الأنصار قلوبهم قبل بيوتهم، وآثروا المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فوقاهم الله كل خصيصة شح علقت بأنفسهم، ومنذ تلك اللحظة والمدينة تُحسن استقبال كل وافد، وكأنّها تُعيد معه مشهد الهجرة الأول، وتُضفي عليه من روحها ما يعيد للقلوب توازنها، وللنفوس سكينتها.


ولعلّ سرّ هذه المدينة أنّها تسقي القادم إليها من معين البركة قبل أن تُطعمه من خيراتها. فإذا مشى فيها المرء أحس أنّ خطواته أصبحت أكثر خفة، وأنّ همومه تتوارى شيئًا فشيئًا خلف ضياء المنائر الخاشعة، وأنّ روحه تتعافى كلما لامست نسيمًا مرّ من جوار الحرم النبوي الشريف. وربّ معاناةٍ دخلت المدينة مثقلةً، فخرجت منها وقد انحلّ عقدها، وتبدّد ثقلها، فهي مدينة جعل الله فيها سكنًا ورحمة لمن دخلها آمنًا، وبارك في أرضها وأهلها، فكانت بحقّ طيبة المطيّبة، المطهّرة الآمنة المؤمنة.


وهكذا، بقيت المدينة في خاطري مرآةً للفضيلة، وموئلًا للسكينة، ومثالًا نادرًا على اجتماع الجمال المادي والروحي معًا. وكلما ذكرت حسن استقبال إمارتها، ونبل أخلاق أهلها، أيقنت أنّ ما يجمعهم جميعًا هو فيض من النور الأول الذي أشرقت به هذه الأرض، يوم حلّ بها النبي الكريم، ففاضت بركاته على سكانها وزائريها إلى قيام الساعة.