الملك فيصل بن عبدالعزيز يتحدث للكاتب سمير عطاالله.
الملك فيصل بن عبدالعزيز يتحدث للكاتب سمير عطاالله.
سمير عطا الله
سمير عطا الله
سمير عطا الله متحدثا للزميل علي مكي. (تصوير:مديني عسيري)
سمير عطا الله متحدثا للزميل علي مكي. (تصوير:مديني عسيري)
.. وصورة أخرى تجمعه بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.
.. وصورة أخرى تجمعه بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.
-A +A
حاوره: علي مكي ali_makki2@
كآخر حراس المقالة اليومية، يقف الكاتب العربي الشهير سمير عطا الله متصدراً المشهد القرائي اليوم، بفضل حفاظه على لياقته الكتابية بشكل مستمر، ودفاعه عن قضايا الإنسان العادلة، وأخيراً تدثره بلغة أدبية يمكن للقارئ العادي أن يستوعب دلالتها بيسر وسهولة.

مر بالعديد من المحطات والصحف والمدن، ولكن لأكثر من ثلاثة عقود صار الوجه الآخر لصحيفة الشرق الأوسط والمعبر الأجمل لمدينة الضباب لندن. هنا، وبعيدا عن لندن التي يحب، وفي جدة التي يكتب فيها أجمل فصول حياته، التقينا به في هذا الحوار الذي صال وجال فيه من الخصوصي جدا، إلى الفضاء العام بكل أريحية وصراحة وجَمال.


هنا، يسجل شهادته لـ«عكاظ» عما شاهده ورآه من تغيير كبير في المملكة، كما يكشف الكثير من أسراره عن الأسماء المستعارة وأصدقائه من أدباء وساسة وصحافيين، وغيرها من المؤشرات المهمة.. هنا نصّ الحوار:

• أستاذنا سمير، نرحب بك عازف المقال اليومي في المملكة العربية السعودية، ضيفاً على «عكاظ».

•• أولاً اسمح لي قبل أن أبدأ بأي شيء أن أوجه تحية قلبية عالية لخادم الحرمين الشريفين الذي تشرفت بمعرفته منذ فترة طويلة ورافقت مسيرته العظيمة في البناء أيضاً منذ سنوات طويلة جداً، كما أريد أن أوجه التحية إلى وجه الاستمرارية والحداثة والتقدم والتطور في المملكة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وأنا ممن أنعم الله عليهم بالعمر وشهدت الاختلاف الهائل ما بين المملكة التي عرفتها أنا منذ الستينيات وما بين المملكة التي أشاهدها الآن. لا أريد أن أقول إنني لا أصدق ما أرى، بل أنا بالعكس أصدق ما أراه، أنا شاهد أيضاً بين شهود كثيرين على رجل البناء والعمران الأول في المملكة الذي هو الملك سلمان بن عبدالعزيز.

نعيش الآن أو تعيش المملكة ومن معها من عرب ومن حلفائها وأصدقائها ومعجبيها والمسلمين في العالم مرحلة مشابهة من العمران الذي تحدث عنه ابن خلدون الذي هو أساس المدنية والتطور، ولكن على صعيد آخر مختلف إلى حد لا يصدق بالنسبة إلى رجل مثلي، هو مستوى التطوير ومستوى الحداثة والسرعة في التطبيق وتنفيذ الرؤية التي تحدث عنها الأمير محمد بن سلمان وأهداها، وقدمها للمملكة منذ وصوله إلى سدة ولاية العهد.

وقد قلت هذا الكلام، أكرر التحية مجددا لسيدي وصديقي العظيم وسيدي خادم الحرمين الشريفين وأرفع له كل التحيات القلبية الصادقة والأمر نفسه لولي العهد.

قراءة 1000 سطر

• كل هذه السنوات الطويلة تكتب المقال من عام 1987 كأنه عزف على الكمان، من أين استقيت كل هذه الينابيع وما زلت بالفتوة واللغة الفاتنة العالية نفسها؟

•• أولاً الفتوة مش نفسها، بس الحمد لله أننا قادرون على الاستمرار. عندي نظرية بسيطة، أسميها نظرية لأنه ليس لها اسم ثانٍ، وهي أن من يريد أن يكتب سطراً عليه أن يقرأ ألف سطر. غير ذلك لا يمكن الاستمرار لا سنة ولا 2 ولا 34 أو 35 سنة كما هو حاصل الآن. لا بد دائماً من معين ثقافي، من حسن حظي أني أضفت له الثقافة العينية بمعنى السفر، أسفار كثيرة بدأت عمري الصحافي ولا أزال والحمد لله، من عام 1961 كان عمري 20 سنة. فالسفر أفادني كثيرا، السفر كما يقال وتأكد لي مدرسة كبرى، مدرسة إذا شئت التعبير مدرسة مختبرية، كما يذهب العالم إلى المختبر يتعلم الكيمياء والفيزياء، هكذا الصحافي المسافر يرى الأمور كما هي بأرضها وأحداثها وتاريخها، كما تذهب إلى موسكو تغطي مؤتمر نيكسون بريجينيف ترجع بكنز وثروة لفترة طويلة، ليس فقط ليومها، فأنت تغطي أحداثا تاريخية وتشاهد صناعة التاريخ بموقعها بكل مصادرها، بكل عناصرها، من أجل ذلك الصحافة. الصحافي يسمي نفسه متذللاً، وغير صحيح أنها مهنة المتاعب بل هي مهنة المتعة. مهنة جميلة تعرفك على كبار القوم في أي مكان، وتعرفك على المثقفين، وتضعك في أجواء لو لم تكن صحافياً ما وصلت إليها. فيه باب ومفتاح خصوصاً إذا الإنسان نجح والحمد لله إلى حد ما في هذه المهنة، وكان مفتاح النجاح الأساسي هو النشاط. فلن تنجح وأنت جالس وراء مكتبك. هذا شيء أضاف لي بالمخزون الذي تحكي عنه.

قصتي مع «الشرق الأوسط»

طبعاً المخزون الأساسي كان ولا يزال بفضل الله هو القراءة، والقراءة إما أن تكون شغفاً أو لا تكون. لا يقدر أحد أن يحب القراءة ما لم يكن مشغوفاً بها، وقد ولدت وعشت مشغوفاً بالقراءة ولا أزال، هذا أفادني كثيراً بحياتي العملية وحياتي المهنية، ما كنت أتخيل أن أكون ذات يوم كاتباً يومياً بـ«الشرق الأوسط» مدة 35 سنة، لكني طبعاً مارست الكتابة اليومية من قبل في «النهار» وغيرها من الصحف اللبنانية، لكن الآن جريدة «الشرق الأوسط» الوضع مختلف، الصحف اللبنانية تتوجه للبنانيين، المصرية للمصريين، بينما صحيفة «الشرق الأوسط» تتوجه إلى كل العالم العربي، إلى العرب جميعاً، والعرب في كل مكان، فقبل ظهور وانتشار الإنترنت كانت «الشرق الأوسط» تطبع في كاليفورنيا، تقرأها هناك بأمريكا، أو تطبع في الدار البيضاء وتطبع في لندن، 14 طبعة. الآن الإنترنت صار أهم بكثير.

وربما أني ساهمتُ في «الشرق الأوسط» ضمن إطاري وحجمي، ساهمت فيها، لكنها أعطتني أكثر بكثير مما أعطيتُها، فقد أعطتني القارئ العربي في كل مكان، ووجهتني أن أتوجه إلى القارئ العربي، وبالتالي ما عادت اهتماماتي قاصرة على تطورات لبنان أو أوروبا، فقد صرت أتوجه إلى كل قارئ عربي في مصر والمغرب، وهذه بالنسبة لي تجربة مهمة كثيراً، لأنه قبل «الشرق الأوسط» لم يكن هناك في العالم العربي إلا الصحافة المصرية على صعيد أوسع من بلدها. ومصر كانت كأمر طبيعي محتكِرة الصحافة والكتاب الصحافيين، «الأهرام» أهم جريدة، محمد حسنين هيكل أهم صحافي، أحمد بهاء الدين، ما كان هناك صحافيون غير مصريين. «الشرق الأوسط» ساهمت في تغيير هذا الأمر، وجريدة «الحياة» طبعاً في ما بعد، ساهمتا في وجود كاتب عربي، لا مصري فقط، بل كاتب عربي فلسطيني أو لبناني، مغربي، جزائري، حتى موريتاني. فالحقيقة أن هذا التغيير الذي أجرته صحيفة «الشرق الأوسط» في طبيعة الصحافة العربية، تغيير للتاريخ، ليس بالتغيير البسيط، لما ننظر إليه الآن بعد هذه السنين، 36 سنة، حين ننظر إليه بعين المؤرخ أو المحلل، فقد لعبت «الشرق الأوسط» أولاً دوراً أول في الصحافة العربية، في السياسة العربية، ثم دوراً مهماً في الثقافة العربية، في السياسة العربية، فقد صارت في متناول الناس أمور ما كانوا يصلون إليها. مثلاً كانت تطبع في الدار البيضاء يومياً، وما كان للمغاربي وقتها صحافة مثلما هي الآن، فكان القارئ المغربي يطلع على «الشرق الأوسط» كما كان يطلع على الـ«لوفيجارو» الفرنسية. فلا بد أن نأخذ دور «الشرق الأوسط» بعين الاعتبار.

تجربة «النهار».. ودروس الملك سلمان

• نعود إلى تجربتك الصحافية اللبنانية، ما أهم تجربة؟

•• أهم تجربة دون شك هي «النهار»، لأنها كانت في عزها، من أول الصحف بلبنان، ما كانت صحيفة عادية بل صحيفة مدرسة، تخرج صحافيين دون إلقاء دروس وصفوف، جاء زملاء صحافيون من صحف ثانوية، بمجرد دخولهم «النهار» لمعوا، وأصبحوا صحافيين مميزين جداً، لأن طريقتهم بالعمل تتغير مجرد دخول هذه المدرسة التي كان عميدها وأساسها الأكبر الأستاذ غسان تويني صاحب الجريدة وهو مثال ونموذج هائل بالصحافة العربية. وهي مثلما كنت أقول عن الملك سلمان، يحفظه الله، إنه أستاذ دون أن يدري ودون أن يعلم لكنك تتعلم منه، لا يعطيك دروساً فهو يمارس عمله وحياته العامة وأنت تتعلم منه. وهكذا كان الأستاذ تويني في «النهار»، وهكذا كانت «النهار» بالنسبة للصحافة اللبنانية ارتفعت كثيراً بمستوى الصحافة على كل الأصعدة، كتابةً وتحريراً وتصويراً وكل فنون الصحافة.

وكنت محظوظاً إذ بعثتني «النهار» لتغطية الأحداث الكبرى في العالم.. انتخابات الرئاسة الفرنسية، قمة موسكو بين نيكسون وبريجينيف بموسكو، ثم صرت متخصصاً ومنفرداً بتغطية الأمم المتحدة فترة طويلة من السنين وكان هذا جزءا مهما بحياتي الصحافية، لأن في الأمم المتحدة تطل على كل العالم، وتتعرف على حركة العالم، بدلاً من ذهابك يوماً إلى فرنسا ويوماً إلى روسيا ترى أمامك كل هذا الكون وسط قاعة تراقب حركتهم وتقابل أناساً مهمين وبصورة خاصة الأمناء العامين، فلما أقابل أحداً منهم أعرف وأفهم منهم ماذا يدور في العالم وخلفيات القرارات، وأسباب المؤتمرات والقمم، فتكون لديك مزايا مختلفة عن الزملاء الجالسين خلف مكاتبهم.

ذكريات الاسم المستعار

• بكم اسما مستعارا كتبت؟ هلا حدثتنا عن قصة الأسماء المستعارة والكتب المزيفة؟

•• (ضحك كثيراً) بدأت قصة الاسم المستعار ولا تزال مزحة شرعية منا ليس فيها اعتداء على أحد أو انتقاص من حق أحد، بدأت بـ«الأسبوع العربي» أول بدايتي الصحافية. سمعت في المجلة أنهم يدفعون مبلغاً مجزياً مقابل ترجمة القصة القصيرة، كنت يومها مراهقاً، فقلت لماذا سأبحث عن قصة وأفني وقتي بالتفتيش والترجمة، فقررت أن أكتب قصة واخترعت أسماء روسية للبطل والكاتب، وكان ياسر الهراوي رئيس التحرير الله يرحمه وهو صحافي ومهني طبقة أولى، كان معجباً بتلك الترجمة وأخذ يطلبها مني وأنا طبعاً شاب تواق للسهر «بدي فلوس»، فصرت أكتب. ولجأت إلى حالة الاستعارة لما لقيتها أسهل من الترجمة. وبعدما كبرنا صار ياسر يطلب مني: زوِّر لنا، «شو عندك تزور لنا». وكان ممنوعاً في «النهار» الكتابة لصحف أخرى، فكنت أكتب لـ«الأسبوع العربي» باسم مستعار، كان يعطيني إلياس يومها راتباً أعلى من راتبي بـ«النهار»، حيث كنت أكتب بالتوقيع وأتقاضى 1200 ليرة لبنانية بينما أكتب لـ«الأسبوع العربي» وأتقاضى 1500 ليرة لبنانية. ثم صرت رئيس تحرير بأعلى راتب في الصحافة اللبنانية.

ثم صار الموضوع ثانياً مع السيدة علياء الصلح، ابنة الزعيم اللبناني الشهير ورئيس وزراء دولة الاستقلال رياض بك الصلح، كانت علياء شخصية مهمة جداً تكتب لـ«النهار» افتتاحيات سياسية تحرق البلد وتهز البلد، نزلت يوماً أهنئها برئاسة التحرير، قالت لي: «سمير انت بتقرا كتير، شو عم تقرا هالايام».. ما أحببت أن أقول لحظتها عن نفسي لا أقرأ، فقلت لها: «عم باقرا رواية اسمها هيلينا». قالت: «هيك اسمها بس». ثم استدركت: «حبيبتي هيلينا».. سألت: «من مؤلفها؟».. «روبرت اندرسون» هكذا أجبتها. لم تكتفِ بذلك، طلبت مني أن أعطيها الرواية، ووعدتها بأن أعطيها أول فصل، فنزلت أؤلف الفصل الأول!!

سلمت لعلياء الفصل الأول وفوجئت بها تقول: «ما بدي انطر بقية الفصول، جيب لي ياها، هلأ». كدت أحجم عن تزويدها ببقية الفصول. وصادف يوماً أن التقيت في مكتبها بزميلنا المشهور رفيق خوري، بينما هو يدخن الغليون وينفخ طالعني قائلاً: «دخلك يا سمير، روبرت اندرسون هيدا اللي عم بتترجم له مش وزير بريد أمريكا؟». فوجئت لكنني عقبت عليه: «لا.. هيدا روبرت إي أندرسون». قال لي: «صلحها».

لعبت اللعبة نفسها بمجلة «المستقبل» التي صدرت في باريس، كنت أكتب للصفحة الأخيرة دائماً، في يوم لم يكن لدي شيء، فأخذت نصوصا شعرية لشعراء إسبان مجهولين، فإذا بهم في المجلة يطلبون مني تزويدهم بدواوين وقصائد هؤلاء الشعراء.

كذلك نشرت في الملحق (ملحق «النهار») ونشرت شعراً بأسماء مستعارة خصوصاً الشعر المزعوم لاتينيا، أحياناً في حالات حب.

رواية جديدة باسم مستعار

مؤخراً بمناسبة رأس السنة، في مقالي الأسبوعي الأخير، افتتاحية «النهار»، شعرت بالملل والزهق من «اللبنانيات» وسخافاتها. فقلت لنفسي: اكتب شيئاً آخر. لا بد من الاختراع.. فكتبت نصاً بتوقيع الكاتب البرتغالي رودريغز دي سيلفا، وجلست أنقي أسماء واخترعت مدينة برتغالية ليس لها وجود. هذا النص اعتبرته نصاً عادياً، بينما أحدث ضجة بلبنان، فالناس لا تعرف أن هذا مُخْتَلَق. زميلنا الكبير جهاد الزين قال: مستحيل أن يكون هذا النص مترجَماً. مراسل «الشرق الأوسط» بمدريد شوقي الريس قال: «لا بد أن تكون زوّرت الاسم لأن هيدا الشاعر اللي ممكن يكون كاتبها بيسوا». يعني مصمم أنه برتغالي لكن الاسم فقط التبس عليه.

عبده وازن على صفحته بـ«الفيسبوك»، جاءته عشرات الرسائل تصف هذا النص بالروعة وبالعظمة. وعلقت رفيقتنا سوسن الأبطح: «نص رهيب». الوحيد الذي انفرد -قبلك وجمهور «عكاظ»- بمعرفة الأمر، هو عبده وازن الذي اقترح علي: لما لا تكملها رواية، ما دام أخذت هذا الصدى؟ لذا فإنني هنا في جدة بصدد كتابتها حالياً، وسأتركها بنفس العنوان «ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس» ونفس الأسماء «فرناندو، فابيوس، ميموزا» واسم الكاتب غير الموجود «رودريغز دي سيلفا»، وإن لم يكن هناك شيء غير موجود إلا أنا!

محمود درويش وإدوارد سعيد

• في فترة مجلة «الأسبوع العربي» كان محمود درويش في لبنان، حدثني عن صداقتك مع محمود.

•• محمود درويش رحمه الله، صديق حبيب، كلمة حبيب لا تليق بأحد كما تليق بمحمود، إن كنت صديقه أم لم تكن.. جاء من فلسطين شاعرا جديدا غير معروف لحظتها، وحامت حوله شكوك بعض التافهين وقالوا: إنه مدسوس من إسرائيل! وغيرها من التفاهات. عذوبة ولطافة وحلاوة شخصية محمود درويش جعلتني أول أصدقائه، وذهبت بالصداقة إلى أقصى الحدود، وبرغم ابتداء الخلافات الفلسطينية اللبنانية يومها يعتبر من الشجاعة أن أدعم محمود وقتها وأحاول إطلاقه. ظلت صداقتنا حتى وفاته، أحببته وما زلت أحبه كثيراً. كتب عني وكتبت عنه كثيراً، وأمر متوقع أن أكتب عن محمود وغير متوقع أن يكتب هو عني: «إنه شخص متميز بين كل هذه الرمال السائبة». وكتب ما أثار حيرة الناس وقتها «أنا مدين لسمير عطا الله»، فالناس تساءلت نتيجة عدم معرفتها «كيف يكون محمود درويش مديناً لسمير عطا الله»!

• ماذا عن علاقتك بإدوارد سعيد؟

•• أحترمه جداً، معرفتي به بسيطة من خلال أحد أهم أصدقائي في الحياة هو عبدالمحسن القطان، وهو شخصية فلسطينية ملهمة كان يرعى الأدباء والكتاب، خصوصاً إدوارد نال رعايته بدرجة أساسية لأنه فلسطيني تجمعهما القضية الفلسطينية. كنت كثيراً أقدر نص إدوارد وفكره، وما كنت أحب فيه عجرفته وتكبره. أكره الكبرياء، لهذا لم تكن صداقة إنما تعامل بتهذيب حيثما أراه أصافحه وأحضر محاضراته إذ لا علاقة للفكرة الأدبية بالشخصية.

• التهمة نفسها الموجهة لإدوارد سعيد أطلقت على درويش أيضاً بأنه متكبر.

•• لم ألحظ هذا الشيء بمحمود أبداً.. إطلاقاً.

نعمان اليمن

• تحدثت عن يمنيين كبار عرفتهم، وقلت إن أبوة الأستاذ أحمد نعمان أسَرتك وأن أسطورية (نعمان اليمن كما يسميه الشيخ عبدالعزيز التويجري) أضفت على لبنان شيئاً من الوقار كما كتبت عنه غير مرة. ماذا عرفت عنه قديماً وقرأت له أخيراً؟

•• قرأت له مذكراته وبعض مؤلفاته. وأنا ممن سعدت بحياتي الشخصية أنني عرفت الأستاذ أحمد نعمان عن قرب لأن في شخصيته شيئاً من الجمال، والجمالية في شخصيته بجانب كتابته، طريقته في الكلام. أولاً شكله كان مليئاً بالوقار، وهو من قرية باليمن أظن اسمها «ذي قار».. شخصيته ساحرة يتكلم بالفصحى، وتضيف الفصحى على هذه الشخصية نوعاً من السحر. يستشهد بالقرآن والشعر والنوادر، فكلمه ومجلسه كان تراثاً هائلاً بحد ذاته، وشخصيته مليئة بالعدالة، مثلما هي مليئة بالثقافة مليئة أيضاً بالعدالة والنبل، لا تحس أن لديه أعداء، ما تشعر أنه حكى عن عدو.. كان رجلاً كبيراً، وقامة حقيقيةً ورمزاً عملاقاً. الجلسة معه مليئة بالظرف الدائم، ظرف مضبوط «معدل ما بيطلع ما بينزل». جلسته فيها غنى لما فيه من نبل. بعد مقتل ابنه محمد (يرحمه الله)، كان صديقي قتله العراقيون بلبنان. طلع الأستاذ أحمد يومها إلى رئيس الجمهورية بلبنان، والدولة وقتها المفروض تحقق بالحادث فقال له بابتسامته التي ما غيرها رغم ذلك الظرف، قال للرئيس كما أذكر: يا فخامة الرئيس أتمنى عليكم ألا تحققوا وتبحثوا عن قاتل محمد، نحن نعرف القاتل، لبنان بلد صغير لا يحتمل هذا الموضوع، ومصابنا بفقدان محمد لا يعدل مصابكم في فقدان لبنان للأمن والاستقرار، فكفوا..

تصور أباً بهذا الموقف وقد فقد ابنه وزير خارجية اليمن، يهتم بلبنان أكثر.. هذه كانت شخصية أحمد النعمان.

الحديث اللبناني

• التشكيلات الحزبية بلبنان أفادت البلد أم أضرت به؟

•• أنهته، ألغته.. لأن التشكيلات الحزبية بلبنان كانت دائماً على ارتباط بالخارج، قليلة ونادرة جداً، التشكيلات المحلية التي تحمل الصدق مثل الاشتراكيين الأوائل، كثير من الحزبيين كانوا على خلق حتى جاءت الحرب وظهرت الأحزاب العنيفة الموغلة بالقتل والموت والسرقة ودخلت كل الموبقات التي تحدث في الحروب وتنتشر بالحروب. قبل الحرب بعض الأحزاب كانت لائقة بالبلد وبالعالم العربي.

• إلى أين لبنان ذاهب؟ هل يحتاج لبنان إلى عراف كما كتبت مؤخراً لكي نعرف مستقبله؟

•• لم يبقَ غير العرافين بلبنان. لبنان الآن في وضع الانهيار الكلي. التفكك.. لم يبق شيء اسمه لبنان، ولا وحدة حتى إذا متنافرة، فمن قبل كان حزب هنا وحزب هناك لكن مع وجود شيء اسمه لبنان. تعدى التنافر الآن وتخطى كثيراً بقاء لبنان كبلد صغير يحتضن كل هذا. الآن أحزاب مثل حزب الله، ذهبت خارج لبنان بلا عودة فأمين عام حزب الله يقول لك أنا جندي مجند لولاية الفقيه. وفي خطبه الرسمية يعلن «مالي من إيران وسلاحي من إيران!» في خطب متلفزة يصدر كلاماً رسمياً يعبر عن الحزب. هذه الأحزاب تركت لبنان علناً، وإن انضوى فيها بعض اللبنانيين كباراً أو صغاراً، ما عاد يمكن أن تحسبها لبنانية.

عودة إلى الكتابة اليومية

• أنت من آخر من تبقى من الجيل القديم لكتابة المقال، هل ترى الكاتب اليومي ما زال مقروءاً؟

•• الحمد لله، دائماً أطرح هذا السؤال على نفسي، أقول وأكتب أيضاً أنه عندما أرى شباباً يقرأونني، أعتبر هذا أفضل مديح لي حالما يستوقفني شاب تحت الثلاثين ويقول: أقرأ لك. فإنني أهتم بذلك كثيراً، عندما تجد أنك كتبت كثيراً بالأدب والفكر والسياسة تتساءل: هل بقي شيء أو موضوع تكتب عنه، وتستطيع أن تحافظ به على قارئك، حتى الذي بدأ يقرأ لك من 10 سنين، ما بالك بما قبل ذلك.. هل يمكنك أن تقدم له شيئاً مختلفاً. هذا الشيء المختلف أحاول أن ألاحقه دوماً. أتابع مؤشر الأكثر قراءة، لأعرف ماذا يتابع القارئ، ما الموضوع الشاغل له، والأهم لديه من بين ما أكتبه له. أين درجتي يومياً، فلا أنام قبل معرفة حركة المؤشر بالنسبة لي وأحياناً زملائي.

الكتابة اليومية كانت أسهل.. الظرف العام كان أسهل، وكنت أصغر عمراً، وهذا يلعب دوراً بطاقة الكتابة والقراءة، أكيد أخاف القارئ، فأسأل المَراجع، رئيس التحرير، مديري التحرير، أتلمس ردود الفعل، وإلا كيف يمكنني أن أعرف. وحين أسافر إلى الرياض، جدة، والكويت أسأل من يعرف، لا من يخبرونني عني، حتى تظل تعرف عما ستكتب وتبحث وهو أمر شاق غير بسيط. لا يتواضع أحد ويقول إن الكتابة اليومية بسيطة، ليست بسيطة أبداً، الذي يعطيني مجالاً أكثر من غيري أن مقالتي غير سياسية. فأي موضوع يمكنني الكتابة عنه، سفر، ثقافة.. هذا يعطيك حرية أكثر، فلو كانت سياسة فقط لما استمررت هذه المدة كلها.

الصحافة الورقية• الصحافة الورقية تئن وتعيش أسوأ حالاتها، هل تراها بداية عصر جديد؟ أم نهاية لعصر جميل؟

•• إن ما يصير بالصحافة اليوم، يصير بكل العقود، وأمر طبيعي الذي نراه ككل شيء جديد نستنكره وننزعج منه، لا نصدقه لكنه صار واقعاً، ما زلنا نقول الصحافة الورقية لكنها انتهت، أين كنت تدخل إلى الفندق ولا تلقى جريدة، أو تصعد على متن طائرة ولا تقرأ صحيفة، لقد انتهت مثل انتهاء عصر الإذاعة، والآن عصر التلفزيون في أوجه لكنه ينخفض بتصاعد وسائل التواصل والإنترنت. صار لديك اليوم 10 آلاف كاتب في العالم العربي بعدما كانوا 100، كم سيستمر وكم سيبقى من تلك الآلاف. الصحافة اللاورقية، الإنترنت تأخذ شكلها الجديد، حتى من ناحية الشكل انظر ما يحدث من تطوير للصحافة الإلكترونية بفنون عظيمة مثل تطور الصحافة الورقية بصفحات متعددة وضخمة. لقد دخلنا وقطعنا الآن مرحلة طويلة بالصحافة غير الورقية، والصحافة الورقية تتحول بنفسها إلى الإنترنت.

سر الراشد

• من تتابع في الصحافة السعودية؟ وكتابات الأدباء والكتاب الذين تتابعهم؟

•• معظم الذين يُتابَعون في الصحف السعودية التي أهتم بها كثيراً، بدايةً من «الشرق الأوسط»، وإذا فاتني من تجب متابعته نتيجة ضعف انتشار الصحافة الورقية، أسأل دوماً عما اذا كان ثمة جديد يجب متابعته.

سأكشف لك سراً، الوحيد الذي يهزمني بالمؤشرات عبدالرحمن الراشد، غير ذلك أنا، وإن كتب عبدالرحمن في اليوم نفسه معي فإنني لا أطلع على المؤشرات لأنه المقروء حتى آخر الليل.

لا فكر بلا عالم عربي جديد

• هل تعتقد أن هناك فكرا عربيا جديدا يتشكل هذه الأيام؟ أم هو إعادة إنتاج لأفكار قديمة؟

•• ليس هناك فكر عربي جديد لأنه ليس هناك عالم عربي جديد. من أين طلع الفكر العربي، طلع من نمو فكر العالم العربي الجديد، من الناس الذين سافروا إلى فرنسا تأثروا بالاشتراكية، ممن ذهبوا إلى أمريكا مجموعة جبران خليل جبران والرابطة القلمية رأوا عالماً آخر بأمريكا. الآن ليس هناك غير حروب عربية، قتل وسحل ودمار واقتصاد معدوم وتزوير وشتائم من أين سيطلع الفكر من تلك الحالة. لا يمكن أن يظهر، علماً بأن المجموعات الفكرية بالعالم على انحسار لأن الإنسان العادي كف عن احتمال المطولات الفكرية، وقتهم لا يسمح لهم لهذا نقول: الصحافة انتهت نتيجة هذه الأمور. في ما مضى كانت تأتيك جريدتك وليس لديك غيرها تقضي طول النهار تقرأها، اليوم تطالع العناوين وربما لا تقرأها وتمشي. ليس الحق على الجريدة بل على الظرف العام.

• ما هو التراث الذي يبقى؟ والتراث الذي يجب أن نتجاوزه؟

•• ليس هناك شيء يجب أن نتجاوزه، يبقى تراثا أو لا يبقى، لا نملك أن نقرر هذا، هو يقرر، لا أنت ولا أنا، نحن لا نقرر مصير التراث، فهو يصفي نفسه. انظر مثلاً حركة الشعراء ولست وحدك من سيرى معك أن بقي محمود درويش، بقي نزار قباني.. الباقون ليسوا تراثاً، إن كانوا مهمين وهم تراث سيكون هذا للخاصة والنقاد، ليس لك ولي. فالتراث بمعنى التراث الثقافي هو يحدد ويصفي.. هناك عدد من الشعراء والكتاب نجحوا لفترة معينة، ثم لم يعد يسمع بهم أحد.

وصفة إنقاذ• ما وصفة إنقاذ العالم العربي؟

•• العلم ولا وصفة أخرى إطلاقاً.

• هل العالم العربي جاهل؟

•• «أووف»، جاهل، بل مليء بالجهل.. إذا بمعدل الشهادات ما هو بجاهل، نسبياً لا. لكن بالنسبة للعلم بكل تأكيد جاهل.

• من المسؤول عن تجهيله؟

•• الأنظمة.. من غيرها؟ اليوم في سورية يقول لك أحافظ على اللغة العربية، وأمنع اللغات الأجنبية.. معقول! «بيسكر» اللغات الأجنبية، وتقول لي: «بدي أحارب إسرائيل». كيف ستحاربها وأنت تجهل لغة الآليات والمعدات التي تستعملها للحرب. هذه نظريتي لا أغيرها: لا حل آخر للعالم العربي غير العلم. ما دام لديك العلم على مستوى معين وانتشار معين، ستتمكن من التغيير. أنت ما تزال شاباً انظر إلى السعودية اليوم وما فيها من تغيير ستدرك أن العلم له دور كبير في هذا التغيير. فما هي «نيوم»، و«كاوست»، غير مرتع علمي يكفل التغيير بالعلم.

حتى رجال الأعمال الذين نجحوا في عالم المال والأعمال لولا علومهم ما كانوا أبداً.

مذكرات بلا ضجيج أخّرها الضيق

• مذكراتك.. لماذا تأخرت؟ كان المفروض صدورها العام الماضي.

•• بسبب أحداث لبنان مزاجي تعكر تماماً، جلبت الضيق الشديد على نفوسنا، لكنني أود استئنافها إن شاء الله.

• متى ستصدر إن شاء الله؟ وهل تتوقع أن تحدث دوياً أو ضجيجاً؟ أو أن فيها أسراراً مثيرة؟

•• إن شاء الله تصدر خلال الصيف، ولن تحدث دوياً بل ترحيب، ولست صحافي مشاكل وإثارة فما ادعيت أن عندي سراً من الفعاليات التي غطيتها بكل شفافية.