-A +A
صالح بن محمد الخثلان
ذكرنا في مقال سابق في هذه الصحيفة (عكاظ 2761440) أن مصادر القوة التي ترتكز عليها السياسة الخارجية السعودية تواجه تحديات ناجمة عن التغيرات الكبيرة التي شهدتها البيئة الدولية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، الأمر الذي يستوجب مراجعة شاملة لهذه المصادر من أجل ضمان تكيُّفها مع هذه التحديات. فالتغيرات التي شهدها العالم سواء أكانت جيوإستراتيجية أو تقنية أو اقتصادية أو فكرية شكّلت بالطبع تحدياً للسياسة الخارجية ولمصادر القوة لكافة الدول الكبرى على المستويين العالمي والإقليمي، ولذلك نلحظ تحديثاً مستمراً في معظم هذه الدول لما يعرف بعقيدة السياسة الخارجية من أجل ضمان نهج خارجي مستدام لصيانة وتعزيز المصالح الوطنية.

ولذلك حريٌّ بالقائمين على صناعة وتنفيذ السياسة الخارجية السعودية القيام (أولاً) بإجراء تقييم شامل للحالة الراهنة لمصادر القوة للمملكة و(ثانياً) مراجعة السياسة الخارجية من حيث المنطلقات والتوجهات والأوليات من أجل التأكد من وجود توافق وانسجام بين مصادر القوة من جهة والسياسة الخارجية من جهة أخرى تواكب هذه التغيرات الدولية.


هناك ثلاثة مصادر رئيسة للقوة السعودية هي؛ (1) مرتكزات الإسلام (مهبط الوحي ومهد الرسالة وقبلة المسلمين) التي منحت المملكة قوة روحية هائلة، (2) الثروات النفطية التي وفرت لها ثقلا كبيرا في الاقتصاد العالمي، (3) حسن إدارة هذين المصدرين بترجمتهما إلى قدرة مكَّنت المملكة من تحقيق قدر عال من التأثير السياسي إقليمياً ودولياً. هذا التأثير السياسي بلاشك تحقق من خلال التفاعل الإيجابي بين هذه المصادر والبيئة الخارجية التي تتحرك فيها السياسة السعودية، الأمر الذي يعني أن أي تغيرات جوهرية في البيئة تقتضي تكيُّف هذه المصادر معها ومن دون هذا التكيف فإن القيمة النسبية لمصادر القوة تتآكل.

وسنحاول هنا العرض باختصار شديد للإشكالات التي تواجه هذه المصادر لعل ذلك يكون فاتحة لمشروع حوار وطني واسع حولها يسهم في تحديد الخيارات المتاحة للتكيُّف مع المتغيرات في البيئة الدولية بما يضمن استدامة الحيوية لمصادر القوة واستمرار تأثيرها الإيجابي.

(أولاً) بالنسبة للقوة الروحية للمملكة نلحظ أن العولمة بكافة تجلياتها وكذلك ظاهرة التطرف العنيف شكلا تحدِيا حقيقيا للسلفية السعودية؛ فقد أصبحت تواجه بنقد مستمر يصل أحياناً إلى حد الاتهام بأنها صارت تمثل عائقاً أمام التقدم ولا تنسجم مع مقتضيات العيش الحديث القائم على التنوع والتعددية. والأمر لا يقتصر على اتهامات غربية للسلفية السعودية، بل تجاوز ذلك إلى تشكل قناعات في المجتمعات المسلمة ومنها المجتمع السعودي أن هذه السلفية بحاجة للتحديث والتجديد- إذا صح القول- وبدونه قد تتعرض للتهميش.

(ثانياً) القوة الاقتصادية المتأتية من النفط أصبحت اليوم تواجه تحديات مصدرها (أ) تعدد المنتجين، (ب) زيادة المصدِرين، و(ج) تنوع بدائل الطاقة. فالمملكة لم تعد أكبر منتج للنفط، كما أن الولايات المتحدة تحولت إلى تصدير النفط بعد أن كانت تستورده، وأصبح الغاز الطبيعي والطاقة النووية والمصادر المتجددة منافسا قويا للنفط كمصادر للطاقة. ونرى تأثير ذلك في اضطرار المملكة إلى التنسيق المستمر مع بقية المنتجين، وخاصة روسيا التي أصبحت أكبر مصدر للنفط خارج أوبك، ولعل في تصريح وزير النفط خالد الفالح بأنه يلتقي مع ألكسندر نوفاك وزير الطاقة الروسي أكثر من لقائه بزملائه في مجلس الوزراء دلالة على هذا التحول المهم والتراجع النسبي في القوة النفطية للمملكة. مؤشر آخر له دلالة يظهر من خلال مقارنة ردة فعل السوق بعد كل تصريح للوزير الفالح بردة الفعل على تصريحات الوزيرين السابقين يماني والنعيمي. بالطبع المملكة لا تزال الدولة الوحيدة التي تتمتع بطاقة إنتاجية إضافية لها تأثير هائل على أسواق النفط، لكن هذا لن يحول دون عبء التنسيق المستمر مع بقية المنتجين وبقدرة تأثير أقل مقارنة بالسبعينات والثمانينات.

(ثالثا) منهج إدارة مصادر القوة شهد أيضاً تغيراً مهماً وإن كان بالدرجة الأولى استجابة لاستحقاقات داخلية، إلا أنه جاء نتيجة غير مباشرة للتغيرات في البيئة الخارجية؛ فالمنهج الجديد يمثل تعبيراً عن قناعة عند صانع القرار بأن العالم اليوم يتطلب نمطاً جديداً من التحرك يختلف عما عهدته السياسة السعودية طيلة العقود السابقة، وجوهر هذا النمط الجديد هو السرعة والحيوية والحزم والمواجهة. والملاحظ أن هذا النمط الجديد مثل صدمة للآخرين بسبب اعتيادهم على التحرك الهادئ المتمهل الذي يؤثر الصمت. كما أن هذا النمط أثار ولا يزال يثير تساؤلات حول قدرته على الاستمرارية واستعداد المملكة لاستحقاقاته.

هذه مجرد أفكار أولية عن مصادر القوة السعودية ومدى تكيفها مع البيئة الدولية الراهنة، ولعل جهة رسمية أو مؤسسة أكاديمية تأخذ زمام المبادرة لتطوير وتعميق البحث حولها بهدف المحافظة على ما حققته المملكة من مكاسب وتعظيمها، والحد من الانعكاسات السلبية للتغيرات في البيئة الدولية على مكانة المملكة وقوتها.

رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشورى