-A +A
عبده خال
سيد الوقت الآن هو خروف العيد..

ولهذا الخروف ذكريات عظيمة لا يقدرها أبناء هذه الأيام، فأي شاب يستطيع التصور مع اللحمة في أي وقت وتستطيع أي فتاة أن تقوم بطهو اللحم في أشكال وأنواع كثيرة، ولا يكاد يخلو بيت من وجود أنواع اللحوم في أجهزة التبريد.. ولم يشعر أحد بانقطاع هذا المورد الغذائي، وكلما عدنا للخلف استشعرنا النعمة العظيمة التي نتمتع بها، ففي وجود المبردات يمكن الإبقاء على اللحم واستهلاكه لمدة زمنية كبيرة، فماذا كان يعمل الناس في ظل عدم وجود المبردات، ولو أردنا البدء من قصة الأعرابي الذي عرف ملوكا في زياراته وعرف الطقوس الصارمة المتخذة عند الوقوف بين يدي ملك، هذا الأعرابي وجد نفسه يقف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم مرتعدا، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم تهدئته فقال له:


«هوّن عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد»..

وفي هذا الحديث إشارة للطرق التي كانت تتبع لحفظ فائض اللحوم، وفي ظل عدم وجود حافظات كانت هناك وسائل حفظ بدائية منها تحويل اللحم إلى (قديد)، (والقديد من اللحم هو: لَحْمٌ مقطَّعٌ مُمَلَّحٌ مجفَّفٌ في الشَّمس والهواء).

ويبدأ التجهيز للقديد مع وفرة اللحم (في مثل هذه الأيام التي يكثر فيها الذبح) يقطع اللحم قطعا صغيرة وتجفف حتى لا تفسد من العوامل المناخية، وتنظم القطع الصغيرة في خيط (أو بدونه) وتترك حتى تجف حتى إذا أراد المرء استخدامه يطري بالماء وتوضع عليه السمنة ويقلب على النار فيعود لسيرته الأولى.

ونحن أبناء تهامة يكثر (هذه الأيام أيضا) أكلة اسمها (المحشوش)، ومن لا يعرف هذه الأكلة (ربما يسيل لعاب البعض منكم) ما هي إلا وسيلة حفظ قديمة بحيث يقطع اللحم قطعا صغيرة ويطبخ مع الشحم (الشحم ضروري جدا) ويوضع في إناء، وكلما أراد المرء أكل المحشوش أخذ من رأس القدر الكمية التي تكفيه بحيث لا تلامس يده بقية الأكل، ويمكن لهذه الطريقة إبقاء اللحم صالحا للاستخدام لمدة شهر أو أكثر.

من هذه (الحوسة) كلها أردت القول إن الإحصائيات نصت أنه تم -هذا الموسم- ذبح مليون أضحية بواسطة 8500 جزار ومتابعة 800 مراقب شرعي للذبح، ومليون ذبيحة كمية مهولة من اللحوم تفيض عن حاجة المساكين في مكة وبقية المملكة وأعرف تماما أن لحوم الأضاحي يتم نقلها إلى بلدان إسلامية عديدة، ومع وفرة اللحم والبرادات في جميع أنحاء العالم تصبح كمية اللحم أكبر من الحاجة ولا يستفيد المسلمون منها الاستفادة القصوى، ولهذا فإن الاجتهاد الفقهي بدفع ثمن الأضحية نقدا وتوزيع الأموال على فقراء مكة ستكون له فائدة عظيمة أكثر من فائدة اللحوم التي يمضغها الناس كل يوم ولو تم تثبيت دفع المال بدلا من الأضحية نصبح أمام مبلغ مهول، فمن (الشاطر) ليقوم لنا بعملية حسابية بسيطة، فالمعطيات تقول: لديك مليون أضحية سعر الواحدة منها ألف ريال فكم سوف تكون النتيجة.. كم من الفلوس وكم الفوائد التي سوف يجنيها الفقراء بدلا من اللحمة يمضغها يوميا؟.