-A +A
حسن بن عبدالله القرني
تسافر بي الذاكرة في زورقها الجميل إلى تلك الذكريات عندما كُنّا أطفالًا نرعى الغنم في قريتنا الوادعة، ونساعد جدي - رحمه الله - في جني ثمار البامية والكوسا والباذنجان، ويوزع والدي – رحمه الله – مزرعة البياض بيني وبين إخوتي لنحصدها ويشجعنا على ذلك بترديد الأهازيج.

لم نكن في تلك الحقبة نحتاج إلى الأسواق ولا نراها ضرورة لحياتنا فالماء من البئر والطعام متوفر في المزارع يُصنع بأيدي أهل القرية بدءًا من بذر البذور حتى تقديم الطعام وتناوله وغسل الأواني من قبل والدتي - حفظها الله - وأمد في عمرها على طاعته.


أكرم الله بلادنا بطفرة انتشلت المجتمع ولله الحمد والمنة في المجالات التعليمية والصحية والاقتصادية وحصلت تغيرات اجتماعية متتالية منها الصاعد ومنها الهابط، فأثرت على الأدوار، والممارسات الاجتماعية وزادت رفاهية الناس وهجرت مزارعنا وخف الرعي وفتحت أبواب الوظائف المريحة واستقدمنا الخدم والسائقين وأصبح التسوق جزءًا من حياة الناس والتنزه ضرورة اجتماعية وضعف الإقبال على العمل اليدوي فلم يعد مربحًا ولم يعد الناس يتكاتفون لإنجازه إذ أصبح الناس في ثراء ونعمة والعمال المستقدمون من الخارج يمارسون الأعمال بدلًا عنا.

نتيجة لذلك نشأ جيل من الشباب السعودي يحمل مقومات النجاح من الناحية التعليمية والصحية لكنه لظروف نفسية واجتماعية لا يمارس الأعمال الإنتاجية ولا يمكن من العمل فهناك من يخدمه ويقدم له الطعام الجاهز والثياب الفاخرة النظيفة، والسيارات المريحة ويبني له السكن المرتب. ويُعاب عليه العمل اليدوي إذ يوصف من يجني ثمار مزرعته بالبخل والفقر وضعف المكانة الاجتماعية. فأراد الشباب أن يتمكنوا من وظائف مرموقة فور تخرجهم ويجلسوا على الكراسي الفارهة ويحصلوا على الرواتب المجزية -ويرون أن مسؤولية الدولة دفع الرواتب لهم مهما كانت الإنتاجية- مما سبب بطالة بين الشباب وصلت إلى 12.8% لهذا العام.

وقد لاحظ خادم الحرمين الشريفين وولي العهد الأمين -حفظهما الله- هذه التغيرات الاجتماعية الهابطة فأضحى من اهتماماتهما تمكين الشباب السعودي وتسطير البرامج والسياسات الداعمة، إذ إن تمكينهم يعد وقود التنمية المستدامة ومفتاح التغير الاجتماعي الصاعد والنمو الاقتصادي والابتكارات التكنولوجية الواعدة.

ويُعد تمكين الشباب السعودي من المواضيع المحورية، إذ يرقى بالشباب إلى الولوج في الحياة الاجتماعية ويحقق مشاركة عادلة ومنصفة فيها، ويعي بقضاياه ومشكلاته ويذلل بنفسه العوائق التي تحول دون إشباع حاجاته.

ويمتلك الشباب السعودي دون شك طاقة حيوية وقوة وديناميكية ودافع يشد صرح مملكتنا الحبيبة ويرسم نهضتها وتنميتها ويسمو بالمجتمع ويرقى بالعلاقات وكل ما يحتاجه منا هؤلاء الشباب هو إثارة وعيهم وتنويرهم وإشعال شموع الأمل في حياتهم ودعم دورهم المحوري وتذليل العقبات النفسية والاجتماعية والبيروقراطية التي تقف حجر عثرة في طريق انطلاقتهم المباركة.

يبحث الشاب السعودي عن جهات موثوقة تحاوره تستمع إلى شكواه تسعى لتحقيق مطالبه تسمع وجهة نظره، ثم توظف طاقاته وتعترف بوجوده وبدوره، إذ إن الشاب السعودي هو المستقبل، وسيكون المستقبل مشرقًا إذا وجدت التوجيهات السليمة والإرشادات الواعية، وقد يخسر الوطن كنزه الثمين لو تُرك الشباب في دهاليز القلق وتحت صخرة الخوف من المستقبل أو كتموا أفكارهم ولم يعبروا عنها إلا بسلوك منحرف شاذ فيخسر الوطن أغلى ما يملك.

تدرك دولتنا -رعاها الله- من خلال نظرتها الثاقبة ونهجها الموضوعي السليم أن صناعة المستقبل ستكون بأيدي هؤلاء الشباب ومدى مشاركتهم في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والإبداعية. إذ إن تمكين الشباب هو نقطة الانطلاق من خلال بناء عناصر بشرية مؤهلة وقادرة على القيادة الذاتية لإحداث تغيرات في المهارات والسلوكيات والمعارف لتتناسب مع رؤية المملكة العربية السعودية 2030 ويكونون مؤهلين ومستعدين للمستقبل الواعد.

ولا شك أن عملية التمكين الاجتماعي للشباب لن تتم دون الدعم المعنوي والنفسي والتوجيه والمساعدة والتمكين من الحصول على الفرص بشكل مستمر وممارسة دروهم في التعبير والمشاركة والتعليم واتخاذ القرارات وتقوية المهارات وتطويرها، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال التعامل مع الشباب بصفتهم شركاء في صناعة التنمية وقد دعت حكومتنا الرشيدة إلى ذلك من خلال إنشاء برامج ووحدات تكون منها الانطلاقة نحو الرؤية الإبداعية الجديدة مثل وحدة التوعية الفكرية بالجامعات السعودية، ومراكز التميز والإبداع والتي ترسم الخطط لإنارة فكر الشباب وتغير الممارسات السلبية إلى ممارسات تسهم بحول الله في تعزيز التنمية وترفع من المستوى المعيشي والنفسي والاجتماعي وتشجع الشباب للمشاركة في الحياة العامة وتفعل دور المرأة الشابة لأدوارها المستقبلية في ضوء قدراتها وأهداف مجتمعها.

ومهما كان الاهتمام والحماس والقدرات والأهداف والسياسات المرسومة لتمكين الشباب فإن هذا التمكين لن يخلو من التحديات الكامنة التي من أبرزها كثرة الشباب واختلاف أفكارهم وعواطفهم وخلفياتهم الاجتماعية في المملكة العربية السعودية وقلة ما يتمتعون به من خبرات في التعامل مع التحديات التي تواجههم، وكذلك تحدى صراع الأجيال حول القيم والأفكار والأهداف فالشاب يشعر بفاصل زمني ومساحة تفكير مختلفة بينه وبين الأجيال السابقة، ولن تترك الأجيال السابقة مقاعدهم لمنح الشباب الفرصة لإثبات وجودهم وتحقيق أفكارهم بسهولة فالفجوة للتفاهم والتجانس والتآلف في المجتمع السعودي بين الشباب والكبار كبيرة، فالآباء أضحى جل همهم توفير متطلبات الأبناء التعليمية والصحة دون إشراكهم في الحياة.

ويلوح التحدي الأكبر في التنظيمات المؤسسية فإذا أرادت الدولة تنظيم مسألة التمكين لابد أن يكون ذلك من خلال مؤسسات تربوية تصوغ لهم برامجهم وترسم معهم احتياجاتهم وتطلعاتهم ولكن المراكز الشبابية لا تزال لدينا متواضعة في استقطابها للشباب وفي تجهيزاتها ووسائل جذب الشباب مما جعل الشباب يبحثون عن متنفس لهم لرسم واقع أفضل حسب تصوراتهم فيحدث الشحن والتعبئة وتفريغ الطاقات بطريقة سلبية تحول الأمل إلى ألم.

يبدو أن أولى أولويات التمكين بلورة إستراتيجية حقيقية ملموسة للتغير إذ إن الإعلام الجديد ظهر كمحتوى بارز عن طريق مساحة موازية للساحة الواقعية تستقطب المهمشين وترمي بهم في أحضان العزلة والنعرات الطائفية، واستخدام بعض القوى الخفية للمجتمع الافتراضي لاستقطاب الشباب لأهدافها التدميرية وبث الإشاعات والأخبار الزائفة والتحريض ضد المجتمع والدولة بل يصل الأمر إلى التجنيد لصالح تنظيمات متطرفة.

يبدو الموضوع طويلًا ولكن المجتمع السعودي يحلم بميلاد أنظمة جديدة تحوّل الشباب من النمط الاستهلاكي إلى النمط الإنتاجي وتسهم في إخراج عناصر بشرية مؤهلة للقيادة الذاتية للاستعداد لمستقبل يشكلونه بأيديهم ويصوغونه بأفكارهم ويواجهون تحدياته ورهاناته بحركات تغيرية إيجابية في مختلف المجالات وأحلم أن أرى أبنائي وأبناء مجتمعي وقد عادوا إلى بناء مجتمعهم بأيديهم، ويأكلون مما ينتجون.

* أستاذ أصول التربية المشارك بجامعة تبوك

dralqarni2011@