-A +A
نجيب يماني
إنّ الراجح المعقول، والمتوقّع المأمول من أيّ شخص تلحقه جريرة السرقة الأدبية بالجرم الثابت، والحكم الموقع والمنزل عليه، أن يرتفع معدل الخجل في دمه، إلى غاية أن يبحث عن ركن قصيٍّ في ذاكرة النّسيان وينزوي فيه، ويتجنّب مساقط الضوء، ومنابع النور، لكي لا تنكشف بقية عوراته، فإن تفضّل عليه الأدب وترك اسمه في قائمته سهوًا أو غفلة، فعليه أن يتقبّل هذا الصنيع بالحمد الوفير، والشكر المدرار، وأن يعمل جهده ليجلس في مقاعد المجتهدين والمستمعين والمتأدبين، حتى يمحو ما علق به من أوضار السرقة، ويفهم معنى الأدب، وقيمة الحرف، ويدرك أي خطر ينطوي على من يمد «يده» لكراسة أدبية مجتهدة فيسرق منها، فإنْ هو اكتفى بهذا الصنيع الضروري، فمن حقنا حينئذ أن نشجعه ونقول له «لا تيأس»، فقط اكمل شروط «التوبة»، واجلس في مجالس الأدب والأدباء على قدر حظك من الموهبة والمعرفة..

هذا هو الراجح المعقول، والمتوقّع المأمول، في مثل الحالة التي أشرت إليها، لكن الواقع يكذّب ذلك، فمن سرق بالأمس من الكاتبة السعودية سلوى العضيدان حروفها، زاد معدل «الجرأة» في دمه، عوضًا عن معدل الخجل، ولم ينزوِ في ركن قصيّ، بل صعد إلى منصّة نادٍ أدبي، خلع عليه «حلّة» الأديب بمجانية يحسد عليها، وسمح له هذه المرة أن يمضي عميقًا، ويرسل سهامه «الطوائش» إلى جامعاتنا وطلبة العلم فيها الذين يقلّبون في دفاتر الأدب، ويسهرون أجفانهم، ويوقظون عقولهم في مقاعد الدرس والتمحيص، في أدبنا القديم، في أي جزء منه، وفي كل سطر مكتوب في أضابيره.. ليت لي «ربع» جرأة عائض القرني في أمسية نادي المنطقة الشرقية الأدبي وهو يقول: «أتعجّب في نقائض جرير والفرزدق، رسائل دكتوراه في جامعاتنا تعلّمك السبّ والشتم، واللّعن والقذف».. ثم يمضي مؤكدًا على موقفه بقوله: «فيها سبّ وقذف وشتم على أساس يخرج أبناءنا سبّابين وشتّامين»! إن هذا القول المجّاني ينطوي على إسقاطات مهمة ينبغي علينا أن نذهب عميقًا في استقصاء محركاتها، وتجاوز الرؤية المباشرة لموقفه من «النقائض»، فليس هو بالقول الذي يحرك قدرة على بحث، أو نظرة لتأمل؛ بل على النقيض من ذلك، يدفع إلى السخرية والضحك على اعتبار ما انطوى عليه من لمحات كوميدية، فلو صحّ مثل هذا الادعاء الذي يفترض أن من يقرأ شعرًا فيه سب وشتم وقذف -بزعم القرني- سيخرج أبناءنا سبّابين وشتّامين، فعلى هذا من يقرأ كتابًا في الطب سيكون طبيبًا، ومن أراد الهندسة فعليه بكتبها، ومن رغب لعب كرة القدم فدونه الكتب فلينهل ما شاء الله له أن ينهل، ومن أراد أن يعرف كيف يسرق كتابًا فعليه بـ«لا تيأس»، على أن يحتاط حينئذ لعين الرقيب في «حقوق المؤلف» بوزارة الثقافة والإعلام، وعلى ذلك قس، وهو أمر كما ترى يضع «هبنقة» نفسه في حرج القبول به! .. ولهذا فلست بذاهب في اتجاه تفنيد هذا الزعم، ولكن سأمضي باتجاه البحث عن المحركات الأساسية الظاهرة والخفية، التي دفعت بـ«القرني» إلى مثل هذا القول بكل هذه «الجرأة العمياء»، والراجح عندي أن مرتكزات الخطاب الصحوي الذي ساد ردحًا من الزمن هي الباعث لمثل هذا الزعم، حيث اتسم ذلك الخطاب في مجمله على امتلاك الحقيقة المطلقة، بما أسهم في مصادرة حقوق الآخرين في التعبير، مستغلاً في تحقيق غايته بانتهاج أسلوب وعظي عاطفي وديماجوجي، يستهدف اليفع والقاصرين والشباب، والضرب على الأوتار الحساسة، والملذات المرغوبة، وتعبيد طريق الموت أمامهم بدواعي الجهاد، وصولاً إلى هذه المطلوبات في الآخرة، ما بين حور عين، وجنان رواتع.. ليتحول «الشيخ الصحوي» إلى راعٍ يقود قطيعًا من العميان، يوجههم وفق أحلامه إلى حيث يريد، مختصرًا المعرفة في ذاته، ومقتصرًا حق الثواب والعقاب بيده، ولهذا كانت أحكامهم قاطعة في طرحها، صدامية في تفاصيلها، لا تترك مجالاً للاستدراك، أو تترك مساحة لقول «الله أعلم»، أو ترى في رأي الآخر وزنًا أمام قولها، ولعل فيما كتبته الدكتورة فاطمة القرني بجريدة الرياض تحت عنوان (خطابنا الثقافي.. «أيهم يكفل مريم»؟!) عن الخطاب الصحوي، ما يعمق رؤيتي، حيث كتبت تقول: «اتصف خطاب غلاة المتدينين في ذروة توهجه في مرحلة الصحوة بأنه: خطاب وعظي مباشر وضاجّ، وبكونه خطابًا جمعيًا يكاد يلغي كل الحقوق الشخصية على المستوى الذاتي ويحيلها إلى مكافآت أخروية؛ بل ويتجاوز من خلال ذلك وبذلك انتماءات أتباعه للوطن الأصل إلى أممية مشاعة يعجز حتى هو عن تحديد ملامحها، وهو أيضًا خطاب صدامي مستفز تنصرف طاقته لتجييش الشباب ضد الآخر.. كل آخر..» ومن ذات الباعث جاء قول «القرني» ناسفًا إرثًا أدبيًا عظيمًا، ومتجاوزًا علماء راسخين في هذا الجانب، لم يقل أحد منهم بمثل هذا القول.. إن مثل هذا الطرح الذي يتحرك بدوافع «الوصاية» على الآخرين، والمجترئ بتفتيش النوايا، والمتحصّن بسواتر الخطاب الديني لفرض هيمنته الفكرية، لم يعد ممكنًا ولا مستساغًا، حتى وإن تحذلق صاحبه، ولبس «طربوش» الأديب عوضًا عن «مشلح» الداعية، وجلس على مقاعد نادٍ أدبي أو صعد منبره، فالبوابات أصبحت مفتوحة، ولم تعد المعرفة أو فهمها حكرًا على أحد، والدوافع أصبحت مكشوفة، فلا مجال للاستغفال، ولا مساحة لرعاة القطيع!