كشف التقرير الذي صدر أمس الأول من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» -ضمن مؤشر حرية التعبير عالمياً- عن تراجع حرية التعبير في العالم 10%، والحرية الأكاديمية والفنية 37%، ونمو الرقابة الذاتية 63%، وسيطرة الحكومات والقوى النافذة على 48% من وسائل الإعلام التقليدية والرقمية، إلى جانب 87% من شعوب العالم يشعرون بقلق كبير من الأخبار المضللة، وخصوصاً مع تنامي استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى بنسبة 40%.
هذه الأرقام تلخص جانبين مهمين؛ (الأول) أن حرية الفكر التي تسبق حرية التعبير استعادت توازنها في تقدير المصالح المجتمعية، والنأي بنفسها عن حالة الصراع والانسياق خلف الشعارات الملونة والمسيّسة، وخصوصاً العابرة للحدود عبر الفضاء السيبراني، والأمر (الثاني) أن حرية التعبير لا تعني الانفلات من مصفوفة القيم المجتمعية، والتشريعات والأنظمة القانونية، وهو ما يعني أن الحرية أصبحت مسؤولة، وهذه المسؤولية أصبحت مكلفة في التحقق من المعلومات ومصادرها، والهامش المتاح لتناولها، فضلاً عن تفاعلية وتشاركية الجمهور التي شكّلت هي الأخرى ضغطاً على حرية التعبير في أي مجتمع، من خلال قدرة الأفراد على التصدي للآراء التي تحاول استقطابهم أو استلابهم في مهمات خارج النسق القيمي والوطني.
حرية التعبير التي كانت شعاراً لعقود من الزمن في تمرير أجندات، وتسييس مواقف، وإثارة وتأزيم الرأي العام؛ لم تعد اليوم بذات القدر الذي يمكن التعويل عليه في تحقيق مصالح القوى الأكثر نفوذاً وتأثيراً في العالم، وأكبر دليل الخطوة التي أقدم عليها البيت الأبيض قبل أكثر من أسبوعين؛ بتخصيص أيقونة في موقعه الإلكتروني ينتقد فيها علناً وسائل الإعلام ومنصات التواصل التي تشوه التغطية الإعلامية؛ بسبب مضامينهم المتحيّزة، وتصنيفها إلى (3) مستويات: مضللة، منحازة، مكشوفة.
هذه الخطوة مؤشر مهم على أن أمريكا التي نص دستورها في المادة الأولى على الحرية؛ تسعى اليوم من خلال مركز الحكومة «البيت الأبيض» إلى تقييد الحرية الإعلامية، والسبب ببساطة لأن الإعلام أصبح جزءاً من الصراع السياسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهذا يعني أن الحرية لم تعد مبدأً؛ لأن المبادئ لا تتجزأ بحسب المصالح والميول.
حرية التعبير في ظني لا تشهد تراجعاً عالمياً فقط، وإنما تعيش أزمة حقيقية في تحولها من حرية تعكس الواقع إلى حرية تسعى إلى تشكيل هذا الواقع، وبالتالي هذه الأزمة ستشهد تحديات أخرى على المدى القصير قبل البعيد، ولعل أهم هذه التحديات تراجع مستوى ثقة الجمهور في العالم بمضامين وسائل الإعلام ومنصات التواصل، ونزاهة الحرية من المصالح، ومدى قدرتها أيضاً على النفاذ من حجم المحتوى والبيانات الضخم الذي يجعل إمكانية نسفها أسهل من تبنيها، فضلاً عن معاييرها المزدوجة في الحكم والتقييم على الآخرين.
العالم حينما يتراجع عن حرية التعبير أدرك أن إثبات الحقيقة لم يعد سهلاً، وأن الفكر الذي يغذيها أصبح مكشوفاً في عمق تحليله وتوجهاته.


