-A +A
علي بن محمد الرباعي
يُروى عن أحد الكُتّاب الروس؛ أنه قرر قبل كتابته، روايته الموسوعية، أن يعمل أسبوعاً في كل مهنة، ليتعرّف على حقائق وخفايا وأخلاق وعادات المهن والحِرف وأهلها، وبالفعل قضى ما يقرب من نصف عام ؛ متنقلاً من صنعة لحرفة، ومن حرفة لمهنة؛ ومن مهنة لعادة سلوكية، ويؤكد أن أخطر ما مرّ به، عندما حلّ أسبوع (التسوّل)، إذ إنه نسي نفسه، وطابت له القعدة لشهرين متتابعين، قضاهما على ناصية شارع عام، والناس يضعون النقود في يده ويذهبون، وقال: لو لم يمرّ بي صديق يعرفني، ويسألني: ماذا تفعل هنا يا تولستوي؟ لقضيتُ بقية عمري متسوّلاً.

من أبلغ المقولات (السؤال لغير الله مذلّة) وفي المثل (السؤال ذُلّ، ولو أن تسأل أين الطريق) والتسوّل منافٍ للعزّة (ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين)، فهي عادة سلوكية وظاهرة سلبية منافية لأخلاق المؤمن، والتسوّل مدعاة للبطالة، والكسل عن العمل، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لئن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه). وفي حديث آخر (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس على وجهه مزعة لحم).


ويظل المرء ما استحيا بخير، ويبقى العود ما بقي اللحاء، بينما (إذا قلّ ماءُ الوجهِ قلّ حياؤه، ولا خير في وجه إذا قلّ ماؤه). والمتسوّل وجهه مغسول بمرقة كلب أجرب.

المتسوّل مقتدٍ بقدوةٍ سيئة، وهو لغيره قُدوةٌ أسوأ، وكلما كان الإنسان متعففاً، وإن كان رزقه قليلاً، بارك الله في قلته، وأنزل المضاعفة في ميسوره، ومن استعفف أعفه الله؛ وذكر الله أوصاف مستحقي البذل؛ ممن لا يسألون ولا يتسوّلون بقوله (لِلْفُقَرَاءِ ٱلَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ٱلْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَٰهُمْ لَا يَسْألُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْر فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).

حدثني (رجل بنكي) عن أحد المليونيين في محافظة نائية، كان ناشف اليد، رثّ الثياب، يحتذي زنوبة بريالين، كأنه لا يلقى ولا يلتقي، وطول نهاره في الشوارع؛ ويقول كنتُ أراه يلقّط بقايا الطعام، ويقف بجوار المطاعم ليبادر لإجابة أي دعوة لأي وجبة، ويطلب من العابرين مالاً بحجج مختلقة؛ قال: وذات يوم؛ نهض مدير البنك من مكتبي، وخرج يسعى لاستقبال هذا الزائر الكحيان، وأخذه بالأحضان، فقال: توقعته قريبه يدور مساعدة. وعندما غادر، سألت المدير: من هذا المُعدم اللي قمت تهش وتبش له، فقال: هذا لو يسحب رصيده نغلق الفرع، ونقعد في بيوتنا أنا وأنت.

ليس لذات المتسوّل في نظره قيمة، ولا تعنيه قيمته في أعين الناس، ورأيتُ في بعض البلدان متسولين لا يرفعون نظرهم في وجوه الناس، إذ جرى العرف عندهم بتنكيس الرأس خجلاً.

البعض يتسوّل بإلحاح، ويأخذ بسيف الحياء، علماً بأنه لا يحل مال مسلم إلا بطيب نفس، وما أُخذ بسيف الحياء فهو حرام، ولا بركة فيه، ويدخل ضمن أكل أموال الناس بالباطل، والمتسوّل لا يزداد غنى بل يزدد فقراً وفي الحديث (ولا فتَحَ رجلٌ على نفسِهِ بابَ مَسألةٍ يَسألُ الناسَ إلا فتَحَ اللهُ عليه بابَ فقْرٍ).

غالباً المتسوّل مستزيد، وفاقد الاحترام لنفسه، وربما يكون معتلاً نفسياً لكونه لا يُنكر على نفسه تصرفاتها الخاطئة، وتسوّل الشخص يسيء لأسرته ولعائلته، ولمحيطه الاجتماعي، ودناءة النفس ربما تدفع صاحبها للسرقة والسطو والإساءة لأمن الوطن، ولمؤسسات الدولة الراعية والكافلة لذوي الدخول المحدودة والمعوزين، ومن الأحداث السابقة واللاحقة ظهر أن بعض المتسولين يمولون إرهاباً وأنشطة مشبوهة، ويحولون العملة لخارج الوطن وهذا مضر بالاقتصاد الوطني، وآثار التسوّل السلبية أكثر من أن تحصر في مقالة.

وفي ظل الحملة الوطنية (لا تُعطهم) يجب علينا تجاوز مراحل العواطف العمياء، والخروج من دوائر الاستغفال، فدولتنا اعتمدت منصات لاستقبال الصدقات والزكوات وإعطاء الحقوق الواجبة لمستحقيها عبر جهات مختصة ولجان معتمدة؛ لتؤتي الأعطيات ثمارها وتحقق مقاصدها، دون أي مفاسد واقعة أو متوقعة.

لو أعطى أحدهم لسائلين مرة أو مرتين، سيطفش منهم في الثالثة، ويتهرب في الرابعة، وربما هجر المسجد الذي يصلي فيه المتسول، وربما حظر رقمه، أو بلّك الواتساب تفادياً لطلباتهم غير المتناهية، وقديما قال الشاعر:

(ولو سُئلَ الناسُ التّرابَ لأوشكوا؛ إذا قيل هاتوا أن يملّوا فيمنعوا).