-A +A
أسامة يماني
الغرب يبهر بنظامه ومؤسساته الصحية والتعليمية والعلمية والثقافية التي أسهمت بشكل كبير ومؤثر في تشكيل النظام العالمي الذي هو في واقعه ثمرة نتاج تطور تاريخي ممتد، يعكس قيم العمل واحترام القانون وحقوق الإنسان. غير أن هذا الوجه الجميل يخفي وراءه وجه مارد ووحش شديد الظلم والقسوة. إنه الرأسمالية الغربية المتوحشة التي سخّرت علومها وتقدمها للسيطرة والهيمنة على العالم وعلى الموارد البشرية لرفاهية شعوبها التي أحكمت السيطرة عليها فكرياً من خلال قواها الناعمة ومؤسساتها.

يظهر هذا الوجه القبيح المستور من خلال الدراسة الموضوعية للحياة الاجتماعية والسياسية وكتابات الفلاسفة والمفكرين ومن خلال كتاب للفيلسوف الفرنسي فوكو الذي اختصر هذا التغول للنظام الغربي في عبارة قالها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، وهي عكس العبارة الشائعة التي تقول الجسد سجن للروح. لقد عكس هذا الفيلسوف الفرنسي الكبير بشكل صادم ترتيب الكلمات والمعنى، بشكل يجعلنا نُعيد التفكير في المقولة الشائعة، ويدفعنا للبحث حول ما يهدف ويرمز إليه من قوله إن الروح سجن للجسد. إن هذه العبارة تظهر مدى الهيمنة التى يمارسها الغرب فى الداخل وعلى مواطنيه والتي تتناقض مع كل الشعارات التي يرفعها. وتكشف كيف استطاع الغرب تفريغ حقوق الإنسان من جوهرها ومضمونها.


جاءت هذه العبارة في كتاب فوكو «المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن». والكتاب يهتم بدراسة نظم العقاب في أوروبا منذ القرن السابع عشر وحتى مشارف القرن العشرين.

إن هذه الجملة التي أطلقها ميشيل فوكو تُلخص كيف يمكن استغلال الجوانب الروحية والنفسية للإنسان لإخضاعه والسيطرة عليه؛ فعندما يُصبح الإنسان سجين روحه تُصبح الهيمنة ذاتية، أي من داخل الإنسان. وتستخدم السلطة التعليم والمدارس والمؤسسات لتحقيق هذا الهدف حتى يُصبح الإنسان مُهيمناً على ذاته ونفسه وجسده. وبذلك يلتزم الإنسان بنسق محدد ويستسلم لإملاءات خارجية باعتبارها اختيارات شخصية تنبع من إرادته، في حين تكون إرادته هذه من إنتاج السلطة التي وظّفت الروح للسيطرة على الجسد.

الفكرة الأساسية التي يعرضها الكتاب هي أن السلطة في كل عصر هدفها السيطرة على الخاضعين لها بالسيطرة على أجسادهم، من خلال برامج ونظم للضبط الاجتماعي والأخلاقي والقانوني.

يذهب فوكو إلى أن الروح ليست سوى وسيلة للسيطرة على الجسد؛ فوجودها نفسه هو من أجل هذه السيطرة. ويقصد فوكو بهذه العبارة «أن النواحي الروحية والأخلاقية والسيكولوجية التي نُعبّر عنها بكلمة الروح أو النفس يتم استغلالها للهيمنة على الإنسان من الداخل، فيقوم الناس باستبطان نسق الهيمنة داخلهم، ويستسلمون لإملاءات خارجية باعتبارها اختيارات شخصية تنبع من إرادتهم، في حين تكون إرادتهم هذه من إنتاج السلطة».

لقد اهتم الفيلسوف ميشيل فوكو بهوامش المجتمع، وركز على المواضيع التي تُهملها الفلسفة، مثل الجنون والجريمة والنشاط الجنسي وصلته المباشرة بعصره.

وقد كشف من خلال أبحاثه «كيف أن السلطة لم تعد متمركزة في السلطة السياسية التي تمسك زمامها الدولة، بل تم إنشاء مواقع سلطوية كلية الحضور داخل المجتمع، هذه المواقع والمرافق غايتها توحيد مقاييس ومعايير السلوكيات بين أفراد المجتمع. فإذا كانت السلطة السياسية الزاجرة والمانعة تبحث عن إسكات الأفواه، وإبقاء الجهل والتخلف بين صفوف العامة، وقمع الحريات والإرادة، فالمرافق الأخرى هي بالأحرى مُنتِجة، تصنع الخطابات وتحث على البوح. وتتجلى هذه المرافق التي اعتبرها فوكو بأنها سلطوية في المدارس والمستشفيات والملاجئ والسجون، مما يجعلنا محاصرين أمام جميع المؤسسات التي تزاول مهمة المراقبة، لتحديد من ينضبط أمام المعايير والقواعد المحددة آنفاً من طرف السلطة، ومن يزوغ ويكسر قواعد السائد في مجابهة السلطة القامعة، فيُعتبر حالة شاذة ينبغي اجتثاثها من المجتمع».

إن الغرب يعيش أزمة وجودية كما قالتها وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون. فالغرب يحاول أن يظل اللاعب الوحيد في هذا العالم بما يمكنه أن يستبيح من خلال هذا الوضع ثروات الدول النامية. كما أن رغبة الغرب في القضاء على منافسيها الصين وروسيا هو في حقيقته من الأسباب الرئيسية لهذه الأزمة التي يعيشها العالم.

لقد كشف هذا الصراع بين القوى العظمى الوجه الخفي الذي يخفيه الغرب. ورغم ذلك الغرب ليس مهتماً لهذا الأمر لانشغاله بهذا الصراع الوجودي الذي يهدد كيانه ومصالحه ومقدراته.