أخبار السعودية | صحيفة عكاظ - author

https://cdnx.premiumread.com/?url=https://www.okaz.com.sa/uploads/authors/372.jpg&w=220&q=100&f=webp

أسامة يماني

المثقف .. وسجن الذات..!

استوقفتني قراءة مقال بعنوان «إعادة بناء النخبة (المثقف)»، لكنني وجدته بعيداً كل البعد عن مضمون عنوانه. ومن هنا يمكن القول إن الثقافة ليست حقلاً حيادياً نتحرك فيه بإرادة حرة مطلقة، منفصلين عن المؤثرات الخارجية والداخلية، بل يكاد المثقف نفسه يكون حاملاً لهذه المؤثرات وعاكساً لها. وقد صدق الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي في كتابه المثقف العضوي، عندما رفض (غرامشي) فكرة المثقف كفرد «منفصل» ومحايد، يعمل في «برج عاجي». بدلاً من ذلك، يرى أن كل طبقة اجتماعية تنتج بشكل «عضوي» مفكريها ومثقفيها الخاصين. لهذا نجد أن كاتب المقال وظّف الموضوع ليسقطه على فترة أو حقبة زمنية، لم يستطع كاتب المقال الخروج عن سطوتها والتحرر من سجنها الثقافي. ومن هنا يمكن القول إن الثقافة ليست حقلاً حيادياً نتصرف فيه وفقاً لإرادتنا الحرة بعيداً عن المؤثرات أو المنبهات الخارجية أو الداخلية على حد سواء، بل يمكن القول بحيادية إن المثقف هو الحامل لهذه المنبهات وهذه المؤثرات التي يتحرّك ضمنها الإنسان، وتحت وقعها وتأثيرها وسطوتها.

رغم أن هناك كثيراً من المثقفين يعيشون في سجن ثقافات مجتمعاتهم وهوياتهم، غير أن البعض يستطيع أن يخرج شيئاً من سجنه الثقافي. ذلك هو المثقف المتشكك أو المثقف النقدي؛ القادر على الخروج والذي يحاول تفكيك المسلّمات، حتى تلك الموجودة في طبقته أو مجتمعه. نعم الهيمنة ليست قدراً محتوماً وفق نظرية غرامشي. الهيمنة لا تعني أن الأفراد عاجزون تماماً. جزء من معركة «الهيمنة الفكرية» هو بالضبط خلق مساحات للتفكير النقدي وتفكيك هذه الهيمنة من الداخل. وليس كما هو عند الفيلسوف غرامشي من أن المثقف العضوي هو «مهندس الوعي»، و«منظم الثقافة» الذي يقود معركة طبقته من أجل الهيمنة الفكرية والثقافية، والتي يرى فيها غرامشي أن من أهم خصائص المثقف أنه:

1. مرتبط بطبقة اجتماعية: لا يوجد مثقفون «محايدون». كل مثقف هو تعبير فكري عن مصالح طبقة اجتماعية معينة (البرجوازية، البروليتاريا، الفلاحين، إلخ).

2. دوره هو خوض «معركة الهيمنة»: مهمة المثقف العضوي هي خوض المعركة الثقافية والأيديولوجية، فهو لا يقتصر على إنتاج المعرفة فحسب، بل يعمل على نشر قيم ومعتقدات طبقته وجعلها مهيمنة ومقبولة في المجتمع كـ«طبيعة ثانية» أو «عقل سليم».

3. المثقف العضوي ليس بالضرورة عالماً أو أديباً، حيث يمكن أن يكون المثقف العضوي مهندساً أو محامياً أو معلماً أو رجل دين أو نقابياً. المهم ليس مهنته، بل الدور الذي يلعبه في تنظيم الوعي وتوجيهه.

وقد حاول إدوارد سعيد في كتابه الشهير «صور المثقف»أن يقدّم نموذجاً أخلاقياً-نقدياً للمثقف كفرد مستقل يقف في وجه الظلم. ذلك النموذج من المثقف الذي يلتزم بقضايا العدالة والحقيقة، ويحافظ على استقلاليته وموقفه النقدي، حتى لو كان ذلك ضد التيار السائد. المهم من وجهة نظر إدوارد أن يكون المثقف من الهواة وليس أسير تخصصه، وأن يكون على الهامش بعيداً عن السلطة. باختصار المثقف الملتزم عند سعيد هو «ضمير المجتمع» المستقل الذي يقف ضد كل أشكال القمع والهيمنة، ويستخدم معرفته ومكانته للدفاع عن الحق والعدالة، ومن وجهة نظري أن إدوارد نظرياً في طرحه.

الواقع الملموس يجعلني أرى أن المثقف العضوي هو السائد، وأن الخروج عن السجن الثقافي جائز في ظل الحرص قدر الإمكان أن يكون المرء متشككاً في المسلّمات الثقافية التي تحيط بمجتمعه. إن التشكك أمر ضروري لكل امرئ يريد أن يرى العالم بمنظور أوسع أو يريد أن يقدّم شيئاً للوظيفة التي يتبوأها.

منذ 6 ساعات

مفهوم الهوية ومفهوم الأيديولوجية

الأيديولوجيا والهوية مفهومان متشابكان لكنهما مختلفان جوهرياً. طبيعة الأيديولوجيا: مكتسبة واختيارية إلى حدٍّ كبير. الإنسان يتبنى أيديولوجيا معينة كـ(ليبرالية، اشتراكية، قومية، دينية...) من خلال القراءة والتفكير والتأثر بالمحيط. إذاً، الأيديولوجيا عبارة عن مجموعة من الأفكار والمعتقدات والقيم المنظمة التي تشكّل رؤية شاملة للعالم. إنها إطار فكري يفسر الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويقدّم حلاً للمشاكل، ويحدّد أهدافاً مرغوبة للمجتمع. الإنسان يتبنّى أيديولوجيا معينة من خلال القراءة والتفكير والتأثر بالمحيط. لذا نجد أنها ذات مرونة نسبية؛ لهذا يمكن للفرد أن يغيّر أيديولوجيته إذا اقتنع بفكرة جديدة أو وجد عيوباً في فكره القديم. الأيديولوجيا هي أشبه بـ «نظارة» ننظر من خلالها إلى العالم ويمكن استبدالها.

أما الهوية فهي إحساس الفرد أو الجماعة بالذات والانتماء؛ فتختلف في مرونتها. الهوية ثابتة نسبياً وعميقة الجذور. من الصعب على الإنسان التخلي عن هويته الأساسية (مثل هويته الوطنية أو الثقافية)؛ لأنها جزء من تكوينه النفسي والاجتماعي. هي أشبه بـ «الجلد» الذي نعيش فيه. إذاً، الأيديولوجيا هي ما يؤمن به (فكر). أما الهوية فهي من يكوّنه (كينونة). باختصار، الهوية هي الجذر الثابت، بينما الأيديولوجيا هي الفرع المتغيّر الذي يمكن أن ينمو في اتجاهات مختلفة بناءً على ذلك الجذر.

الفرق بين المفهومين ليس مجرد تمييز أكاديمي، بل له تداعيات كبرى على فهمنا للفرد، المجتمع، والسياسة. فالتمييز بين المفهومين يمكّننا من فهم الصراعات: صراعات الهوية (مثل الصراع في فلسطين، البلقان، رواندا) تكون غالباً أكثر شراسة وعنفاً؛ لأنها تمس جوهر وجود الناس وهويتهم. يصعب فيها المساومة؛ لأنها ليست مجرد خلاف على الموارد أو السياسات، بل على الحق في الوجود والاعتراف. أما الصراعات الأيديولوجية (مثل الحرب الباردة بين الرأسمالية والشيوعية) فهي صراعات على الأفكار والنظم السياسية والاقتصادية. قد تكون هناك مساحة للحوار والنقاش الفكري، وربما الوصول إلى حلول وسط؛ مثل الاشتراكية كحل وسط بين الشيوعية والرأسمالية.

لذا نجد أن الخطاب الذي يخلط بين الهوية والأيديولوجيا (مثل: «أنت معنا فأنت منّا، أو ضدنا فأنت خائن») هو خطاب خطير؛ لأنه يجعل النقد الفكري للأيديولوجيا هجوماً على الهوية الشخصية للفرد. كما أن الفرق يساعدنا على تحليل كيف تستخدم القوى السياسية الخوف على الهوية الوطنية أو الدينية لتعبئة الناس وراء أيديولوجيا معينة أو قائد سياسي. بمعنى آخر، يتم تحويل الهوية إلى مشروع أيديولوجي.

التمييز بين الهوية والأيديولوجيا مهم؛ لأنه يساعد على بناء المجتمعات التعددية، فالمجتمع الصحي هو الذي يستطيع الفصل بينهما. يمكن للمجتمع أن يحتوي على تعددية في الهويات (مسلمون، مسيحيون، أكراد، عرب، إلخ) مع توافق على أيديولوجيا وطنية واحدة (كالدستور والديمقراطية وحقوق الإنسان). المشكلة تظهر عندما تُفرض أيديولوجيا معينة كجزء من الهوية الوطنية، مما يستبعد من لا يؤمن بها.

مما تقدم يتضح أن الفرق بين هذين المفهومين ليس مجرد تعريف، بل هو مفتاح لفهم تعقيدات عالمنا الشخصي والاجتماعي والسياسي.

00:26 | 28-11-2025

التنمية في الشرق الأوسط

سعت معظم دول المنطقة في الشرق الأوسط إلى تحسين نوعية الحياة والرفاهية للناس، ويظهر ذلك جليّاً منذ أربعينيات القرن العشرين. ومع ذلك، نجد أن العديد من الدول لم تحقّق نتائج جيدة، وذلك يعود إلى أسباب خارجية وداخلية أدّت إلى خروج هذه الدول عن سياق التنمية المستدامة. حيث أدّت القرارات الاقتصادية غير الموفقة والتدخلات الأجنبية إلى إشعال الصراعات الإقليمية وحروباً متكررة، مثل العدوان الثلاثي وقيام دولة إسرائيل وتنازع النفوذ بين الاتحاد السوفييتي والمعسكر الغربي، مما عرقل مسارات التنمية واستنزف الموارد. إن التوترات الإقليمية والخلافات وما تلاها من حروب واحتلال، حوّل جزءاً كبيراً من موارد المنطقة نحو الصراع العسكري بدلاً من التنمية. وظهرت مقولة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة فلم يعد هناك تنمية ولا التطوير بل دمار وتخريب. لا شك أن تنازع النفوذ بين الاتحاد السوفييتي والمعسكر الغربي خلال الحرب الباردة، حوّل المنطقة إلى ساحة للصراع بالوكالة، مما زاد من عدم الاستقرار. هذه العوامل وغيرها أدّت إلى استنزاف الموارد المالية والبشرية، وتركيز الحكومات على الأمن القومي على حساب التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ولا ننسى دور بعض الشركات الاستشارية الغربية التي قدّمت دراسات مضللة ونصائح تنموية بعيدة عن البيئة المحلية. لقد أسفرت السياسات الاستعمارية عن تشويه الهياكل الاقتصادية للمجتمعات العربية، حيث عملت القوى الكبرى على تفكيك النظم الإنتاجية التقليدية، وتعميم النمط الاستهلاكي الغربي، وإبقاء الاقتصادات العربية حبيسة التخصص في إنتاج المواد الأولية.

كما يواجه المشروع التنموي العربي إشكالات بنيوية تتمثل في ازدواجية الخطاب التنموي بين الشعارات الرنانة والواقع المرير، وغياب الرؤية الإستراتيجية الموحّدة، وانفصال الخطط التنموية عن الخصوصيات الثقافية، ناهيك عن ضعف الاستثمار في البشر عبر تطوير التعليم والبحث العلمي، وخلق فرص عمل منتجة، فضلاً عن عدم توافق مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل، وتزايد الفقر والهشاشة الاجتماعية في دول تعاني من صراعات أو سوء إدارة الموارد.

وضعف تنويع الاقتصادات لتقليل الاعتماد على الموارد الأحادية، والانتقال نحو الاقتصاد المعرفي، وعدم الاهتمام بالريف والمدن الصغيرة، كل ذلك تسبّب في النزوح والهجرة إلى المدن الكبرى، مما أضر بالبنية التحتية للمدن الكبيرة، وأحدث خللا كبيرا في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن ضعف الاستثمار في القطاع الصحي وخاصة في القرى والأرياف والمناطق البعيدة.

تاريخ التنمية في المنطقة يظهر مدى خطورة الاعتماد على القوى العظمى بعيداً عن منظور محلي وإستراتيجية وطنية، وضرر تغليب الجانب الأمني الذي يؤدي إلى هشاشة الجبهة الداخلية نتيجة تغليب الجانب الأمني على الجانب التنموي، مما تسبّب في كثير من الأحوال لتحول بعض دول في منطقة إلى دول فاشلة.

وفي المقابل جاءت رؤية المملكة 2030 كمثال في المنطقة لتؤسّس نموذجاً تنموياً متوازناً يعيد بناء القوة الوطنية عبر تنويع الاقتصاد وتمكين الإنسان وتعزيز الاستقرار المستدام بمنهج واضح يرسم مستقبلاً أكثر صلابة وفاعلية..

كل هذا يجعلنا نخلص إلى أن مستقبل التنمية في المنطقة مرهون بقدرة النخب العربية على تجاوز النموذج الريعي، وبناء اقتصاد إنتاجي قائم على المعرفة، مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية، وهذا يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وتضامناً عربياً فاعلاً، ورؤية تنموية متكاملة.

التنمية في الشرق الأوسط ليست مستحيلة، لكنها تتطلب إرادة سياسية حقيقية، ووعياً جماعياً بأهمية تجاوز الإرث الاستعماري والصراعات الداخلية، فقط عبر المصالحة مع التاريخ وتبني رؤية مستقبلية شاملة، بهذا يمكن للمنطقة أن تحقّق النهضة المنشودة.

00:04 | 21-11-2025

الهوية أم الأيديولوجيا؟!

انشغل كثيرون في عالمنا العربي والإسلامي بعمدة مدينة نيويورك زهران ممداني. اهتمت الأغلبية بديانة العمدة الجديد وطائفته أكثر من الاهتمام بما يمثله هذا السياسي الصاعد من تيارات سياسية وأفكار ومفاهيم. نسي البعض أن الانتخابات في أمريكا تقوم على أساس أن معظم الناخبين الأمريكيين منتمون إما للحزب الديمقراطي أو الجمهوري. هؤلاء الناخبون يصوّتون بشكل شبه آلي لمرشح حزبهم بغض النظر عن الشخص، (مثلًا: جمهوري سيصوت للجمهوري، وديمقراطي سيصوت للديمقراطي).

الواقع المشاهد أن المجتمع الأمريكي مستقطب بشدة بين الليبرالية (يسار) والمحافظة (يمين). أصبح «العدو» هو الحزب الآخر، وليس مجرد خصم سياسي. هذا يجعل المعتقدات الأيديولوجية للحزب أساسية في اختيار الناخب.

كل حزب لديه برنامج (Platform) يحدّد مواقفه من القضايا الرئيسية مثل: الضرائب، الرعاية الصحية، حماية البيئة، البنية التحتية، القيم الاجتماعية... الناخبون يصوّتون بناءً على اتفاقهم مع هذه المنصة بشكل عام. باختصار، التيار السياسي (الحزبية) هو «الوعاء» أو «الفريق» الذي يحدد قاعدة الناخبين الأساسية والهوية الأيديولوجية للمرشح. أما المعتقدات الشخصية والكاريزما فما هما إلا «اللمسات الأخيرة» التي يمكن أن تجذب الناخبين المستقلين والمترددين، وتحدد الفائز في المعارك الضيقة.

الاهتمام بالأمور الشخصية والمعتقدات والطائفية والمناطقية ظاهرة طاغية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ تُلهي الأغلبية عن جذور القضايا العامة وتُشَخّصِن القضايا والأفكار والمفاهيم الكبرى.

عمدة مسلم أو هندوسي ليس صلب الموضوع. القضية هي التيار الذي يمثله العمدة المنتخب. لهذا اهتم المفكرون والنشطاء بهذا الفوز الذي حققه زهران ممداني؛ خاصة أننا في معركة وصراع أفكار ومفاهيم في الولايات المتحدة الأمريكية. حديث إيلون ماسك عن فوز ممداني يظهر الأثر الكبير الذي حققه التيار الليبرالي. يقول ماسك الملياردير ذو الأصول الجنوب أفريقية إن هذا الفوز يمثل زلزالًا سياسيًا لما يمثله من مفاهيم وقيم. لقد شعر ماسك أن ممداني في حديثه ليلة الانتصار كان كمن قلع القناع الذي كان يرتديه أثناء الانتخابات. لذا فإن ما جاء في خطابه يعد من وجهة نظر ماسك خروجًا عن الرأسمالية والنظام الأمريكي، حيث صرح زهران أن النظام الذي سمح لأمثال الرئيس ترمب بأن يصبح مليونيرًا يجب أن يُستبدل بنظام لا يسمح بذلك. ما قاله ممداني يشكّل في رأي ماسك ثورة ضد النظام. يقول ماسك إن ما قاله زهران «ستظل نيويورك مدينة للمهاجرين، مدينة بناها المهاجرون، وقوتها من المهاجرين، واعتبارًا من هذه الليلة، يقودها مهاجر»، يشكل خروجًا عن الحلم الأمريكي لكل الأمريكيين بغض النظر عن أصولهم، فأمريكا لكل من يقيم فيها وليس للمهاجرين فقط. ويرى إيلون ماسك: لذا، إذا تم تطبيق سياسات ممداني، خاصة على نطاق واسع، فستؤدي إلى تدهور كارثي في مستويات المعيشة، ليس فقط للأثرياء، بل للجميع. تحليل ماسك للخطاب يثبت أن الخوف هو من «الليبرالية المتطرفة» أو «المناهضة للرأسمالية» وليس من «الإسلام».

الخطر الحقيقي على مجتمعاتنا ليس في وجود عمدة مسلم أو غير مسلم في نيويورك، بل في طريقة قراءتنا لمثل هذا الحدث. إذا انشغلنا فقط بالاحتفاء أو الاهتمام بهويته الدينية، فإننا نفوِّت فرصة فهم المعركة الفكرية الحقيقية الدائرة في الغرب والتي تؤثر على العالم أجمع.

00:12 | 14-11-2025

ما وراء المتحف المصري؟

المتحف المصري الكبير صرحٌ حضاري عظيم في كل جوانبه: المكان، والحجم، والتصميم، والتنفيذ، والمضمون. وباختصار، هو عظيم شكلاً وموضوعاً وإخراجاً. هذا المتحف المصري الكبير يعيد بعثَ إحدى الحضارات التي سادت في الشرق الأوسط، والتي حاول الصهاينة سرقتها.

حيث تسعى السردية الإسرائيلية جاهدةً إلى تفكيك مفهوم «الدولة العربية» بوصفه كيانًا سياسيًا يتمتّع بالسيادة والشرعية، مستندةً في ذلك إلى رؤية استشراقية تختزل تاريخ المنطقة في سلسلة من الصراعات والانقسامات. فالصهيونية، كأيديولوجيا استعمارية استيطانية، لا تتعامل مع الدول العربية ككيانات مستقلة، بقدر ما تُصوِّرها كعقبة أمام «المشروع الاستعماري الصهيوني» في المنطقة. هذا التصوُّر ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكمي لسياسات استعمارية غربية وأكاديميات مُؤدلَجة عملت على تشكيل الوعي الغربي -والعالمي- حول الشرق الأوسط.

التأريخُ لمنطقة الشرق الأوسط والجزيرة العربية بوجه خاصٍ كُتب بأقلام المستشرقين الغربيين. كان بعضهم مدفوعاً بأهداف يريد تحقيقها من خلال هذه الدراسات، التي تتجاوز البحث العلمي المجرد، وتعمل على ترسيخ مفهوم تجريد العرب من الحضارة والثقافة والفنون والقوة العسكرية والاقتصادية، وتسعى إلى إظهار العرب ووصمهم بالتخلّف والبداوة، ونشر فكرة أن من سكن المنطقة العربية الشرق أوسطية أممٌ أغلبها غير عربية. وقد استفاد المستشرقون بلا شك من بعض الروايات التي كتبها كتّاب في الدولة العباسية برعاية من قوى غير عربية، أرادت أن تقلِّل وتُضعف من شأن العرب.

يقول الدكتور وائل حلاق في كتابه «نشأة الفقه الإسلامي» والذي ترجمه للعربية الدكتور فهد الحمودي: «تُشير الشواهد الأثريّة والمكتوبة المُتزايدة وغيرها إلى أنّ شبه جزيرة العرب عموماً والحجاز - مهد الإسلام - خُصوصاً، كانا جُزءاً لا يُجْتَزَأُ من الثقافة العامّة التي شاعت في الشرق الأدنى منذ عهد حمورابي، فمن خلال اتصالهم الوثيق باللّخميّين والغساسنة وبأسلافهم من العرب الذين سيطروا على الهلال الخصيب مدّة قرن من الزمان أو ما يزيد قبل ظهور الإسلام، حافظ عرب شبه الجزيرة على أشكال من الثقافة التي هي ثقافتهم الخاصّة، غير أنها مثّلت نمطاً محلياً من ثقافات الشمال، وكان البَدْو أنفسهم قد أسهموا في بَلْورة هذه الأشكال الثقافية. ولكن المواطن الحضريّة والزراعية للحجاز، كانت أكثر فاعلية وتأثيراً في النشاطات التجارية والدينية للشرق الأدنى. فمن خلال حركات التجارة والتّبشير والاتصال بقبائل الشمال (ومن ثمّ التحوّل المستمر للحدود السكانيّة)، عرف سُكّان الحجاز سوريا وما بين النهرين مثلما اتصل سُكّان هذه المناطق بالحجاز».

المتحف المصري الكبير هو خطوة نحو إعادة اكتشاف الذات، التي طمسها مَن حرّفوا التاريخ ومن سرقوا الجغرافيا. فالمتحف المصري الكبير هو أكثر من مجرد مبنى لعرض الآثار؛ هو مشروع حضاري يختزل دروسًا في الإرادة والتخطيط والجمع بين الأصالة والحداثة. فوائده تمتد لتشكّل ركيزة جديدة للاقتصاد القومي المصري، وتعيد تأكيد مكانة مصر كمركز إشعاع ثقافي عالمي، وتلهم الأجيال الحالية والمقبلة بتراثهم العظيم. يُعتبر افتتاح المتحف المصري الكبير (GEM) حدثًا تاريخيًا وثقافيًا ضخمًا، ليس لمصر فقط، بل للعالم أجمع.

00:16 | 7-11-2025

التحديات في عالمنا!

القدرة على مواجهة التحديات ملكة لا يملكها إلا المتميزون. هذه الملكة تتطلب الشجاعة الفكرية والعقلية والنفسية والعملية. كما تتطلب مواجهة التحديات وعياً وإدراكاً وحسن تقدير. لأن القدرة على مواجهة التحديات ليست مجرد رد فعل، بل هي ملكة فريدة تتحوّل مع الوقت إلى هوية يتّسم بها أصحابها. فهي لا تقتصر على الصمود في وجه العاصفة، لأنها فن تحويل التحديات إلى وقود، وجعل كل عقبة نواة لفرصة خلاقة، وفي كل فشل درس مُعدٍ، وفي كل أزمة منصة انطلاق. القدرة على مواجهة التحديات هي مزيج نادر من الشجاعة والحكمة، وهي ما يميّز القادة والمبدعين وأصحاب التأثير. لكنها في النهاية خيار متاح للجميع، وليست هبة حصرية.

إن مواجهة التحديات تُلهم الفريق ومن حوله وتخلق تأثيراً إيجابياً يمتد إلى مجتمعاتهم. لا يجب التوقف عند الأخطاء. بل يجب البناء على الإنجازات وجعل الأخطاء تحديات يجب تجاوزها.

من هذه المنطلقات يكون البناء للمستقبل والطريق للنجاح. إعادة الأولويات ضرورة ملحة للبناء والازدهار. إن أعظم مواجهة للتحديات تبدأ بإعادة ترتيب الأولويات. الأولوية لم تعد للمحافظة على الواقع، بل لصناعة المستقبل. الأولوية لم تعد للقطاع الواحد أو مكان، بل لاقتصاد متنوع. والأولوية القصوى هي لإنسان واعٍ، شجاع، لا يخشى الفشل. هذا هو الطريق الذي لا يؤدي فقط للنجاح، بل يؤسّس لمرحلة جديدة في حياة الأمم، تُبنى فيها الثروة ليس فقط من الموارد، بل من قوة الإرادة وحكمة التقدير. إن اتخاذ قرارات جريئة مثل خصخصة قطاعات كبرى، أو فتح المجال للترفيه، أو استهداف استقطاب الاستثمارات العالمية يتطلب شجاعة فكرية استثنائية لكسر النمطية التقليدية، وشجاعة عملية لتنفيذها في واقع معقد. كما أن التحديات لا تقهر بالأموال أو الوفرة وحدها، بل من خلال تكريس هذه الملكة على مستوى الفرد والمجتمع. من خلال تصويب المسار، وتعزيز ثقافة الابتكار وريادة الأعمال، وغرس قيم الإيجابية والمرونة في المناهج التعليمية، وتحويل «مواجهة التحديات» من شعار إلى ثقافة يتعلمها الأبناء ويتفوق فيها الشباب.

يتمثّل التحدي الأكبر ليس في وضع الإستراتيجيات، بل في تنفيذها وسط عواصف الشك والتغيير. وهذا بالضبط ما يجعل من مواجهة التحديات فناً قائماً بذاته، يحتاج إلى صقل مستمر وإيمان راسخ بالرؤية. فالشجاعة وحدها لا تكفي إذا لم تترجم إلى خطوات عملية واضحة، والوعي لا قيمة له إذا لم يتحوّل إلى قرارات حكيمة في لحظات الحسم.

ولعل أبرز ما تعلمناه أن «القرار الشجاع» غالباً ما يكون مرادفاً لـ«القرار الذكي». إن فتح قطاعات جديدة أمام الاستثمار ليس مجرد مخاطرات محسوبة، بل استباق للمستقبل، وتأكيد على أن المنافسة العالمية تتطلب الخروج من منطقة الراحة المؤسسية والفردية.

إن الأمم لا تُقاس بوفرة مواردها، بل بقدرة أبنائها على تحويل التحديات إلى سلم للصعود. والإرادة لا تقاس بقوة القرارات في أوقات الرخاء، بل بالثبات على المبادئ في أوقات الشدة. والنجاح الحقيقي ليس في الوصول إلى القمة، بل في القدرة على البقاء هناك، ثم رسم قمة جديدة للتسلق.

إن مسيرة التحدي ليست سباقاً عابراً، بل هي رحلة بناء متواصلة. إنها الرحلة التي لا تنتهي عند حدود الإنجاز، بل تتجدّد مع كل حلم جديد، وتتسع مع كل أفق يُفتح. فالقدرة على المواجهة -بهذا المفهوم- ليست مجرد مهارة نتعلمها، بل هي عقد نفسي وفكري نبرمه مع ذواتنا، لنكون من الصانعين لا المنفعلين، ومن المبادرين لا المنتظرين.

00:12 | 31-10-2025

التفكير العربي خارج الصندوق..!

سؤال يطرح نفسه في هذه الأوقات الصعبة، هل يمكن للعرب أن يفكّروا خارج الصندوق؟ ولماذا وما الداعي أن يفكّروا خارج الصندوق؟ وفي هذا المقال نحاول أن نجيب على هذه الأسئلة التي تقتضيها الأوضاع والظروف التي تحيط بالأمة العربية والإسلامية.

الجواب على السؤال الأول دون شك أو تردد نعم يستطيع العرب أن يفكّروا خارج الصندوق. العرب أهل حضارة حاول الغرب والاستشراق أن يطمسوها، ويشككوا فيها وخاصة في جزيرة العرب. غير أن الآثار والنقوش على الصخور والأحجار التي في العراء كمتحف مفتوح في الجزيرة العربية ينطق ويكشف حقيقة الحضارات المتأصلة التي سكنت هذه البقاع. وهذا الإرث الحضاري العريق هو شاهد على أن أسلافنا لم يكونوا أبدًا أسرى للتفكير التقليدي أو النمطي، بل كانوا روّادًا في شتى المجالات، من العلوم إلى الأدب إلى الفنون، مما يؤكد أن القدرة على الإبداع والخروج عن المألوف هي جزء لا يتجزأ من التركيبة الفكرية للعرب.

أما لماذا يجب على العرب أن يفكّروا خارج الصندوق؟ فالجواب يكمُن في التحديات الجسام التي تواجه الأمة اليوم. وواقع الضعف الذي تعيشه الأمة، والهجمة الشرسة على هويتها وقيمها، والتحديات الاقتصادية المتمثلة في البطالة وندرة الموارد وعدم تنوعها، بالإضافة إلى الأزمات السياسية المتلاحقة التي تستدعي حلولًا غير مسبوقة وجريئة. كل هذه العوامل تصرخ بأن «العمل كالمعتاد» لم يعد مجديًا، وأن البقاء داخل الصندوق يعني التخلي عن مستقبل أفضل للأجيال القادمة. فلن نستطيع مواجهة واقعنا المتشابك، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، بأدوات بالية وطرق تفكير تقليدية أثبتت فشلها في إحداث نقلة نوعية. التفكير خارج الصندوق هو ضرورة حتمية للخروج من دوامة التبعية والتخلف، ولبناء نهضة حقيقية تكون قادرة على مجاراة العصر بل والمنافسة فيه. إنه السبيل الوحيد لتحويل التحديات إلى فرص، والهزائم إلى دروس، والأزمات إلى منصات للانطلاق.

وما الذي يدعوهم إلى ذلك؟ الدواعي أكثر من أن تُحصى، فهي تحيط بنا من كل حدب وصوب. واقع الضعف الذي تعيشه الأمة، والهجمة الشرسة على هويتها وقيمها، والتحديات الاقتصادية. إن الضرورة تستدعي العمل على تحويل نقاط الضعف لقوة، لأن التفكير خارج الصندوق يُمكّن من ذلك بكل سهولة وفعالية. ويجعل من سلاح الفرقة التي سعى لتكريسه الأعداء سلاحًا في صدور الأعداء. إن توزيع الأدوار وتنسيقها والتفاهمات والأفكار هام لأنها تعمل على تفعيل نقاط القوة وتوظيف نقاط الضعف إلى أدوات تكون في صالح مجتمعاتنا، بمعالجة الثغرات مثل توظيف الأعداء للجواسيس والعملاء داخل المجتمعات، وفهم دراسة التجارب والأساليب المستخدمة في السابق لاختراق مجتمعاتنا وعمل خطوات استباقية احترازية بأفكار خارج الصندوق تحقق هويتنا الأمنية الخاصة بمجتمعنا. كل ذلك وعلى كافة الأصعدة يتطلب الأمر العمل الجاد والإبداع والبعد عن الأحكام المسبقة أو العيش في القناعات الخاطئة والعوائق النفسية.

لذا، فإن الدعوة إلى التفكير خارج الصندوق ليست ترفًا فكريًا، بل هي مسألة وجودية تتعلق بمصير الأمة وقدرتها على الصمود والنهوض من جديد. إنها دعوة لاستحضار روح الابتكار التي ميزت أجدادنا، وتوظيفها في حل مشاكل الحاضر وبناء غدٍ أكثر إشراقًا. فالخروج من الصندوق ليس مجرد خيار، بل هو مصيرنا الذي يجب أن نصنعه بأيدينا وعقولنا.

00:04 | 24-10-2025

الرأي والرأي الآخر..!

تعج منطقتنا بظاهرة مجتمعية عجيبة هي رفض الرأي الآخر في العالم العربي. وهي في حقيقتها ليست سمة «فطرية» في الشخصية العربية، بل هي نتيجة تراكمية لسياقات تاريخية وسياسية واجتماعية، وأسباب معقدة ومتشابكة، تاريخية واجتماعية وسياسية. فمن الناحية السياسية عانت أغلب المنطقة العربية من الاستعمار والاستبداد الأجنبي والعثماني. ومن الناحية الاجتماعية والثقافية، البنية القبلية والعشائرية التي ترتكز على تقديس الانتماء والولاء للجماعة وليس للفرد، والتي يُعتبر فيها الرأي المخالف «شَقًّا للصَف» و«تقسيمًا للجماعة»، مما يهدد تماسكها وأمنها. هذه الثقافة امتدت إلى أشكال حديثة من «الجماعات» (حزب، طائفة، عائلة كبيرة). كما ساهمت التربية الأسرية والمدرسية التي تقوم على التلقين والحفظ وليس على النقد والتحليل والسؤال، وعلى الطاعة العمياء للأب والمعلم دون مناقشة، مما يخلق جيلاً غير معتاد على تقبل الاختلاف. كما أن الاستعمار والسردية الغربية التي وصمت ورسّخت فكرة تخلّف المنطقة العربية وثقافتها أدّت إلى تبني بعض من تلقى تعليمه في الخارج أو تأثر بهذه السردية الغربية لتأصيل القبول بكل شيء يصلنا من الغرب، والانبهار به ورفض ما سواه، والاستسلام لما يراه واقعاً لا يمكن تغييره.
كذلك ساهم التفسير الأحادي للنصوص وتقديم تفسير واحد مقدس للنصوص الدينية، واعتبار المخالف مبتدعًا أو ضالًّا في تأصيل هذه الظاهرة الثقافية. كما ساهمت معظم وسائل الإعلام، إما حكومية أو تابعة لأحزاب وتيارات محددة، في تفاقم هذه الظاهرة. فهذه الوسائل الإعلامية نادرًا ما تقدّم منصات حيادية، حيث تقوم على تعزيز وجهة نظر واحدة وتُشَيطن الآخر، ولا تُقدّم نموذجًا للحوار بين الأضداد. كل ذلك فاقم من ضعف ثقافة الحوار. وأصبح هناك خلط شائع بين «الاختلاف في الرأي» و«الخلاف الشخصي»، حيث كثيرًا ما يتحوّل النقاش حول فكرة ما إلى هجوم شخصي على صاحبها، مما يقتل أي إمكانية للحوار البناء.
هذه الظاهرة نجدها في جميع المستويات، من القضايا الهامة وصولاً إلى المواضيع اليومية البسيطة، الأمر الذي يجعل كثيرًا من الطرح الذي يقدّم في القضايا الهامة، مثل القضية الفلسطينية، إما متأثرًا بالسردية الغربية أو الإسرائيلية التي تقوم على أن الكيان المحتل قدر وحقيقة يجب التعايش معها، وخاصة في ظل فساد بعض القيادات الفلسطينية أو وقوف الدول الغربية مع هذا الكيان المحتل سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا. وينسى البعض من هؤلاء حقيقة أن هذا الكيان خطر وجودي وتوسعي يعمل على خلخلة المنطقة وشغلها عن التنمية، أو هو متأثر بالأيديولوجيات القومية أو الدينية والحركية مثل الإخوان المسلمين. الشاهد أن كل حزب بما لديهم فرحون، فبعض من تشبّع بسردية الغرب تشبع أيضًا بالشعور الاستعلائي وأصبح يخاف من المخالف وينظر إليه نظرة علوية.
مشكلة رفض الرأي الآخر ظاهرة يستوي أمامها المتعلم وغير المتعلم والأديب والمثقف والناقد إلا من رحم ربي. وخطورة هذه الظاهرة تكمن في ضيق الأفق ومحدودية الخيار. في ظل ظاهرة الرأي الواحد تضيع من الأقدام الطريق. وتفقد أفضل الخيارات المتاحة مقابل المتوهم والمتخيل نتيجة المكان أو الثقافة أو الجهل المقدس. لكن الأمل يبقى قائماً في أولئك الذين يرون في الاختلاف ثراءً لا تهديداً، وفي الحوار جسراً لا حاجزاً.
00:08 | 17-10-2025

عقارب الساعة للأمام

ما وجه الشبه بين أن يعيش البعض أسير الجغرافيا أو أسير الماضي؟ الجواب: وجه الشبه أنّ كليهما منفصل عن العالم، ومتقوقع في حالة انغلاق على المستقبل بالنسبة لأسير الماضي. وأما أسير الجغرافيا فهو أسير المكان، الذي يجعله بالتبعية أسير الزمان. عقارب الزمن تدور للأمام لا تلتفت إلى الوراء. كل شيء يتغير وإن بدا ساكناً لأن الحركة أحد القوانين الأساسية للطبيعة، وهي -بلا شك- أحد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها فهمنا للطبيعة والفيزياء. الكون في حركة دائمة على مستوى المجرات التي تتحرك؛ النجوم التي تدور، والكواكب التي تدور حول النجوم، والأقمار التي تدور حول الكواكب. السكون التام غير موجود في الكون. يقول الفيلسوف هيراقليطس «لا تستطيع أن تخطو في النهر نفسه مرتين»، مؤكداً أن التغير والحركة هما جوهر الوجود.

وتستمر عقارب الساعة في دورتها للأمام، لا تكترث بمن تخلّف في محطات الماضي، أو تجمّد عند حدود مكانه. فالحياة في جوهرها رحلة حركة وتغيّر مستمر، ومن يرفض هذه الحقيقة يجد نفسه غريباً في عالم لا يعترف بالسكون.

أسير الماضي يعيش في ذاكرة أصبحت أثراً بعد عين، يرفض أن يدرك أن اللحظة التي يحن إليها قد تحوّلت إلى ذكرى، بينما العالم من حوله يولد من جديد في كل نفس. هو كمن يقف على شاطئ البحر يحاول أن يمسك بأمواج رحلت إلى أعماق المحيط، غير مدرك أن أمواجاً جديدة تصل إلى قدميه في كل لحظة. انغلاقه على ما فات يحرمه من حاضر ممتد ومستقبل قادم، فيصبح كالطائر الذي يرفض مغادرة القفص بعد فتح بابه.

أما أسير الجغرافيا، فهو سجين حدود وهمية رسمها البشر على الخرائط، متوهماً أن السعادة تكمن في مكان آخر، أو أن نجاحه مقيد بحدود وطنه. ينسى أن العظماء الذين غيّروا العالم لم تمنعهم حدود الجغرافيا من توسيع آفاقهم، فالإنجاز الحقيقي ينتقل عبر القارات بلا حاجة إلى تأشيرة، والأفكار العظيمة تعبر المحيطات دون قوارب. هو كمن يملك كنزاً ثميناً لكنه يصر على الجلوس في زاوية مظلمة منه، شاكياً ضيق المساحة.

والحقيقة التي تغيب عن كليهما هي أن التغيير ليس تهديداً، بل هو ضمانة الحياة. فالنهر لا يتوقف عن الجريان خوفاً من منعطف مجهول، والبذرة لا تتردد في التحول إلى شجرة رغم ظلمة التراب. المقاومة الوحيدة للجمود هي الحركة، والتحدي الحقيقي ليس في التغيير نفسه، بل في قدرتنا على التكيف معه والاستفادة منه.

في النهاية، نحن لا نملك خيار إيقاف عجلة الزمن، لكننا نملك خيار كيفية ركوبها. إما أن نكون ركاباً سلبيين ننظر من النافذة إلى مشاهد تمر بلا معنى، أو أن نكون سائقين يمسكون بمقود رحلتهم، يحددون وجهتهم ويستمتعون بالطريق. الحياة ليست انتظاراً لعودة الماضي، ولا حلماً بمستقبل بعيد، بل هي فن العيش في اللحظة الحاضرة بكل وعي وامتنان.

فكما أن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، لن تعود أي لحظة مضت. لكن كل دقيقة جديدة تمثل فرصة لبداية مختلفة، وصفحة نظيفة في كتاب حياتنا. الماضي قد يكون مدرسة نتعلم منها، لكنه ليس سجناً يجب أن نحبس أنفسنا فيه. والمستقبل قد يكون حلماً نعمل من أجله، لكنه ليس هروباً من واقعنا. الفيصل هو كيف نعيش حاضرنا بكل ما فيه من تحديات وفرص، وكيف نصنع من رحلتنا قصة تستحق أن تروى.
00:16 | 10-10-2025

هل نستطيع أن نتغيّر ؟

الجواب الإيجابي: نعم نستطيع. وهذا الجواب يصدق على الفرد والمؤسسات وعلى الدول والكيانات. التغيير على مستوى المؤسسات والشركات والدول أكثر تعقيدًا من تغيير الفرد لنفسه، لأنه يعتمد على أنظمة وهياكل وقوانين وثقافات جماعية. لكن هناك مبادئ مشتركة لإحداث التغيير المؤسسي.

نعم، يمكنك تغيير نفسك، لكن هذا التغيير له متطلبات عديدة لا تتوافر لدى كثير من الأفراد. أول شيء -في نظري- يتطلبه التغيير أن يشعر المرء بأنه في حاجة إلى تغيير نفسه إلى الأفضل. إذا ظل الإنسان يكرر الأخطاء، لا يقبل النقد ويخاف منه، ولا يفرق بين نقاط قوته وضعفه، وينظر للأمور من منظار واحد أو مفاهيم محددة، ويجعل قناعاته تتحكم فيه، راضيًا بما هو عليه، لا يضع نفسه في مكان الآخر، غافلًا عن إدراك حقيقة أن التغيير ضرورة. وقد قيل: «بقاء الحال من المحال». كما يقف عائقًا في طريق التغيير عدم القدرة على التعلم من الخطأ بشكل منهجي وموضوعي، والحرص على تعظيم الإيجابيات وتصحيح السلبيات. التغيير يتطلب إرادة حقيقية، وخطوات عملية، وصبرًا طويلًا. التغيير يتطلب معرفة الأولويات وعدم حرق المراحل والقفز على الأساسيات.

العديد من الكتب والمؤلفات كُتبت عن التغيير من جوانب عدة: نفسية، وعقلية، وعاطفية، وعملية. وقد قيل: «أنت لست حبيس شخصيتك الحالية، الدماغ البشري مرن وقابل للتغيير» (هذه حقيقة علمية تسمى «المرونة العصبية»). الفارق بين الشخص الذي تغيّر وآخر لم يتغير هو «البدء والاستمرارية». كما قال جبران خليل جبران: «الحياة لا تتغير بتغيير السنون، بل بتغيير العقول والقلوب». يجب الاستفادة من الأدوات المعرفية، مثل كتاب «قوة العادات» لتشارلز دوهيج، والدراسات النفسية حول المرونة العصبية (إثبات أن الدماغ قادر على التكيف). وقد قيل: «التغيير لا يعني أنك أصبحت شخصًا مختلفًا، بل يعني أنك فهمت نفسك بطريقة أعمق، واخترت أن تتطور». ويقول جلال الدين الرومي: «لنختار ما نريد أن نكونه».

الفروقات بين تغيير الفرد والمؤسسات يمكن تلخيصها فيما يلي: تغيير الفرد يعتمد على الوعي والإرادة. تغيير المؤسسات والدول يحتاج إلى إستراتيجيات طويلة الأمد، وقيادة حكيمة، وتغيير ثقافي جماعي. النجاح في التغيير المؤسسي يحتاج إلى مزيج من الإصلاحات الهيكلية والتأييد الاجتماعي. التغيير الفردي يبدأ من الداخل، أما التغيير المؤسسي فيحتاج إلى هندسة اجتماعية ذكية.

التغيير ليس خيارًا بل ضرورة حتمية للحياة والتقدّم. لقد أثبتنا أن الإنسان قادر على تغيير نفسه عندما يمتلك الإرادة الحقيقية والوعي الكافي، كما أن المؤسسات والدول قادرة على التحول عندما تتبنى رؤى إستراتيجية وقيادات حكيمة. الفرق الجوهري بينهما يكمن في أن التغيير الفردي ينبع من الداخل، بينما التغيير المؤسسي يحتاج إلى آليات وهياكل داعمة.

التغيير الحقيقي ليس حدثًا عابرًا، بل هو رحلة مستمرة من التطور والنمو. كما قال جبران خليل جبران: «التغيير الحقيقي يبدأ من العقول والقلوب». فهل أنت مستعد لبدء رحلتك التغييرية اليوم؟ تذكر أن كل تحول عظيم في التاريخ بدأ بقرار فردي.

الخيار بين البقاء على ما نحن عليه أو التحوّل إلى ما نطمح أن نكونه هو خيارنا وحدنا. فكما قال جلال الدين الرومي: «لنختار ما نريد أن نكونه». فماذا تختار لنفسك؟ ولمؤسستك؟ ولمجتمعك؟ الإجابة بين يديك.
00:03 | 3-10-2025