سعت معظم دول المنطقة في الشرق الأوسط إلى تحسين نوعية الحياة والرفاهية للناس، ويظهر ذلك جليّاً منذ أربعينيات القرن العشرين. ومع ذلك، نجد أن العديد من الدول لم تحقّق نتائج جيدة، وذلك يعود إلى أسباب خارجية وداخلية أدّت إلى خروج هذه الدول عن سياق التنمية المستدامة. حيث أدّت القرارات الاقتصادية غير الموفقة والتدخلات الأجنبية إلى إشعال الصراعات الإقليمية وحروباً متكررة، مثل العدوان الثلاثي وقيام دولة إسرائيل وتنازع النفوذ بين الاتحاد السوفييتي والمعسكر الغربي، مما عرقل مسارات التنمية واستنزف الموارد. إن التوترات الإقليمية والخلافات وما تلاها من حروب واحتلال، حوّل جزءاً كبيراً من موارد المنطقة نحو الصراع العسكري بدلاً من التنمية. وظهرت مقولة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة فلم يعد هناك تنمية ولا التطوير بل دمار وتخريب. لا شك أن تنازع النفوذ بين الاتحاد السوفييتي والمعسكر الغربي خلال الحرب الباردة، حوّل المنطقة إلى ساحة للصراع بالوكالة، مما زاد من عدم الاستقرار. هذه العوامل وغيرها أدّت إلى استنزاف الموارد المالية والبشرية، وتركيز الحكومات على الأمن القومي على حساب التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ولا ننسى دور بعض الشركات الاستشارية الغربية التي قدّمت دراسات مضللة ونصائح تنموية بعيدة عن البيئة المحلية. لقد أسفرت السياسات الاستعمارية عن تشويه الهياكل الاقتصادية للمجتمعات العربية، حيث عملت القوى الكبرى على تفكيك النظم الإنتاجية التقليدية، وتعميم النمط الاستهلاكي الغربي، وإبقاء الاقتصادات العربية حبيسة التخصص في إنتاج المواد الأولية.
كما يواجه المشروع التنموي العربي إشكالات بنيوية تتمثل في ازدواجية الخطاب التنموي بين الشعارات الرنانة والواقع المرير، وغياب الرؤية الإستراتيجية الموحّدة، وانفصال الخطط التنموية عن الخصوصيات الثقافية، ناهيك عن ضعف الاستثمار في البشر عبر تطوير التعليم والبحث العلمي، وخلق فرص عمل منتجة، فضلاً عن عدم توافق مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل، وتزايد الفقر والهشاشة الاجتماعية في دول تعاني من صراعات أو سوء إدارة الموارد.
وضعف تنويع الاقتصادات لتقليل الاعتماد على الموارد الأحادية، والانتقال نحو الاقتصاد المعرفي، وعدم الاهتمام بالريف والمدن الصغيرة، كل ذلك تسبّب في النزوح والهجرة إلى المدن الكبرى، مما أضر بالبنية التحتية للمدن الكبيرة، وأحدث خللا كبيرا في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن ضعف الاستثمار في القطاع الصحي وخاصة في القرى والأرياف والمناطق البعيدة.
تاريخ التنمية في المنطقة يظهر مدى خطورة الاعتماد على القوى العظمى بعيداً عن منظور محلي وإستراتيجية وطنية، وضرر تغليب الجانب الأمني الذي يؤدي إلى هشاشة الجبهة الداخلية نتيجة تغليب الجانب الأمني على الجانب التنموي، مما تسبّب في كثير من الأحوال لتحول بعض دول في منطقة إلى دول فاشلة.
وفي المقابل جاءت رؤية المملكة 2030 كمثال في المنطقة لتؤسّس نموذجاً تنموياً متوازناً يعيد بناء القوة الوطنية عبر تنويع الاقتصاد وتمكين الإنسان وتعزيز الاستقرار المستدام بمنهج واضح يرسم مستقبلاً أكثر صلابة وفاعلية..
كل هذا يجعلنا نخلص إلى أن مستقبل التنمية في المنطقة مرهون بقدرة النخب العربية على تجاوز النموذج الريعي، وبناء اقتصاد إنتاجي قائم على المعرفة، مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية، وهذا يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وتضامناً عربياً فاعلاً، ورؤية تنموية متكاملة.
التنمية في الشرق الأوسط ليست مستحيلة، لكنها تتطلب إرادة سياسية حقيقية، ووعياً جماعياً بأهمية تجاوز الإرث الاستعماري والصراعات الداخلية، فقط عبر المصالحة مع التاريخ وتبني رؤية مستقبلية شاملة، بهذا يمكن للمنطقة أن تحقّق النهضة المنشودة.