-A +A
عبداللطيف الضويحي
التنمية الحقيقية تعمل على الخطوط الخلفية مثلما تعمل على الخطوط الأمامية. والتنمية المستدامة تهتم بالحدود العليا والأرقام القياسية العالمية، مثلما تهتم بتخفيض نسب البطالة والفقر والأمية والمرض. فلا يمكن أن تضع ثقلك في الأمام فقط دون الالتفات للخلف، ولا يمكن الاكتفاء بالأرقام القياسية التنموية العالمية التي تحققها، دون الاكتراث لمن هم دون سكن أو عمل أو تعليم، ولا يمكن الاهتمام بتنمية المدن الكبرى وترك الريف دون ماء أو كهرباء، فالريف هو الخزان البشري، وهو التنوع، وهو الثراء الثقافي والطبيعي والبيئي في الدول.

ليس من التنمية في شيء أن تركض دون الالتفات للخلف والتأكد من أن الجميع على اختلاف قدراتهم وسرعاتهم يمضون معك في نفس الاتجاه ولنفس الهدف تعالج مريضهم وتعلّم أطفالهم، وتوفر السكن لأسرهم وتؤمّن العمل لشبابهم.


يبدو أن التجربة التنموية السعودية بلغت من النضج والرشد ما يجعلها تتوجه إلى كل منطقة على حدة وربما لكل محافظة على حدة، بما تتميز به كل منطقة وكل محافظة من ميزات نسبية وتنافسية ثقافياً وبيئياً وموارد طبيعية وموارد بشرية وموقعاً جغرافياً وتراثياً وغيره من الخصائص والمعطيات.

أقول هذا لأن كثيراً من التجارب التنموية الدولية اكتفت بتنمية القطاعات التي تدر على خزينتها دخلاً، وتركت الريف في ظلام دون كهرباء وماء وتركت نسب الفقر والبطالة تضرب أرقاماً فلكية دون اكتراث أو معالجة.

لقد حققت المملكة في السنوات الأخيرة أرقاماً قياسية عالمية من خلال نجاحاتها باستخدامات التقنية الحديثة والتعاملات الإلكترونية وتحديث نظمها الإدارية والصحية، فضلاً عن نجاحاتها الاقتصادية المتوالية، وتحولات استخدام الطاقة البديلة والنظيفة. ومع ذلك جاء إعلان سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن إطلاق مكاتب إستراتيجية للتطوير في مناطق الباحة والجوف وجازان لتكون «نواة لتأسيس هيئات تطوير مستقبلاً، بهدف تعظيم الاستفادة من المميزات النسبية والتنافسية لكل منطقة من المناطق الثلاث، إضافة إلى تطوير البيئة الاستثمارية لتكون مناطق جاذبة للاستثمار بالشراكة مع القطاع الخاص».

وتهدف هذه المكاتب الإستراتيجية إلى «الاهتمام» بمقومات التنمية في كل منطقة من المناطق الثلاث، ليتم التركيز على استثمار المقومات التنموية التي تزخر بها كل منطقة لتعظيم الاستفادة اقتصادياً، بالإضافة إلى «التطوير والتنسيق والمتابعة مع الجهات الحكومية كافة»، وتحفيز القطاع الخاص وإشراكه. وقد تطرق البيان إلى ما تتمتع به كل منطقة من غنى وثراء من مقومات وعناصر طبيعية وثقافية وتاريخية وتراثية.

هذه ليست المرة الأولى التي تتوجه التنمية إلى كل منطقة بذاتها، فقد أعلن سمو ولي العهد إستراتيجية تطوير منطقة عسير كوجهة سياحية عالمية طوال العام قبل أقل من شهر. هذا يؤكد أن المملكة تعمل بالتنمية الأفقية والرأسية في وقت واحد، وهذا لضمان شمولية التنمية وعدم ترك أحدٍ خارج رادار التنمية أينما كان وكيفما كانت مساهمته ومصلحته.

وهذا ربما أقصر الطرق لإيجاد هوية اقتصادية لكل منطقة من مناطق المملكة. وقد كانت لي مقالة في هذا السياق في جريدة عكاظ بتاريخ 29 يونيو 2021 بعنوان «13 منطقة إدارية 13 هوية اقتصادية».

إنني على يقين أن هذا التوجه سوف يأتي على البطالة ويرفع نسبة دخول أهلنا في الدورة الاقتصادية الكلية والجزئية، وسوف يسهم برفد الاقتصاد، وأخيراً، سوف يفتح آفاق الاستثمار في الباحة والجوف وجازان، وسوف يجعل هذه المناطق على خارطة الاستثمار. أنا على يقين أن بحيرة الجوف وهي أكبر بحيرة في المملكة ستجد من يستثمرها ويستثمر بها بعد هذا القرار.