-A +A
علي بن محمد الرباعي
لربما نجمت وتشكّلت الصورة الذهنية المغلوطة عن البداوة والقُرى عن اعتداد الحاضر بذاته، وإعجابه بنفسه، أكثر مما ينبغي، وتبنيه عِلّات مقولة (ليس الفتى من قال كان أبي، إن الفتى من قال ها أنذا)، لإنكار فضل الآباء ودورهم الإيجابي في حياتنا، والانخلاع عن ثوب الماضي المنسوج من القِيَم والجماليات.

ليس بدعاً أن نُطلق على ما قبل الإسلام وصف (جاهلية) لتزكية الذات وتعييب ما فات، علماً بأن الجاهلية ليست حقبة زمنية، بل ظواهر وقناعات وحالات ثقافية وأخلاقية موجودة في كل العصور والأمصار حتى يوم الناس هذا.


لا أدري من هو الذي روّج وأشاع أن البداوة ترتبط بالأميّة التي تعني التخلف والرجعية، فالسياق التاريخي يكذّب ذلك فمن يُطلق عليهم (أُميّون) قبائل أصيلة دانت لهم الفرس والروم، ووفدت لأسواقهم أمم بقوافل رحلات الشتاء والصيف، ومن يبيع ويشتري يحسب ويعد ويُحصي ويتعاقد ليس صالحاً للأميّة الاصطلاحية، كما أن الثقافة العربية ثقافة شفاهية ما يعني بداوتها وتقاطعها مع ما نسمع اليوم من أدب شفاهي متماهٍ مع حقب ما قبل التدوين وإن تحوّرت المفردات وأُعيدت صياغات.

من أبرز ملامح مدنيّة البداوة الشجاعة التي تعني التصدي للظلم والعدوان وردع الباغي ورفض الغزو والاحتلال، والسخاء المتمثل في سد حاجة المحتاج ومواساته ولو بذبح أو بيع أو إهداء أعز ما يملك البدوي من جمل وحصان، ناهيك عن إكرام الضيف المتماهي مع النص القرآني. ولعل أصفى مشاعر وأرق عاطفة نجدها عند البدوي، ولذا حافظت البداوة على عُذريّة الحُبَّ قبل أن تُسلّعه المُدن بمتطلباتها اللامتناهية.

للبداوة وللقرى أعراف أقرب إلى تنظيمات مؤسسات المجتمع المدني، منها تقنين وسائل وأساليب الرعي والري والسقيا والحِمى وصيانة وحراسة الواحات والغابات وخلق التوازن البيئي والحفاظ على الفطرية النقية بالاعتماد على الذات وتدوير ما فاض عن حاجة في الصناعات وقليل ما هو.

للبداوة أصالة عميقة، فالجزيرة العربية موطن الحضارات السامية، وقبائل البدو تمثل نموذج حضارية الديانات والثقافات للساميين، وأشعارهم امتداد للشعر العربي في عصور ما قبل الإسلام، باعتبارها شفاهية إعلامية وتوثيقية للأحداث والوقائع وأوضاع المجتمع.

كثيرون في العالم لا يدركون دور البدو في تربية الذائقة على السرد والشعر ونشر ثقافة المساواة بين الأجناس، وتحويل جلسة بيت الشعر لندوات وأمسيات تنتقل بها القهوة العربية من إطار المشروب المائي الملوّن إلى طقس اجتماعي ودرس تهذيبي يحضره الصغار والكبار والرجال والنساء، ويعتني البدوي بإشعال النار إشعاراً ببدء مسامرة ومنادمة، ويحمس القهوة لتفوح رائحتها في أرجاء المكان، وتُطحن في مهراس يجلجل بصوته لبث رسائل ودعوات للمشاركة في الكيف وعذب الحديث، تمثلاً لقول حاتم الطائي (إذا ما صنعتِ الزّادَ، فالتمسي لهُ، أكيلاً، فإني لست آكلهُ وحدي، أخاً طارقاً، أو جار بيتٍ، فإنني، أخافُ مَذَمّات الأحاديثِ من بعدي، وإنّي لعَبْدُ الضّيفِ، ما دام ثاوياً، وما فيّ، إلاّ تلكَ، من شيمة ِالعَبدِ).

وما إعداد القهوة وتجهيزها وطريقة صبها إلا أدبيات بدوية تكتنز معاني الشفافية فلا تُعد القهوة والطعام في الخفاء بل أمام ناظر الضيف، ويطعمها رب البيت أولاً للطمأنة، وترتبط بحفظ حق الرمز والكبير فمن عنده يبدأ الصب، ولا يجلس صباب القهوة حتى يكتفي الضيف والزائر، ومجلس البدو أمثل مجلس لتعزيز أواصر الجوار والقربى وإغاثة الملهوف وحمل العاجز ورعاية الكل وحقن الدماء وتأديب العصاة والمتمردين.

لم ينتبه الوعي المزيّف لدور البدو في استئناس الوحش، وأنسنة الجِنّ ومصاحبتهم واستضافتهم وهذا مرتقى صعب على غيرهم، ممن فُتنوا بالمساحيق وشالع الأزياء واختلاط الجالب بالمجلوب (وفي البداوة حُسْنٌ غيرُ مجلوبِ) كما قال المتنبي.

هناك استثناء تفرضه أخطاء فردية، إلا أنه استثناء لا ينقض القاعدة، وتصرفات لا ترقى لمرتبة دليل إدانة ولا حتى قرينة اتهام بجُنحة.

ولعل من تحصيل الحاصل في الختام استعادة مآثر الشعوب والقبائل بإرسال أطفالهم للبادية بما فيهم الأنبياء عليهم السلام لاكتساب الصحة والفصاحة والارتباط المُبكّر بالإنسانية في أرقى وأبدع وأبهى صورها.