-A +A
طلال صالح بنان
التاريخُ سِجَلٌ وثائقيٌ لسيرةِ البشرية. حتى عندما يكتبُ البشرُ التاريخَ، يأبى التاريخُ إلا أنْ يُسَجِّلَ القصةَ الحقيقيةَ للأحداث. آجلاً أم عاجلاً: ستروى القصةُ الحقيقية، كما سجلها ووثقها التاريخ.

ترى هل هي مصادفة تاريخية أن تُروى قصتان تاريخيتان حدثتا، تقريباً في شهر واحد، من سنوات مختلفة، بل في ثلاثة أيام متتابعة، فتروى واحدة ويُضخم حدثها، رغم ما بها من تزوير وافتئات على التاريخ، بينما تكاد تُمحى الحادثتان الأخريان، من ذاكرةِ البشر، حتى من بعض من ينتمون لضحاياها، بصلة الدم والعرق والدين والجغرافيا والتاريخ، وكأنهما لم تحدثا مطلقاً!


في السابع من إبريل، هذا الشهر، أحيت «إسرائيل» الذكرى السادسة والسبعين، لما زعمه الصهاينة من محرقة النظام النازي لليهود «الهولوكوست». وللمفارقة، بعض الدول العربية، شاركت في هذه المناسبة، لأول مرة، كإحدى تبعات، إن لم نقل: شروط التطبيع!

ليس هنا مكان إثبات أو إنكار المحرقة. اليهود نجحوا في إقناع العالم بأن المحرقة قد وقعت.. وإنه من بين ما يقرب من ثمانين مليون من ضحايا الحرب الكونية الثانية، لم يخلد العالمُ سوى ذكرى المحرقة، التي زُعم أن ضحاياها من اليهود بلغوا مليون نسمة. لم يبلغ نجاح تسويق اليهود لمزاعم المحرقة، حداً جعل الأمم المتحدة تختار يوماً عالمياً لذكراها، فحسب... لكنهم نجحوا أكثر في فرض قوانينَ صارمةً، في دولٍ تدعي الدفاعَ عن حقوقِ الإنسان، تُجرم التشكيك في واقعة المحرقة، أو حتى التدقيق في مزاعم حدوثها.

بينما كانت «إسرائيل» تحتفل (السابع من أبريل، هذه الشهر)، بذكرى «الهولوكوست» ومعها لأول مرة دولٌ عربية، لم يذكر أحدٌ جريمة ارتكبتها «إسرائيل»، قبل ٥١ سنة، بالتحديد: في الثامن من أبريل ١٩٧٠، عندما شنت خمسُ طائرات حربية إسرائيلية من طراز فانتوم غارةً جوية، على مدرسةِ بحرِ البقرِ الابتدائيةِ في محافظة الشرقية بمصر، راح ضحيتها ١٩ طفلاً وطفلة، وإصابة أكثر من خمسين، منهم أحد عشر مدرساً ومن العاملين بالمدرسة.

في نفس الأسبوع، قبل ٢٢ سنة (٩ أبريل ١٩٤٨)، ارتكب الصهاينة مذبحة دير ياسين عندما اقتحمت عصابات الهاجناه (الأرغون) بقيادة رئيس وزراء الكيان الصهيوني مناحيم بيجن (١٩٧٧ – ١٩٨٣)، و(شتيرن)، بقيادة رئيس الوزراء إسحق شامير (١٩٨٣ – ١٩٩٢). اثنان من حكامِ «إسرائيل» ارتكبا مجزرةً ضد أهل قرية دير ياسين الفلسطينية المسالمة، قرب القدس، راح ضحيتها أكثر من ٣٦٠ فلسطينياً بين امرأة وطفل وشيخ ورجل ولم يحاسبهم العالم. بينما المحرقة ذكرها وروج لها المنتصرون في الحرب الكونية الثانية، وهم تحت وطأة عقدة الذنب، في حين أن مجزرة دير ياسين ارتكبها الصهاينة، في عهد الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (١٠ ديسمبر ١٩٤٨)، كان في مرحلة الصياغة.

التاريخُ يكتبه المنتصرون، لكن يسجل أحداثه التاريخُ نفسه. تظل مزاعم «الهولوكوست» من الأساطير، بينما جرائم الصهاينة في حق العرب والفلسطينيين من الحقائق، التي وإن أنكرها أعداء السلام والإنسانية.. يأبى التاريخُ إلا أن يسجلها.. ويحتفظُ بحقِ ضحاياها في القصاص، لو بعدَ حين.