-A +A
نجيب يماني
أحاول جاهداً، زحزحة إسقاطات «نظرية المؤامرة» عندما أُسرّح خاطري في قراءة أي حدث تاريخي عموماً، والأحداث التي شكّلت الواقع في محيطنا الإقليمي، على وجه الخصوص، لقناعتي أن الركون إلى نظرية المؤامرة يعكس حالة من الكسل الذهني، والرغبة العجلى في الوصول إلى حالة اطمئنان زائف لا ينهض على قوائم المنطق السليم، والقراءة الصحيحة.

ومع كل هذا، لا أستطيع أن أتفادى هذه النظرية حين التعاطي مع مجريات «الثورة الخمينية»، سواء على مستوى الأحداث التي سبقتها، أو المآلات التي انتهت إليها، وما زالت تلقي بظلالها الكثيف على المحيط الإقليمي..


فالظروف التي هيأت للخميني الوصول إلى السيطرة على إيران، لا تخلو من ترتيب مريب، في مظهر هبوطه من الطائرة الفرنسية التي أقلته إلى طهران قادماً من «نوفل لو شاتو»، بعد أن «سوّيت» له الساحة السياسية بإسقاط عرش الشاه.. هذه الصورة حملها إلى هاتفي أحد الأصدقاء مكتوب تحتها «قبل أن تلامس قدماه الأرض كان اليمن سعيداً.. وبغداد غناء.. ودمشق فيحاء.. وبيروت عروساً حسناء»..

بالنظر إلى مآلات الواقع المعيش اليوم، ستجد نفسك مضطراً لتربط بين تلك الصورة في بدايتها، والمحصلة التي انتهينا إليها، والفوضى التي أحدثتها «الثورة الخمينية»، التي ركبت مطيّة الدين، وأرخت عليه لجام «الأحلام الفارسية»، ومضت -مدعومة من الغرب- إلى إحداث هذه الفوضى التي نعيشها، وكان الخميني وقتها عينه على العراق الذي خرج منه مرغماً، وأحلامه التوسعية تنظر بعيداً إلى بقية الدول العربية التي لم يكن يرضى أن يتحدث بلغتها رغم إجادته لها حين أقام في النجف، ينظر إلى هذه الدول بفوقية الدم الفارسي الزائف رغم أن أصوله هندية لا فارسية.

إن أخطر ما أحدثته هذه «الثورة» يتمثل في معتقدها الآيديولوجي المستند إلى «ولاية الفقيه»، المناقضة في جوهرها لعقيدة «الإمامة» في الأدبيات الشيعية، على مختلف طوائفها، حيث تقاطع حلمها بين ما هو ديني وما هو سياسي، وعلى ضلالته سارت إيران بحلم تصدير الثورة الإيرانية وإسقاط الأنظمة العربية القائمة، وتأسيس «حركات تحرير»، تدين بالولاء لفكرة «ولاية الفقيه»..

هذا الخط الذي انتهجه الخميني ساهم في بلورة الإشكالية المرتبطة بجواز قيام الحكم الإسلامي في ظل غياب الإمام في سردابه وفق المفهوم الشيعي، وذلك من خلال إسباغه على الحاكم صفة نائب الإمام الغائب ومنحه ولاية مطلقة تكاد تماثل بين الإمام الغائب وبين من ينوب عنه، أي ولي الفقيه.

ولاية الفقيه مسألة نسبية ترتبط بالمؤمنين بها حصراً وليست ملزمة لمن لا يؤمن بها، فهي مجرد اجتهاد، ولكن الخميني عممها وكأنها أصل من أصول المذهب الشيعي، وبات معها عدم الامتثال إلى مشيئة الولي الفقيه وكأنه خروج لا عن إرادة المرشد الإيراني وسياسته بل عن أصول العقيدة، والدين.

ولاية الفقيه ليس لها ما يدعمها في الفقه أو القرآن أو السنة، بل مجرد كلام ورد من بعض الأئمة في شأن رواية تتحدث عن القضاء الشرعي أنه إذا تخاصم اثنان في مسألة مالية أو غيرها وجب عليهم الذهاب إلى قاضٍ شرعي ليحتكموا إليه، أما من يستدلون على الإمامة بآية (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فالآية تتحدث عن الطاعة لا عن الإيمان؛ فهي بذلك مسألة عملية لا مسألة عقدية، ولكن الخميني لأغراض سياسية طار بهذا الرأي الشاذ وبنى عليه عرشه المهترئ مخالفاً بذلك لإجماع أئمة الشيعة حول نظرية الإمامة، وانتظار المهدي الإمام الثاني عشر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

لم يهتم أحد ببدعة ولاية الفقيه، بل إن بعض الفقهاء رفضوها أو قيدوا حدودها أمثال العسكري والقمي والطوسي والذين حصروا أولي الأمر في الآية بالأئمة مثل سيدنا علي، حتى جاء الخميني فوجد فيها أسلوباً يطبقه في حكمه ليصدر ثورته المنحرفة، فعمل جاهداً في تدبيج أبحاث وأطروحات وتنظيرات ساقطة تعتمد ولاية الفقيه عندما كان في النجف ثم المنفى وطبعها في كتيب بعنوان (الحكومة الإسلامية)، حيث قام بتأويل كلمة (أولي الأمر منكم) بأنهم (الفقهاء) وهو تأويل باطل لم يقل به أحد من العشرية حتى من الشيعة أنفسهم.

وقد أكد معظم علماء الشيعة أن ولاية الفقيه نظرية سياسية، منتقدين رسالة الخميني التي سرق معظمها من كتاب (وسيلة النجاة) لابن حسن الأصفهاني وأطلق عليها (تحرير الوسيلة).

تجرع الخميني السم بفشله في تصدير ثورته إبان حرب الخليج الأولى، لكنه أرسى مفهوم ولاية الفقيه ليجعل الولاء لطهران مقدماً على الولاء للوطن الأم، وسخّر لذلك الأحزاب السياسية في الخارج خدمة لأجندته كحزب الله في لبنان وسورية وحزب الدعوة الإسلامية في العراق وجماعة الحوثي في اليمن وجماعة الوفاق في البحرين.

إن إذكاء الطائفية والعبث بأمن المجتمعات ودعم الإرهاب وتمويله وتنفيذ التفجيرات بقتل الأبرياء والدمار الذي طال الإنسان والمكان برفع شعار تصدير الثورة الإيرانية وتأسيس كيانات أسموها (حركات التحرير) لهو سعي خبيث من الملالي لابتلاع الدول المجاورة لإيران بإسقاط أنظمتها لتكون دولة إقليمية كبرى حلماً بإمبراطورية فارس ولولا أن مركز القرار الرئيسي في إيران يتمثل عادة في ولي الفقيه بالدرجة الأولى وفِي الحرس الثوري ثانياً في علاقة تفاعلية مستمرة أبقت على هذه الولاية رغم التحديات الكبيرة التي مرت بها.

لقد وجد الغرب في هذا الخميني أداة سلسة لتفريق المسلمين وجعلهم فرقاً وشيعاً فهو نظام حاقد مخادع يحمل ذنب الدماء التي سفكت بجرائمه على الأرض، وسيظل الوطن صامداً عصياً بحزمه وعزمه ضد الأحقاد الفارسية والأطماع الخمينية والتاريخ يعيد نفسه.

كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com