-A +A
نجيب يماني
أتفهّم جيداً أن يرفض رجب طيب أردوغان ونظامه قرارات مجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، التي طالبت القوات التركية بالانسحاب من سوريا وليبيا والعراق؛ لقناعتي الراسخة بأنّه نظام يعيش حاضره بحمولة «الإمبراطورية العثمانية»، وأحلامها المنهارة، ويحاول عبثاً أن يعيد قطار الزمان القهقرى، في مظهر ما يمارسه «أردوغان» من مخاتلة تتقاطع في مسرحها العبثي كلّ التناقضات، فتارّة يبحث عن مقعد له في النادي الأوروبي، مستوفياً له بكلّ متطلبات الليبرالية والانفتاح، والابتعاد عن مساقط «الثيوقراطية»، وتارة يلبس «جبّة» الدين، ليظهر بمظهر المصلح، وحامي حمى بيضة الإسلام، ويبلغ به الشطط في لعب هذا الدور حد ادّعاء «الكرامات»، عندما يربط -بسذاجة وجرأة لا يحسد عليها- ما حدث له ليلة الانقلاب عليه، وعدم تمكّن الانقلابيين من رؤيته في الطائرة التي كان يستغلها -بزعمه- وبين ما حدث لسيدنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، مع المشركين في الغار..!!

رجل بهذه العقلية المخاتلة، ونظام يتخذ منه رئيساً وزعيماً؛ من الطبيعي أن يرفض قرارات الجامعة العربية، وهذا مفهوم ومتوقع، ولكن ما ليس مقبولاً ولا متوقعاً أن تزعم خارجيته أن القرارات «لا تستند إلى أيّ دليل» وتمضي في سفاهتها وذرايتها بالقيم إلى «إسداء النُّصح» للجامعة العربية بتقديم «إسهامات بنّاءة لإرساء الأمن والاستقرار في المنطقة، ومنح الأولوية لازدهار الشعوب العربية وطمأنينتها عوضاً عن استهداف تركيا بادعاءات لا أساس لها»..


من الواضح تماماً أن من «يتجرّأ» بهذا القول، هو واحد من اثنين؛ إما مخبول معتوه، وبالتالي «غير مؤاخذ» في ما يقول، أو غبي يراهن في قوله على ذاكرة تاريخ مثقوبة، وعين حاضر عمياء وكمهاء.. وفي هذه الحالة الثانية يتوجّب علينا أن نرتق ذاكرته المثقوبة، ونصلح عين بصره المعطوبة بإيراد نذر وإشارات بسيطة فقط لما اقترفه من مآثم وتدخلات، وما يزال سادراً فيها بـ«غيه وحماقاته الأردوغانية»..

فلينظر أردوغان ونظامه إلى تدخلهم السافر في ليبيا، وإذكاء نار الصراع المدمر من خلال استجلاب المقاتلين المرتزقة، ودعم أحد طرفي النزاع عسكريّاً ولوجستياً، استجابة لمحركات آيديولوجية معروفة، وتغليباً لمصالح يعرفها الجميع، دون الاهتمام بمعاناة الشعب الليبي، وما يعانية جرّاء استمرار حالة الفوضى الضاربة في ساحته..

إن لم يكن هذا تدخلاً سافراً وواضحاً ومسعّراً للصراع في ليبيا، فكيف هو التدخّل يا أردوغان؟!

ومن ليبيا إلى سوريا؛ حيث المأساة في أجلى صورها، والعبث في أحطّ وأقذر معانيه.. فقد جعل النظام التركي من الشمال السوري مسرحاً لتدخلاته العسكرية المباشرة، وصلت غايته باحتلال الجيش التركي، مسنوداً بفصائل من المرتزقة في الشريط الحدودي الممتد بين بلدتي رأس العين وتل أبيض السوريتين، في خضم سلسلة من المعارك الدامية، التي أُزهقت فيها أرواح بريئة، وسالت فيها دماء سورية عزيزة، في كُل من عفرين وإدلب وجرابلس.. تدخل عسكري مباشر، رافقته تدخلات تركية يومية في الشأن السوري، عبر دعم ورعاية التنظيمات والجماعات المُتطرفة في المناطق التي تحتلها وتسيطر عليها، فضلاً عن موقفها المعلن من رعاية التنظيمات السياسية السورية التابعة لسياستها، والمؤتمرة بأمرها.

إن لم يكن هذا تدخلاً سافراً وواضحاً في الشأن السوري.. فكيف هو التدخّل يا أردوغان؟!

ولينظر أردوغان ونظامه إلى الفوضى والعبث الذي ظلّ يمارسه في الشمال العراقي لما يربو على السنوات السبع، وهو ينتهك سيادة العراق ويتجرأ آذناً لقواته باقتحام منطقة بعشيقة شمال الموصل، والانخراط في تدريب قوات البيشمركة الكردية، ضارباً عرض الحائط بالرفض العراقي على المستويين الرسمي والشعبي، ومتجاهلاً الموقف الأممي من خلال قرارات مجلس الأمن الرافضة لذلك التدخل، والذي ما زال متمظهراً بصور شتى، وأساليب مخاتلة..

فإن لم يكن هذا تدخلاً سافراً في الشأن العراقي.. فكيف هو التدخّل يا أردوغان؟!

هذا نذر يسير من جبل الجليد؛ وإن شاء أردوغان أن «ننعش» ذاكرته بالمزيد فلا أقلّ من أن نسائله بـ«براءة» عن السبب في احتضان ودعم جماعة «الإخوان»، واستغلالها مخلب قط، لمناوأة السيادة المصرية وأمنها، وتسخيرها لزعزعة الاستقرار في «المحروسة».. وعلينا أن نسائله بذات «البراءة» عن دعمه المستمر معنوياً واقتصادياً لنظام إيران المزعزع لأمن المنطقة واستقرارها.. وإذا تراحبنا في «البراءة» قليلاً فلا مفر من مسائلته عن تحركاته المريبة في الشأن السوداني الخاص، وعمّا يحدثه من فوضى وعبث في المياه الإقليمية بـ«الأبيض المتوسط».. !!

إن الشواهد على عبثية هذا النظام، وحماقة رئيسه أكثر من أن تحصى، وأوضح من أن يحجب شمسها «غربال» الإنكار الذي يلوّح به في سذاجة و«استغفال».. فمثل هذا «الاستحمار» الذي يمارسه النظام التركي لا يكسب الرهان إلا عند «مريديه» من مثقوبي الذاكرة، ومُعتمي البصيرة والضمير.

كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com