-A +A
نجيب يماني
في مثل هذه الأيام كانت تعيش أغلب الأسر السعودية حمّى الاختبارات، وما يصاحب ذلك من توتر وإتلاف للأعصاب واجتهاد من قبل الطلاب والطالبات في «حفظ» ما تستطيعه ذواكرهم، لـ«إفراغ» ذلك في أوراق الاختبارات.. فإذا ما انقضت أيام الاختبارات سارع الجميع إلى إفراغ ذواكرهم من تلك المحفوظات، وحقائبهم من أرتال الكتب لتستقبلها «مكبّات النفايات»، في منظر يختصر لك مفهوم العلاقة بين طلابنا ونمط التعليم الذي يتلقونه، ورأيهم الصريح فيه! حتى أتت جائحة كورونا وغيرت أغلب أنماط حياتنا ولعل من ضمنها الدراسة عن بعد (منصة مدرستي) وأداء الاختبارات بكل يسر وسهولة عكس ما كان يحدث سابقاً من قلق نفسي واستنفار داخل البيت وما تشكله على كل أفراده. وكم طالب الكتاب والتربويون أن نطرح المكابرة جانباً ولا ندفن رؤوسنا في الرمال معتقدين بجدوى هذه العملية الاجترارية التي تحدث مرتين في كل عام، والنتيجة منها انتقال الطلاب والطالبات من فصل إلى فصل، حسب التقديرات الممنوحة، التي إن نظرنا إليها في أعلى مراقيها عند التقدير «متفوّق»، سنجد أننا نزين واقعاً مخادعاً لا يمت إلى الحقيقة بصلة ولعل نتائج طلابنا وطالباتنا في البرنامج الدولي لتقويم الطلبة، المعروف بـ«PISA»، حيث لم يسجل أي طالب أو طالبة سعودية حضوراً في المستوى الأول من هذا التقييم العالمي، وجاء ترتيبهم في المستوى الثاني وبدرجات أقل، بما يجعل من سؤال: أين الخلل؟ ضروريا وملحّاً في مواجهة هذا التراجع المخيف، الذي يهدد مستقبل الوطن، فلا نهضة لأمة من الأمم بغير العلم والمعرفة، ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بتدارك أوجه القصور في العملية التعليمية أينما كانت، والاعتماد على أسلوب المراجعة والتقويم بشكل دائم ومستمر.

والأمر الذي لا خلاف عليه أن الأسلوب الذي كان متبعاً في دورنا التعليمية المختلفة لا يفضي إلى النتائج المرجوّة، والمتوائمة مع التطور العالمي، بخاصة في العلوم التطبيقية، ولعل هذا ما حدا بمدير عام التعليم والمهارات في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الدكتور أندرياس شلايشر -في تعليقه على نتائج الطلاب السعوديين في اختبارات «PISA»- إلى دعوة وزارة التعليم لدينا لاتخاذ التدابير اللازمة لجعل بيئة التعليم أكثر جاذبية، وأشار إلى نقطة غاية في الأهمية مفادها أن «من نقاط ضعف طلبة المملكة عدم التفريق بين الحقائق والآراء».. إن من الواجب تفكيك هذه الإشارة، والذهاب بعيداً في تحليل أسبابها، فهي تنطوي على تقييم شامل لماهية التعليم التلقيني، وأثره في عقلية الطلبة.


ولقد تابعت حديث الدكتور سعد المسعودي مدير عام إدارة التعليم بمحافظة جدة في ندوة «التعليم صناعة الغد»، حيث طالب بضرورة الابتعاد عن التعليم التلقيني التقليدي، والتركيز في المقابل على الأدوات الحديثة في العملية التعليمية، ضماناً لصناعة غد تعليمي أفضل وأكثر نضجاً، وأقدر على مواكبة عالم اليوم الذي ذهب بعيداً جداً في نوافذ الذكاء الصناعي.

اليوم ومع أزمة كورونا وبعد فصل دراسي مريح وهادئ استقبل الطلبة والطالبات اختباراتهم بنفس راضية ونفسية مرتاحة عن طريق روابط إلكترونية حملت إليهم الأسئلة، وأدى 6 ملايين طالب وطالبة الاختبارات النهائية للفصل الدراسي الأول وفقاً للآليات التي أقرتها وزارة التعليم كما يحدث في أكثر دول العالم المتقدمة التي نجحت في إلغاء التعليم التقليدي الذي كان عبارة عن مجموعة كتب ودفاتر داخل شنطة ينوء بحملها الطالب على ظهره وحضور حصص دراسية مملة وطويلة يعيش الطالب في عالم آخر بعيداً عن فصله ومعلمه الذي يشرح ويعيد ويكرر دون فائدة تذكر. وقد أكد أحد القادة التربويين لـ«عكاظ» أن الاختبارات عن بُعد لهذا العام أبرزت 7 إيجابيات في ظل الظروف الراهنة، تمثلت في المرونة في تقديم الاختبارات للطلاب والطالبات، وإمكانية تحديد وقت زمني للاختبار، وكذلك الدقة في التقييم، وطباعة تقرير مباشر للطالب فور الانتهاء من الاختبار، إضافة إلى معرفة الطالب نتيجته مباشرة دون الانتظار حتى نهاية الاختبارات، وكذلك ضبط الوقت بكل دقة منذ بداية الاختبار حتى نهايته، وتوفير اقتصادي من الناحية المالية عكس الاختبارات الحضورية من ناحية طباعة الأوراق وضياع الوقت في التوزيع.

وقد وصف أحد التربويين تجربة الاختبارات عن بعد بالتجربة التقنية المحفزة، ومن إيجابياتها التفاعل الكبير من الطلاب وأولياء الأمور، وكان الحضور متميزا في أول يوم، ورهبة الاختبار النفسية زالت نوعا ما، كذلك التعامل مع التقنية تطور كثيرا مع الطالب وولي أمره والمعلمين وتعاملهم مع التقنية ومع النماذج الجديدة في الاختبارات والتعلم عن بعد، كذلك لا بد من إيجاد ثقافة لدى الطالب بالاعتماد على نفسه في حل الاختبارات.

إن المملكة العربية السعودية، بما تملكه من مقومات، وما تزخر به من عقول، قادرة على إحداث التحوّل التعليمي بما يتوافق والمستجدات العالمية المهولة، بخاصة وأن رؤية المملكة 2030 تراهن على التعليم ومخرجاته في إحداث النقلة الاقتصادية المطلوبة والمتوقعة، ولن يتأتى هذا مع ما نشهده من عملية اجترارية لا طائل منها سوى تخريج نصف متعلمين لا يصلحون إلا للوظائف دون إبداع ينتظر، فلا بد من الاتجاه إلى استخدام نوافذ التقنية والاستفادة منها وتقوية البنية التحتية لها.

كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com