-A +A
صدقة يحيى فاضل
نعم، هناك الآن أشخاص، وأطراف (شركات) يمكن «استئجارها»، لتقاتل نيابة عمن يدفع لها، ضد أعدائه، أو من يرغب في محاربتهم. إذ يمكن تقسيم المحاربين، والمحافظين على الأمن والنظام، إلى قسمين رئيسين: المحاربين، أو المقاومين (أو المناضلين) ضمن جيش نظامي، من أجل الدفاع عن وطنهم، وحماية أمنه ومصالحه، أو الدفاع عن مبادئ يؤمنون بها. ثم أولئك الذين ينخرطون في أعمال حربية، أو قتالية، بمقابل... غالباً ما يكون مادياً. ومن يقاتلون بمقابل، ولحساب من يدفع لهم، إنما «يسترزقون» بما لديهم من قوة وأسلحة وعتاد، ولذلك يوصفون بـ«المرتزقة»، لاتخاذهم القتال كوسيلة لكسب الرزق.

يوصف، إذن، من يدافع عن وطنه ومبادئه بـ«المناضل»، بينما من يحارب، أو يقاتل بمقابل «مرتزق» (Mercenary). ويمكن تصور أن المناضل قد يتحول إلى مرتزق... إذا حارب بمقابل مادي، بينما المرتزق قد يتحول إلى مناضل، إذا قاتل من أجل قضايا وطنه ومبادئه. ويعتبر غالبية الناس أن النضال سلوك إيجابي، يستحق الاحترام والتقدير، بينما سلوك الارتزاق بالقتال سلبي، ولا يستحق الاحترام، أو حتى القبول.


ويعرف المعجم الوجيز «المرتزقة» بأنهم: «أصحاب جرايات ورواتب مقدرة». ويعرف مرتزقة الحروب بأنهم: «الذين يحاربون في الجيوش على سبيل الارتزاق، والغالب أن يكونوا من الغرباء». ويعرف ميثاق جنيف المرتزق بأنه: «فرد تم تجنيده، بنزاع مسلح في دولة غير موطنه الأصلي، هدفه الأساسي هو التربح من اشتراكه في القتال. إنه يؤجر جهده وخبرته القتالية لمن يدفع له. وذلك يفقده المشروعية التي تمنح للمقاتلين في الحروب العادلة، سواء كانت نظامية أو بواسطة مقاتلي العصابات والمقاومين».

وغالباً ما يكون المرتزقة، عبر التاريخ، من المهمشين من البشر، الذين يميلون للانتهازية، وسفك الدماء، ولا يتمتعون بسلوك سوي. وولاؤهم لمن يستأجرهم. فالمرتزق غالباً ما يفتقر للوفاء. وهو مستعد لقتال من يستأجره اليوم، إذا دفع له آخر أكثر. وكل ذلك يوصم الارتزاق بالسلبية والازدراء. إذ يوصف المرتزقة بأنهم «مقاولو الموت»، أو «تجار الحروب».

****

وظاهرة الارتزاق من القتال أو حمل السلاح، قديمة قدم المجتمعات البشرية، وقدم الصراعات والحروب بين البشر. إذ يقال إن هذا النوع من «العمل» بدأ حوالى سنة 1288 ق.م. عندما استخدم فرعون مصر رمسيس الثاني، مرتزقة حاربوا إلى جانبه، في معركة قادش، ضد الحيثيين. ومنذ ذلك الحين، انتشر عرض المرتزقة، في قارات العالم القديم، وتزايد الطلب عليهم. وشنت حروب بشعة بمقاتلين من المرتزقة، من ضمنها: قيام أوروبا بشن ما عرف بـ«الحروب الصليبية» بجيوش معظمها من المرتزقة. وقبلهم استخدم الإغريق والفرس والرومان، وكل من أتى بعدهم (تقريباً) هذه الوسيلة، لمحاربة أعدائهم. وقد تحدث كثير من فلاسفة السياسة القدماء، والمحدثين، عن ظاهرة الارتزاق هذه، ناصحين الدول والشعوب بنبذها. ولا يشمل الارتزاق، بمعناه هنا، الجيوش النظامية الخاصة التي تكونها الدول من أبنائها.

****

وفى منتصف القرن التاسع عشر، توسعت فرنسا في استعمال المرتزقة، وشكلت فرقة ضخمة من المرتزقة سميت «الفرقة الأجنبية» التي بلغ عدد جنودها نحو ثلاثين ألفاً، استعملتهم في احتلال الجزائر عام 1830، وكان أغلب هؤلاء من المجرمين والمشردين. كما قاتل المرتزقة مع جنود فرنسا النظاميين، في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي حربي فيتنام والجزائر.

ودخلت بريطانيا هذا المجال بالفعل، بعد أن كانت تحظره. ففي عام 1870م أصدرت المملكة المتحدة قانوناً يمنع استعمال المرتزقة. ولكن بعض مواده سمحت بالاعتماد على الجنود المأجورين. إذ صدر أمر خاص من ملك بريطانيا إلى حكام المستعمرات باستثناء مواطني دول مجموعة الكومونويلث. واعتماداً على ذلك، شكلت بريطانيا عام 1904م مجموعة مقاتلة من الهنود، ودربتهم على القتال، ثم زجت بهم في ميادين المعارك التي كانت الإمبراطورية تخوضها، دفاعاً عن ملكها المترامي الأطراف، وتوسيع نطاقه، ومن ذلك احتلال العراق. حيث اعتبرت تلك «قوات خاصة»، عملت في صفوف الجيش البريطاني. كما حاربت لصالح قيام دول جديدة، تدور في فلك بريطانيا.

وعندما أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية قوة عظمى لم تتردد في استخدام المقاتلين المرتزقة. فاعتمدت على مرتزقة في حربها بفيتنام، وشن بعضهم هجمات ضد مواقع في فيتنام الشمالية عام 1964م، بغية استدراج الفيتناميين الشماليين إلى حرب واسعة النطاق. حتى انتهت المعارك بهزيمة أمريكا عام 1975م. وعادت أمريكا لاستعمال المرتزقة في صراعها ضد الاتحاد السوفيتي، إبان الحرب الباردة. فجلبت مرتزقة من بلاد مختلفة. وكانت هذه العناصر بحاجة إلى قيادة. فأُتي بعسكريين أمريكيين متقاعدين، باحثين عن المال ومتعطشين للقتال، مقابل «أجور» مغرية.

واليوم، هناك دول كثيرة تستخدم المرتزقة في بعض حروبها، وصراعاتها المسلحة. ولم يعد تجنيد المرتزقة يتم عن طريق الدول أو القادة فقط. فقد أصبحت هناك «شركات أمنية» خاصة تقوم بتجنيد وتشغيل المرتزقة، حول العالم. ويعتبر الضابط البريطاني المطرود من الخدمة العسكرية «جون بانكس» أول من أسس شركة من هذا القبيل، عام 1975م. ولم تستمر هذه الشركة طويلاً. ثم قام المرتزق العالمي الشهير «بوب دينار» في ذات الفترة بتأسيس «شركة ما وراء البحار للأمن والحماية». وحذا آخرون حذو دينار. فأصبح بالعالم حوالى مائة شركة مماثلة، منها 35 شركة بأمريكا وحدها. ولعل أشهر الشركات الأمريكية المشابهة «شركة بلاك ووتر للاستشارات الأمنية»، التي ظهرت للعلن عام 2002م، وشاركت بجلب حوالى عشرين ألف مرتزق، للقتال مع القوات الأمريكية في العراق. وللدور المتصاعد الذي تلعبه الآن شركة «بلاك ووتر»، ونظيرتها الروسية شركة «فاجنر»، سنتحدث عن هاتين «الشركتين»، كنموذجين بارزين للمقاتلين المرتزقة المنظمين.

كاتب سعودي

sfadil50@hotmail.com