-A +A
نجيب يماني
لم يغبْ عني ذكاء السيد عبدالله فدعق في تغريدته حول تأدية صلاة الجمعة عن بعد، ونصّها: «هناك مسائل فقهية كثيرة فرضتها ظروف كورونا مما يحتاج إلى تجديد، وإلى جرأة علمية، صلاة الجمعة عن (بعد) مع الحرمين الشريفين، خاصة أن أغلب دول العالم غدت حاليا بلا صلاة جمعة.. الموضوع قد يصدم من لم يألفه، وكذلك من لم يتعمق فيه؛ شخصيا سأبذل جهدي في مضاعفة فهم حِكم ومقاصد الأمر».. إن الذكاء في هذه التغريدة أنها «أفتت بالجواز» إيحاء، بدالة استشعار كاتبها لـ«صدمة» مَن لم يألف ذلك، كما أنها في الوقت نفسه جعلت الباب مفتوحاً للبحث والتقصّي، بما أضمرته من «تحريض» صريح على البحث، بدالة أن السيد فدعق ألزم نفسه «شخصياً ببذل جهده في مضاعفة فهم حِكم ومقاصد الأمر»..

ولست آخذاً نفسي هنا بالذهاب بعيداً في قراءة نوايا السيد فدعق بترجيحه إمكانية «صلاة الجمعة عن بعد»، مع توفر إشاراته الدالة على ذلك في تغريدته، ولكني سأذهب معه عبر الباب الذي فتحه ببذل الجهد في استقصاء جوانب هذه المسألة الفقهية.. رغم ما أحسه في دعوته المحرضة من صورة مقلوبة، بدت كما لو أن السيد فدعق قد وضع العربة أمام الحصان، بتقديم النتيجة والخلاصة، قبل البحث والاستقصاء.. وكيف ما كان الأمر، فلتكن السطور التاليات بمثابة تقديم الحصان أمام العربة، بما يسهّل حركة السير في مضمار البحث والتقصّي لفهم «حِكم ومقاصد الأمر»..


وأوّل الأمر؛ أني لا أشكّ مطلقاً في أن السيد فدعق، وهو من بيت علم وفقه وأدب، على تمام الإدراك والاستيعاب لما تفضّل به الأئمة في باب صلاة الجمعة من اشتراطات وأحكام طفحت بها كتب الفقة.

غير أني من باب التذكير فقط، أشير عليه، وقد عزم على «بذل جهده في مضاعفة فهم حِكم ومقاصد الأمر»، أن يقف طويلاً أمام اتفاق أغلب العلماء -إن لم يكن كلهم- في أن الصلاة عموماً لا يجوز للمأموم فيها أن يقتدي بإمام في معزل عنه، وعن بقية من خلفه من الصفوف، ولينظر إلى الإمام مالك بن أنس في تأكيده على أن تكون الجمعة بالذات داخل المسجد شرطاً لصحتها، فلو قطع صفوف المصلين رجال أو دواب أو سيارات أو نهر ما بين الإمام والمأموم بطلت صلاة المأموم والإمام أيضاً؛ لأنه ربط صلاته بصلاة من لا يصح الاقتداء به، فلابد من تراص الصفوف ورؤية الإمام، حتى إن بعض الفقهاء قالوا إذا زادت المسافة بين من يصلي خارج المسجد وطرف المسجد الذي يليه على مائة وخمسين متراً بطل الاقتداء.. ولا يغفل أيضاً ما قالته السيدة عائشة لنساء يصلين في حجرتها، وهي جزء من المسجد: «لا تصلين بصلاة الإمام فإنكن دونه في حجاب»..

ولا أخال السيد فدعق سيتجاهل في أوبته البحثية المنتظرة أن يقف مليّاً عند قول الحق عزّ وجلّ في محكم التنزيل: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون»، ولن يفوته، بلا شك، إدراك أن النداء للصلوات الخمس المفروضة ليس فيه أمر بـ«السعي» إلى المسجد، كما هو مخصص لصلاة الجمعة على وجه التحديد.. والسعي لتلبية النداء يلزم حركة واستجابة لمصدر النداء..

وبوسعي أن أمضي في بذل مزيد من شواهد العلماء، واشتراطاتهم لأداء صلاة الجمعة، وكلها ستجعل من رؤية السيد فدعق بإمكانية أداء صلاة الجمعة عن بعد بمقام «البدعة المحدثة»..

على أننا لو ترخصنا قليلاً، وافترضنا جدلاً بأن واقع الحال يستوجب تجديداً في الخطاب يتواءم مع المتغيرات، وأخذنا هذه المسألة على وجه التحديد؛ وهي «إمكانية أداء صلاة الجمعة مع الحرمين الشريفين عن بعد»، فإنه ثمة أسئلة أرجو أن لا يغفل عنها السيد فدعق في منعرجات بحثه العميق، ومن ذلك:

• كيف يمكن معالجة أمر التوفيق في فوارق الوقت بين الحرمين الشريفين وبقية الأمصار، فمن فضل الكلام؛ القول بأن بعض المدن تتقدم على الحرمين الشريفين في ميقات أداء صلاة الجمعة، وبعضها يأتي لاحقاً لهما.. فكيف السبيل إلى الاقتداء بصلاة الجمعة في الحرمين عن بعد هنا؟

• وأمر آخر، لو انقطع الإرسال عن المتابع، لأي سبب من الأسباب المرجحة احتمالاً يقارب اليقين، كانقطاع التيار الكهربائي، أو انفصال «الفيش» عن جهاز الاستقبال.. أو توقف الصوت عن المصدر الأصلي (الإمام) مثلاً، فكيف يتصرّف المأموم «عن بعدٍ» حينئذٍ؟..

آخر القول، أسعد أيما سعادة بأي صوت محرّض على استيعاب المتغيرات، وتجديد الخطاب الديني والشرعي تبعاً لذلك، غير أني أتمنى على من يخضون في هذا الباب، أن لا يقدموا النتيجة على البرهان، والخلاصة على البحث، والفتوى على الحيثيات.

* كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com