-A +A
نجيب يماني
أكّد المجتمعون في مؤتمر الأزهر للتجديد في الفكر الإسلامي أن التجديد سُنّة إسلامية مستمرة، كما جاء في الحديث الشريف «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها». والتجديد يعني إحياء السُنّة الصحيحة المؤكّدة وإماتة البدع التي أُدخلت على الدين وتمسك بها البعض وادعى باطلاً أن هذا هو الدين الإسلامي، لذا كان التجديد بمعناه الأوسع استنباط حكم فقهي يناسب المجتمع والعصر ويراعي مصالح الأمة ويوافق بين الواقع والواجب، فالأحكام الشرعية ترتبط بالمصلحة التي تستهدف خير الناس في حياتهم وطرق معاشهم، ولعل المصالح المرسلة تُعتبر أحد الأدلة التي يمكن استخدامها لوضع أحكام جديدة، المجتمع في حاجة إليها شريطة ألا تخرج على النصوص أو الأحكام المُجمع عليها، فالمصلحة لها ارتباط وثيق بحقوق الإنسان وحرّياته، وهي موجودة في كل تشريع وبالأخص في الدين الإسلامي الذي تقوم فيه المصلحة بدور فعّال في المجال التشريعي.

الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، فهي من ثوابت المسلم وقرت في قلبه وعقله. يقول ابن القيم: الشرائع كلها في أصولها وإن تباينت متفقة مركوز حسّها في العقول ولو وقعت على غير ما هي عليه لخرجت عن الحكمة والمصلحة والرحمة، فكل ما جاءت به الرسل هو من عند الله متحد الأصل، منها ما يتعلق بمصلحة ثابتة لا تخضع لظروف الزمان والمكان كوجوب الإيمان بالله والصلاة والزكاة والصيام والعدل والصدق، ومنها ما يتعلق بمصلحة تخضع لظروف الزمان والمكان واختلاف الأحوال، فهذه المصلحة تختلف باختلاف الأجيال فيعتريها التبديل والتغيير، فالدين وحدة واحدة وإنما الاختلاف في الشرائع والمناهج. يقول ابن القيم إن الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرّمات والحدود، فلا يتطرق إليها تغيير أو اجتهاد، والنوع الثاني ما يتغيّر بحسب اقتضاء المصلحة العامة، فالشارع يتنوع فيها بحسب المصلحة. فاختلاف الأعراف والعادات يتبعه اختلاف الحاجات والأغراض والمصالح فتختلف مناطات الأحكام، واختلاف الأحكام عند اختلاف العادات ليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب، وكون هذه الأحكام أخذ بعضها بالاجتهاد المتغير لا يخرجها عن الشريعة بل يصدق عليها أنها شريعة استناداً إلى أدلة جواز الاجتهاد والاستنباط وأحكام الشريعة المُتفق عليها وعصمتها من التحريف والتبديل وذلك بحفظه القرآن الكريم والسنّة النبوية.


يقول (القرطبي) سُئل أحد العلماء، لِمَ جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن، فأجاب، بأن الله عزّ وجل قال في أهل التوراة: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ}، فوكّل الحفظ إليهم فجاز التبديل عليهم، وقال في القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. فلم يجز التبديل عليهم لأنه وكّل الحفظ إليه. في الشريعة الإسلامية مصطلح يُعرف بالمصلحة العامة أو المُرسلة وتغليبها، وهي عبارة عن جلب منفعة ودفع مضرة، وتعني المحافظة على مقصود الشرع بالمحافظة على الدين والعرض والمال والعقل والنفس. وهذا ما كان أصحاب رسول الله يفعلونه فينظرون إلى الأمر وما يحيط به من ظروف ويحف به من مصالح ومفاسد، ويشرّعون له الحكم المناسب وإن خالف ما كان في عهد رسول الله من حيث الظاهر، وليس هذا إعراضاً منهم عن شريعة الله أو مخالفة لرسوله، بل هو سرّ التشريع الذي فهموه ووعوه ولولا علمهم وإدراكهم بجواز كثير من الأمور لما أقدموا عليها. وهذه بعض الأمثلة من الأعمال المُباحة ولكنها تُركت من باب سدّ الذرائع، فقد أخّر سيّدنا عمر صلاة الفجر حتى أسفر ليغسل ثوبه من أثر الاحتلام، وقال لعمرو بن العاص: اغسل ما رأيت وانضح ما لم أر. كذلك تطويل الصلاة من الأمور المُباحة، ولكن قد تكون ذريعة إلى فتنة الناس وتعريضهم للوسواس. كما ترك أبوبكر وبعض الصحابة الأضحية مخافة أن يظن الناس وجوبها، وقضى عمر بتوريث الزوجة التي طلّقها زوجها وهو في مرض الموت، وذلك سداً لذريعة حرمانها من الميراث.

لو طبّقنا مبدأ تغليب المصلحة العامة على الكثير من الأمور التي حرّمناها سنوات طويلة لما تأخرنا ودفعنا ثمنها غالياً. اتفق العلماء بأن مقاصد الشريعة هي تحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة وفي العاجل والآجل، وأن أحكام الله قائمة على رعاية المصالح، وأنه سبحانه شرع الأحكام لمقاصد، فليس بالتشديد والتضييق يتم الحفاظ على الشريعة الإسلامية، خصوصاً في باب المعاملات المبني أصلاً على جلب المصالح ودرء المفاسد. لأن الحفاظ على الشريعة يقتضي التجديد، وهذا ما جعل شريعتنا الخالدة صالحة لكل العصور.

* كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com