قديماً قبل خمسمائة عام قبل الميلاد تقريباً قال سقراط الفيلسوف «الأكثر ذكاءً هو الذي يعرف أنّه لا يعرف»، قد تبدو هذه العبارة سهلة في معناها، فقد قال الإمام مالك إمام دار الهجرة «من قال لا أعلم فقد أفتى»، إذن هو التواضع الذي يبعث في الإنسان الشعور بعدم العلم ويقتل فيه داء الكبر ومن ثَمَّ يعترف أنه لا يعلم، لكن هذه الفضيلة على سموّها وجمالها ليست كل ما عناه سقراط، يُذكر في سيرته أنه كان يتجوّل في أثينا، وفي شوارعها يستوقف الناس ويحاورهم، لا ليعلمهم أو يلقنهم تأملاته الفلسفية بل ليسألهم، كان يسألهم سؤال الجاهل للعالم، ويتظاهر بنوع من السذاجة والجهل، ويتدرج بأسئلته، سؤال يعقبه سؤال، والناس بطبيعتها تحبّ أن تبدي رأيها في أعظم الأشياء وأحقرها، لكنه بأسئلته يحرّك الكوامن في عقل المقابل وينبهه إلى الثغرات في كلامه حتى يدرك سذاجته بنفسه، هذا ما يسمّيه الفلاسفة «سخرية سقراط»، لكن لماذا كان يفعل هذا؟ يقول «تشبه أثينا حصاناً كسولاً، وأنا أشبه ذبابة تحاول إيقاظها وإبقاءها حيّة».
إذن نحن أمام أسلوب للمعرفة، أسلوب يعتمد على إثارة الأسئلة التي تثير كوامن العقل وتنبهه إلى المناطق المجهولة وتعرّفه على الثغرات في نتائجه، وهي تهدف إلى انتشاله من الكسل الفكري الذي يقبع فيه، ونتيجته أن يعرف المقابل أنه لا يعرف، لم يكن سقراط يفعل هذا سخرية بالناس بل شفقة عليهم وحباً لهم، لذلك كان يتظاهر بعدم المعرفة ليجبرهم على التفكير، «يقال إن أمّ سقراط كانت قابلة، وإنه كان يقارن بين الفلسفة وفنّ توليد النساء، فليست القابلة هي التي تضع المولود، وإنما هي التي تقدم مساعدتها كي يخرج حيّاً إلى الحياة، هكذا تتمثّل مهمّة سقراط في توليد العقول أفكاراً صحيحة».
يُذكر أيضاً أنّ الناس كانوا يتحاشون اللقاء به والوقوف أمام أسئلته خوفاً من هذا الموقف المخجل الذي يضعهم فيه سقراط، فكم من متعالم وقف أمامه –والناس تسمع- فطرح آراءه بثقة وقوّة، ثمّ بان له وللناس أن آراءه شيء من الهراء بفضل أسئلة سقراط المتتابعة! وكم من وجيه بهر الناس بأبّهته لم يصمد أما سقراط دقائق معدودة! لذلك كانوا يفرّون منه -هكذا قالوا-، لكن يبدو ثمّة سبب آخر يضاف إلى هذا، ذلك أنّ أبسط أنواع التفكير أن تقنع نفسك أنك تعرف الحقيقة، أو أن تدعي أن هذه المعرفة نوع من الترف لا تنفع بل ربما تضر، فهنا نوعان من الناس: نوع يظن أنه يعرف كلّ شيء، ونوع آخر لا مبالي يرفض التفكير فيما يعتقد أنه من توافه الأمور، وهذا ما نسمّيه (الكسل الفكري) الذي أصاب حصان أثينا، لا يحبّ الإنسان أن يخرج من هذا الكسل المبرّر، لأنه سيدخل في متاهة عقلية تكلفه كثيراً من الجهد والزمن وهو يظنّ أنه غني عنها، لذلك يستعيض عنها بتجارب تاريخية أو شعارات مرفوعة أو يحيل مهمّة التفكير إلى العارفين من الثقات، وحين يضطر هذا الكسول إلى الالتقاء بمحاور مثل سقراط يدرك رغماً عنه أنه يعيش في وهم كان يظنه حقيقة، فيفقد جماله أمام ذاته وأمام الناس.
هذه العبارة «الأكثر ذكاءً هو الذي يعرف أنّه لا يعرف» أوّل طريق الخلاص، لأنّ الإنسان حين يعتقد في عمق نفسه أنّه يجهل الكثير الكثير من المعرفة، سيسعى دائماً إلى التأمّل والسؤال ليصل إلى أجوبة مقنعة، والتيارات الإسلامية بعلمائها وقادتها معنية أكثر من غيرها بكلّ هذا، لا نختلف أبداً على المرجعية الإسلامية، ولكن إذا اتفقنا أن مفردات المنهج والمشاريع الميدانية نتاج بشري، فهي إذن فعل تاريخي يخضع لمراحل حياة الأفكار من ولادة ونمو وقوة وضعف وهرم، ودعوى امتلاك الحقيقة أو حتى المعرفة المطلقة بها ضربٌ من السخرية بالذات وبالآخر، ودعوى اللامبالاة والتوجه إلى العمل بدل تضييع الأعمار في مثل هذه الفلسفة كسلٌ يؤدي إلى الموت السريري، لذلك لا بدّ أن تتسع صدور المعنيين بأسئلةٍ قد تبدو محرجة أو غير مرغوبة أو مسعّرة للفتنة، لا بدّ أن تتسع لكلّ ذلك لأنّ سقراط لم يكن يريد إحراج أهل أثينا وإنما أراد إيقاظهم وإبقاءهم أحياء.
بقي أخي القارئ أن تعرف أنّ مصير سقراط كان الإعدام بعد محاكمته بتهمة (إفساد الناشئة)، يُذكر أنّه رفض الاسترحام أو طلب العفو، لا أظن أننا نخاف الإعدام من حصان أثينا المعاصر، لكني لا أستبعد الإعدام المعنوي، فعلى أصحاب الأسئلة المحرجة الذين يثيرون العواصف أمامهم أن يتوقعوا ما لا يدور بحسبانهم.
AFABOX@HOTMAIL.COM
سخرية سقراط الذكية .. «يعرف أنه لا يعرف »
20 ديسمبر 2006 - 19:25
|
آخر تحديث 20 ديسمبر 2006 - 19:25
تابع قناة عكاظ على الواتساب
مصطفى محمد الحسن