قبل ربع قرن، كان لدى صدام حسين ثلاث أو أربع صحف بعثية لا تختلف الواحدة منها عن الأخرى إلا في عدد ومساحات الصور التي تنشرها للسيد الرئيس، وكان من الطبيعي أن يتضمن (اللوغو) الخاص بإحدى هذه الصحف شعار النسر الشهير الذي يرمز للقومية العربية، والذي يقال إنه مستمد من علم صلاح الدين الأيوبي (لا أعرف كيف استمد القوميون شعار العروبة من بطل كردي مسلم!)، المهم أنه نفس شعار النسر الذي أنتج (دمغة النسر) ذائعة الصيت التي عطلت مصر ستة عقود، وقد كان هذا النسر موجودا في أغلب الجمهوريات العربية العسكرية التي أطاح بها الربيع العربي، ولكن النسر المطبوع على الجريدة العراقية كان مرسوما بطريقة فنية رائعة، بحيث يشكل خارطة الوطن العربي الذي يمتد جناحه الأيمن (المفرود) في المغرب وموريتانيا بينما يرتاح جناحه الآخر على ضفاف الخليج العربي.
حاولت أكثر من مرة أن أعيد رسم ذلك النسر العجيب كلما اختليت بورقة بيضاء و(شخبطتها) في لحظة قلق، كنت أقترب من ذلك الرسم أحيانا وأفشل في أحيان أخرى، استمر الأمر لسنوات طويلة، ولم أتوقف إلا بعد انفصال جنوب السودان، حيث تغيرت خارطة الوطن العربي، ولم يعد بالإمكان تطبيق رسمة النسر عليها، إلا إذا أردت رسم نسر بلا ذيل، حيث المكان الذي أصبح اليوم جمهورية جنوب السودان.
ولعل الأمر الذي دفعني أكثر لاعتبار هذا الرسم العراقي الجميل من نقوش الماضي هو ما يحدث في العراق اليوم، فهذا البلد الذي عاش فيه ذلك الرسام ــ الذي لا أعرف من هو ــ مهدد بالتقسيم، وقد أصبحت بعض أقاليمه خارج نطاق سيادة السلطة المركزية، والعراق في ذلك الرسم كان يمثل الجزء الأعلى من الجناح الأيسر للنسر، وحتى لو افترضنا أنه نسر مصاب في أعلى جناحه الأيسر بسبب طلقة بندقية غادرة، فإن كتفه الأيسر الذي تمثله سوريا يتعرض اليوم لعملية تمزيق وحشية تجعل الرسم بلا معنى.
أما منطقة (النحر) في ذلك النسر والتي تمثلها مصر، فيبدو والله أعلم أنها لم تعد كما كانت، حيث يواجه هذا النحر أو الصدر ضربات غير متوقعة بشكل قد تصل إلى قلب النسر الذي لو توقف عن الخفقان ــ لا قدر الله ــ فإن هذا النسر العربي سيتحول إلى طائر محنط لا روح فيه، وإذا وضعنا في الاعتبار أن منطقة الكتف الأيمن الذي تمثله ليبيا ليست على ما يرام، فإننا ندرك أنه يعاني من مرض خبيث انتشر في معظم أجزائه.
هل حقا ستتغير خارطة الوطن العربي كما حدث ذات ليلة في أوربا الشرقية، حين تناثرت أجزاء تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وحدهما إلى ثماني دول، بينما انفرط عقد الاتحاد السوفياتي إلى عدد هائل من الجمهوريات التي لا يربطها ببعض أي رابط؟، هل أصبح نسر القومية العربية دلالة على الماضي الذي لن يعود مثله مثل هلال العثمانيين؟!، الأكيد أننا على موعد استثنائي مع السيد التاريخ.. والجغرافيا ثمرة مرعبة لخطايا التاريخ.

للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ،636250
موبايلي، 737701 زين تبدأ بالرمز 211 مسافة ثم الرسالة