-A +A
د. نسيمة الغيث (*)
عرف نجيب محفوظ لدى القارئ العربي، وحيث انتشر أدبه، بأنه كاتب روائي، وقد حازت بعض رواياته شهرة ونالت تقديرا لعله لم يتح لابداع عربي روائي حتى اليوم، وهذه الشهرة الذائعة التي حققتها روايات الكاتب حجبت شهرته، كما اثرت على الاهتمام بما يكتب في مجال القصة القصيرة، مع ان جهده في اطار هذا الشكل الفني (القصة القصيرة) يحقق درجة عالية من الاتقان، والاصالة التي تنبع من الجدية الفكرية، والمهارة الفنية في نفس الوقت.
وهذه المجموعة التي نتوقف عندها، وقد اختار لها عنوان القصة الاولى منها، وهي “دنيا الله” هي المجموعة الثانية – من بين مجموعات القصة القصيرة، وقد ظهرت بعد المجموعة الأولى منها «همس الجنون» بربع قرن (صدرت همس الجنون سنة 1938 – وصدرت دنيا الله سنة 1963) وفي هذه المسافة الزمنية كانت قد ترسخت قدم نجيب محفوظ في مجال الرواية، بل نستطيع ان نقول إنه كان قد كتب أهم رواياته مثل: زقاق المدق – بداية ونهاية – الثلاثية – اللص والكلاب – السمان والخريف، ونستطيع ان نلاحظ أنه في هذه الروايات كان قد تحرك من الواقعية الى الرمزية، (أو على الاقل مزج بين الواقعية والرمزية في بناء فني واحد، كما نجد في اللص والكلاب، والسمان والخريف) وفي هذه القصص القصيرة التي ظهرت تباعا مفرقة في الصحف من المتوقع ان تكون قد تحركت بين هاتين النقطتين، أو هذين الاسلوبين: الواقعية والرمزية. وسنتناول بدورنا هذه المجموعة القصصية “دنيا الله” التي تتكون من اربع عشرة قصة، هي حسب موقعها في الكتاب المطبوع:
1 – دنيا الله 2 – جوار الله 3 – الجامع في الدرب 4 – موعد 5 – قاتل
6 – ضد المجهول 7 – زينة 8 – زعبلاوي 9 – الجبار 10 – كلمة في الليل 11 – حادثة 12 – حنظل والعسكري 13 – مندوب فوق العادة 14 – صورة قديمة وهذه القصصص – كما يدل الملحق الببليوجرافي الموجود في اخر كتاب حسن البنداري بعنوان «فن القصة القصيرة عند نجيب محفوظ» قد نشرت جميعها في صحيفة «الاهرام» عامي 1961-1962 مع تغيير محدود بين ترتيبها في الكتاب (المجموعة) وترتيبها في النشر الصحفي. وهذا يعني انه لم «ينتخب» هذه القصص من بين عدد كبير نشره في ربع القرن الذي يفصل بين مجموعة «همس الجنون» ومجموعة «دنيا الله»، إن – هذه القصص – هي كل ما كتب في فترة مركزة، مما يدل على وجود توجه عند الكاتب للاهتمام بالقصة القصيرة في هذه المرحلة، ولا نستبعد أن يكون هذا بإغراء انضمامه الى اسرة تحرير صحيفة الاهرام، ولا شك ان العمل بصحيفة توزع يوميا أكثر من مليون نسخة يمثل إغراء قويا بأن يهتم المبدعون بالفن الادبي، او (الشكل الادبي) الذي تفضله الصحافة، ولا شك ان اية صحيفة تفضل ان تنشر قصة قصيرة، على ان تنشر فصلا من رواية مسلسلة.

التركيز الشديد
واذا عرفنا ان المجموعة القصصية (دنيا الله) التي نكتب عنها تقع في مائتي صفحة تقريبا (من القطع الصغير) فان الحجم التقريبي لكل قصة يقع في اربع عشرة صفحة، وهذا حجم مناسب لقصة (كلاسيكية) بمعنى انها تسير في خط القصة التقليدية، ذات الاتجاه الواقعي، ولذلك لا تقاس الى القصص القصيرة التي نقرؤها الآن، وتجنح الى التركيز الشديد، فقد تكون القصة صفحة واحدة واحيانا جزء من صفحة، وقد تطول الى صفحتين او ثلاث، وهذا يؤدي بهذا النوع من القصص الشديد التركيز الى الابتعاد تماما عن التفاصيل الواقعية من وصف الاشخاص والاماكن، ومن التمهيد ورسم المجال وتعقب المشاعر والاهتمام بالحوار، إن هذا النوع المعاصر من القصص القصيرة (أو القصيرة جدا في الحقيقة) مجرد «ومضة» أو «خاطرة» أو «مفارقة»، إنه لا يرسم واقعا، ولا يصور حياة كتلك التي نجدها في قصص «دنيا الله».
ومن المتوقع، دون ان نفرض اية قواعد او توقعات مسبقة على قراءة هذه المجموعة، وإنما هو نوع من الترجيح بناء على ان أي كاتب جاد لا يتخبط عشوائيا في ابداعاته، ولا يكتب كل ما يرد في خياله، وإنما يختار، ويقوي الارتباط بينه وبين اسلوب بعينه في مرحلة محدودة..لذلك نقول انه من المتوقع ان قصص هذه المجموعة تسير في نفس الاتجاه الذي يسير فيه أدب نجيب محفوظ الروائي بوجه عام. فجميعها تجري في القاهرة فيما عدا قصة واحدة هي قصة «الجبار» التي تجري في قرية، ووصف البيئة التي تجري فيها القصة لا يدل مطلقا على ان نجيب محفوظ يملك الخبرة العملية التفصيلية بالقرية المصرية، وهذا «المخزن» او «مخزن الغلال» الذي ارتكب فيه الجبار جريمته المزدوجة (التعدي على خادمة، وقتلها) بحيث شاهده خفير سيئ الحظ، كان يمكن أن يكون في المدينة وان تجري فيه الجريمة، ولهذا جاء الوصف عاما، ولم يقم بوظيفة دالة في القصة. أما سائر القصص فانها تجري في القاهرة دون غيرها من المدن، والقاهرة هي المدينة التي استأثرت باهتمام نجيب محفوظ، لم تغادرها قصصه الا الى الاسكندرية، في حالات قليلة (السمان والخريف، انتقل البطل الى الاسكندرية – ميرامار تبدأ وتنتهي في الاسكندرية)، والقاهرة التي يصورها نجيب محفوظ، وتستحوذ على اهتمامه وتصدر عن خبرته الخاصة ككاتب قاهري، هي القاهرة القديمة: قاهرة الفاطميين، وقاهرة المماليك، أو الاحياء القديمة التاريخية التي سيطرت على البيئة المكانية لرواياته.
في هذه المجموعة القصصية: «دنيا الله» سنجد اسماء الاحياء التاريخية الشعبية القديمة منتشرة في كل قصة، وقد احصينا اكثرها، إن لم يكن جميعها: الحسينية – الدرب الاحمر – الجماميز – المبيضة – الدراسة والجبل – الوايلي – درب السعادة – خان الخليلي – أم الغلام – باب الشعرية – شارع الجيش – عطفة الكرماني – عطفة شنافيري – الشبكشية.
هذه الاحياء التاريخية التي تجسد مصر القديمة (القاهرة المعزية المملوكية) ومع انتساب نجيب محفوظ الى المستوى الشعبي، أي الى هذه الاحياء، حيث ولد في حي بيت القاضي خلف مسجد الحسين (رضي الله عنه) بحي الازهر، وقريبا من شارع الموسكي الشهير، فان هذا ليس هو السبب الوحيد، فأكثر هذه القصص تعبر عن الضياع والمقاساة التي تعيشها الطبقات الفقيرة، الكادحة، وهي التي تزدحم ازدحاما رهيبا في تلك الاحياء، ومعنى هذا أن حرص نجيب محفوظ على المضمون الاجتماعي، وتصوير الصراع بين الطبقات يستدعي الاهتمام بهذه الاماكن، لأن المكان يساوي الطبقة التي تقيم فيه، وهذا يؤكد أن «المكان» في هذه القصص، كما في كل كتابات نجيب محفوظ ليس مجانيا، وإنما له قيمة دلالية ذات اهمية في تأكيد الجانب الدرامي، وتوثيق الانتساب الاجتماعي (الطبقي) وسنجد في هذه القصص إشارة الى مواقع او أحياء أو شوارع في القاهرة (الاخرى) أي الاحياء الجديدة، التي يقطنها علية القوم من أصحاب الصدارة السياسية او الثراء في فترة معينة، مثل «القبة» حيث القصر الجمهوري ، «والحدائق» والمقصود حدائق القبة، وهي الحي الملاصق ، وكذلك سنجد ذكر شارع رمسيس حيث وسط المدينة والعمارات الضخمة (قصة زينة) و(جاردن سيتي) حيث تنتشر القصور والفيلات، كما نجد اشارة الى «لاظوغلي» – وهو اسم وزير تركي في زمن محمد على باشا، وهو الآن الحي الذي تقع به أهم وزارات الدولة.


الدلالة الاحصائية
اذا حاولنا أن نأخذ بالدلالة الاحصائية، سنجد اولا ان هذه المواقع جميعا تنتمي الى مدينة واحدة، هي القاهرة، وثانيا الحضور الاقوى، والانتشار من حظ الاحياء الشعبية، أما تلك الاماكن التي تدل على الجاه والسلطة والثراء، فهي تذكير لاستكمال صورة المدينة الحديثة، ولتأكيد سيطرة السلطة والطبقة العليا وما يمثلان من مصالح، ولتأكيد تطلع بعض ابناء الطبقة الشعبية، والطبقة الوسطى (البرجوازية) وحلمه بالانتقال الى هذه الطبقة الحاكمة بالسلطة او بالثروة، ولا شك أن موقع السكن – في هذه الحالة – يعتبر رمزا مقبولا، واشارة قاطعة على احلام التطلع والتسلق، وسنجد هذا في قصة “صورة قديمة”، وفي شخص حامد زهران بصفة خاصة.
ويهتم نجيب محفوظ في نتاجه الروائي كما في قصصه القصيرة بطبقة، او طائفة الموظفين، وهذا الاهتمام يستند الى عدة عوامل، فالكاتب نفسه قضى عمره موظفا (اقرأ مذكرات نجيب محفوظ التي نشرت مؤخرا. وحررها رجاء النقاش، لتعرف أنه بدأ موظفا في وزارة الاوقاف، ثم في وزارة الثقافة حتى احيل الى التقاعد عندما بلغ الستين عام 1972م)، وكذلك يأتي الاهتمام بالموظفين تابعا لاهتمامه الفني المحدد بمدينة القاهرة، فهي – مثل أكثر عواصم الدول النامية – تقوم على دواوين الحكومة ، والمؤسسات التجارية، والبنوك... وقد يدخل في اهتمام الكاتب بالموظفين انهم الطبقة التي تتعرض لمعاناة العيش أكثر من غيرها، ولهذا سنجد الموظف – في هذه القصص – مطحونا بالحاجة، حالما باصلاح الاحوال، يتوق الى علاوة، ويستميت من أجل الحصول على «درجة»، وهنا يربط الكاتب بين الوضع المادي، والتكوين الاخلاقي، فحين يكون «الراتب» المحدود هو كل ما يملك الموظف، فانه يكون على استعداد لفعل أي شيء حتى لا يتعرض لعقوبة او خصم فضلا عن الطرد، بل ان بلوغ سن التقاعد (المعاش) يعد كارثة!! (انظر قصة: كلمة في الليل)، وفي عالم الموظفين – كما يروي محفوظ – توجد الانتهازية، فليست الترقية من نصيب الموظف الكفء الامين، بل الذي يستطيع ان «يستولي» على رئيسه عن طرق منافقته، او تبادل المنفعة معه، وكذلك يتعسف الرؤساء في التسلط وإرهاب مرؤوسيهم، كما في القصة السابقة.

عالم المارة
ومع وضوح طائفة الموظفين – على اختلاف مستوياتهم – في قصص المجموعة ، فإننا نجد «عالم» نجيب محفوظ الاثير، متحققا ايضا، ونقصد عالم الحارة، والزقاق، والربع، وما يفرخ من تجار، ولصوص، ومهربين، ومدمنين، هذا العالم الذي اخذ وضعا بارزا في كثير من روايات الكاتب وقصصه، حتى اصبح لدى القارئ أو مشاهد السينما العربية، او التلفزيون، أنه يكفي ان يرى حكاية تتصل بالفتوات، او الممسوخين من المدمنين والقتلة ليرجح ان قلم نجيب محفوظ هو صانع تلك الحكاية، ونحن لا نرجح مسؤولية نجيب محفوظ عن هذا النوع من القصص، او ننفي تلك المسؤولية، والمهم أن نربط الظاهرة، او نعيدها الى اصلها الفني.
فنجيب محفوظ كاتب واقعي (هذا القول يحتاج الى تفصيل ليس هنا مكانه، لانه بدأ اقرب الى الرومانسية في رواياته التاريخية، ثم اتجه الى الواقعية، وكتب أهم رواياته في تلك المرحلة الواقعية، ثم انتقل الى الرمزية والسريالية)، وكذلك يجب ان نتذكر أن مجموعة:
«دنيا الله» – التي صدرت عام 1963 – ترجع بتاريخها الى تلك المرحلة الواقعية. ونحن نعرف ان من اهم اسس المدرسة الوقعية في الفن انها تتجه الى الطبقات الشعبية، وأنها تهتم بالوصف الخارجي للشخصيات (الهيئة وطريقة الكلام، والتصرفات السلوكية، والملابس ... إلخ) وأنها تصور الفرد على انه نتيجة حتمية لطبائع المجتمع الذي نشأ فيه، وأخيرا فإن المدرسة الواقعية (النقدية) مدرسة متشائمة، تنظر الى الحياة على انها «أزمة» والى الطبقات على أنها «صراع» وأن الافراد إما «قاهر» وإما «مقهور»، فليس في الحياة مثل أعلى، ولا التزام طوعي بالواجب، ولا حرص على الكرامة إلا في اضيق نطاق، وتحت ضرورات مؤقتة... وهكذا.

نقد المجتمع
فاختيار محفوظ او تفضيله لأولئك الذين اشرنا إليهم من الفتوات والمهربين، ومن يسميهم أو يطلق عليهم في ذلك الزمن الماضي «البرمجية» ويعني بهم الضائعين اجتماعيا، الجاهزين لاداء الاعمال القذرة بأي اجر، هذا الاختيار يحقق له الهدف العنيف الذي يحرص عليه وهو نقد المجتمع، وتوجيه الضوء الى نقاط ضعفه، وانحرافاته المادية، والاخلاقية، وكذلك يحقق له إبراز الالوان الزاهية والطابع المحلي الذي يميز الاسلوب الواقعي.
ولكي أقرب إليكم هذه الصورة أقول إن «سوق واجف، أو المباركية» – على سبيل المثال – يدل على «الكويت» ويكشف شخصيتها المتميزة أكثر مما يدل شارع فهد السالم، أو السالمية، لأن هذين الشارعين الاخيرين لهما اشباه في أكثر مدن العالم، ففي مدينة كبيرة شارع تجاري يتقارب مع شارع فهد السالم حيث المتاجر المضيئة والسيارات، والناس خليط..إلخ، ولكن سوق الحميدية في دمشق، والكاظمية في بغداد، وخان الخليلي في القاهرة، أماكن لها شخصية تاريخية، ومذاق ورائحة لا تتكرر، ومعنى هذا أن اهتمام الكاتب بالاحياء الشعبية التاريخية لا يدل على انه منحاز اليها فقط، وإنما يدل ايضا على انه حريص على ابراز الخصوصية، وتلوين لوحته الفنية بألوان زاهية (شرقية/عربية) تتعرف عليها العين بمجرد المشاهدة.

(*) استاذ اللغة العربية- رئيس تحرير «كلية الآداب» بجامعة الكويت