توقفت كثيرا أمام ما أورده بعض المؤرخين عن وجود منطقة تسمى “جدة” في جزر فرسان، فهاتفت بعض المؤرخين سائلا عن معنى ذلك وحقيقته لكنهم لم يحيروا جوابا فأدركت ان المسألة لم تلق ما تستحق من البحث والعناية، ولذا لم أجد بدا من مهاتفة عبد الرحمن الرفاعي – اللغوي والمؤرخ - وأعدت عليه ذات السؤال الذي كان قد طرحه عليه الأديب إبراهيم مفتاح وهو: هل فعلا كانت بفرسان مدينة تدعى “جدة”؟ وهل حقا كان الجداويون في جزيرة فرسان؟
أكد لي الرفاعي بأنه وجد في متون التاريخ ومعاجمه ما يخبر عن موقعين اثنين يحملان تلك التسمية (جدة) متباعا: ووجدناه -ايضا- يطبق هاتين التسميتين على شخصين مختلفي الأب -البطن- والقبيلة فالأول جرمي الأب -البطن- قضاعي القبيلة، وذلك لجرم بن ريان القضاعي اربعة من الاولاد هم: جدة، وقدامة، وملكان، وناجية وقد نزل جدة في الموقع الذي عرف بـ”هاو” عرف هو به، وهو الموقع الذي عرف قديما بفرضة مكة.. اما الثاني فهو اسم لأب بطن اشعري الثبيلة، وذلك ان (الاشعر بن أود اخو مذحج او ابنه –كما في رواية ابن الكلبي- - قد ولد له مجموعة من الاولاد منهم الجاهر، والادغم، وجدة، والانغم على هذا يكون هناك شخصان يحملان اسم جدة، الاول قضاعي، وقد عرفنا مسكنه، والثاني اشعري، فأين يقع موقعه الذي كان يحمل اسم جدة؟ وهل كان يسكنه جدة الاشعري كما كان جدة القضاعي يسكن جدة المعروفة؟ وأرى أن ما أشار اليه ابن المجاور في تاريخه بقوله: (وجدة من فرسان) او بقوله السابق (وبها مدينتان عامرتان: الاولى صور والثانية جدة، انها هي الموقع الذي كان يسكنه جدة الاشعري وذلك لاسباب كثيرة، منها: أن معظم بطون القبائل الاشعرية والحكمية كانت منتشرة بهذه المنطقة الساحلية من تهايم جنوب جزيرة العرب, كما نص على ذلك ابن الكلبي وغيره, وعلى هذا يكون هذا الجزء الساحلي من تهايم جنوب جزيرة العرب منطقة تتقاسمها مجموعة بطون عربية مختلفة, وان القسم الاقرب الى البحر من هذه المنطقة كانت فيما بعد تشغله البطون الاشعرية، وانه كان يسمى ببلاد فرسان، وهنا تظهر مجموعة من الاستفسارات لم تكن في الحسبان، ادى اليها استفسار استدعاه المقام وهو: هل جدة الاشعري هو باني جدة فرسان، ولاجل ذلك سميت به. كما سميت جدة مكة، بجدة الجرمي القضاعي؟ وهذا الاستفسار استدعى استفسار آخر وهو: هل كان هناك اناس قد سكنوا هذا الجزء الساحلي قبل الاشعريين؟ ولم سمي بفرسان؟ وهل كان هذا الجزء ارضا مغلقة –جزيرة- منذ اول ساكن سكنه؟ وهذه الاستفسارات وغيرها تستدعي إجابتها إطالة الحديث قليلا.
فرسان لم تكن جزيرة
ويضيف الرفاعي: بداية أقول ان الأرض التي سميت بفرسان، لم تكن ارضا يحيط بها البحر من كل جهاتها “جزيرة كما هي الآن” بل كانت أرضا ساحلية مفتوحة الا من جهتها الغربية حيث يمتد البحر الاحمر وان ارخبيل الجزر الممتد داخل البحر والمسمى –الآن- بفرسان ما هو الا ارض فصلت من الارض الام المعروفة قديما ببلاد فرسان, او بسواحل فرسان, وهذا ما تؤكده جل المراجع والمصادر الجغرافية والتاريخية القديمة منها والحديثة فهذا –مثلا- صاحب المعجم الجغرافي يقول عند تعريفه لفرسان (فرسان بالفتح والتحريك واخره نون: هي ناحية من نواحي فرسان.. ويقال –ايضا- من سواحل فرسان) واذا كان هذا الارخبيل عند ياقوت الحموي هو ناحية فهذا يعني انها جزء من كل ثم حصل ما حصل لفصل هذا الجزء عن الكل، بدليل ان الناحية في لغة العرب تعني (الجانب) والجانب هو جزء من كل وهذا يؤكده وجود (من) هنا هي تبعيضية والتبعيض لا يكون الا من كل، على هذا يكون هذا الارخبيل الفرساني، في التاريخ القديم جزءا أرضيا من مجموع اراض شاسعة كانت تسمى بلاد فرسان، وان تلك الناحية الساحلية منها فصلت عنها نتيجة لعوامل جيولوجية عبر عصور طويلة وهذا ما اشار اليه جل جغرافيي العرب القدامى ومؤرخيهم بكل وضوح وتفصيل، فهذا ابن الكلبي –وهو واحد من اولئك يقول (.. مال عنق من البحر الى حضرموت، وناحية ابين وعدن ودهلك.. فاستطار ذلك العنق وطعن في تهايم جنوب الجزيرة في بلاد فرسان.. والحكم بن سعد العشيرة.. وكل ذلك يقال له سواحل فرسان...).
اذن هناك عنق –لسان- مائي يخرج من الجهة الغربية لارض التهايم متوغلا داخلها ليطوق جزءا كبيرا منها بمياهه التي اخذت تتعمق وتتسع شرقا وغربا حتى أصبحت الأرض اليابسة المطوقة بمياهه في حكم المفصول عن بقية الجزء الاخر واستمر الاتساع حتى بعدت المسافة بين المفصول والمفصول عنه ليصبح بعد ذلك ما عرف بارخبيل فرسان وهذه الاشارات لجغرافيي العرب القدامى، على الرغم من تواضعها نظرا لقصور وسائل الدراسات العلمية في زمنها نجد الكثير من الدراسات الجيولوجية الحديثة التي تحدثت عن الكيفية التي حصل على اثرها نشوء البحر الاحمر وتكون الارخبيل الفرساني بداخله وان اختلفت عن سابقتها –القديمة- لفظا واسلوبا للبعد الزمني كالدراسة التي نشرتها مجلة الفيصل والتي لكبرها نوجز منها هذه الأسطر (ان البحر الاحمر تكون عندما انفصلت شبه جزيرة العرب عن قارة افريقيا وقد كان حوضا شبه مغلق وكان متوقعا ان يصبح بحيرة شديدة الملوحة ثم حدث تجدد لتمدد القشرة الارضية نتج منه الاخدود الحالي للبحر الاحمر وصاحبه رفع للاراضي على جانبي البحر نتج منه انفصال عن البحر الابيض بواسطة برزخ السويس وانكسر مضيق باب المندب فاتصل بالمحيط الهندي ومنذ ذلك التاريخ السحيق بدأ تكوين الليثوسفير المحيطي في قاع البحر الاحمر وهو ما يؤدي الى التوسع المستمر لقاع البحر.. وسطح الجزر الفرسانية مزيج معقد من الاغوار العميقة والمياه الضحلة والشعاب المرجانية الحديثة التكوين.. لذا فالشعب المرجانية الموجودة حاليا في ارخبيل فرسان تعد حديثة نسبيا من الناحية الجيولوجية اذ يقدر عمرها بنحو سبعة الاف سنة..) هذا موجز ما اختصرناه وفيه تلاحظ تقارب مفاهيم هذه الدراسة مع مفاهيم سابقتها من حيث كيف كان الإنفصال، حتى وان كان الحديث عن انفصال البحر الاحمر الا انك تلاحظ ان الدراسة اشارت الى ان البحر اخذ يتوسع ويتعمق بمياهه داخل اليابسة ليستولي على مساحة كبيرة فاصلا لها بعنقه المائي الذي امتد منه متباعدا به عن امه التي انفصل عنها، ومما يؤكد هذا الانفصال اتفاق المكونات السطحية للارخبيل الفرساني الموجود الان داخل البحر مع جزئه الآخر الذي انفصل عنه وخصوصا الارض المقابلة له والقائمة عليها حاليا مدينة جيزان اذ ان كل الدراسات التي ظهرت عن سطح هذه المدينة تقول انها مدينة قائمة على جبل كبير جدا من الملح الصخري بل تعدد المناجم الملحية المنتشرة داخل المدينة الان تؤكد ذلك وهذا بعينه ماقالته الدراسة السابقة عن كيفية ولادة هذا الارخبيل وكيف ان سطحه ولد وتكون نتيجة لوجود كتل من الملح المايوسني المندفع الى اعلى مكونا قبابا محلية صخرية قامت برفع ما عليها من الارسابات الكلسية وقد دلت الآبار التي حفرت جنوب غرب الجزر بحثا عن البترول على سيادة الملح على عمق كبير.. وعلى هذا يكون الجزء المفصول - الارخبيل- يتفق تماما في مكونات سطحه مع سطح مافصل عنه وهنا قد يأتي من يقول: ان ماقلته عن هذا الاتفاق في السطح لا يختص بالارخبيل الفرساني وحده بل هو ينطبق على سطح كل الجزر الاخرى الموجودة في البحر الاحمر؟ واجابتنا على ذلك نتركها للدراسة السابقة التي تنفي ذلك بقولها: ان معظم الجزر في البحر الاحمر تتكون من شعاب مرجانية وليست بركانية وهناك نمطان لهذه الجزر.. فهي اما شعابية طينية منخفضة وهو ماعليه اغلب الجزر.. واما شعابية طافية مثل جزر فرسان.
أول السكان
ويضيف: اذا كنا قد علمنا ان اولئك المهاجرين لم يكن انطلاقهم من جهة واحدة بل كان ذلك من أماكن وطرق متعددة فالفينيقيون وهم من اوائل الافواج التي انتقلت نلاحظ أنها قد لزمت في رحلتها طرقا متعددة لذلك تجد منهم من لازم الشواطئ عبر بحر العرب فعمان فالخليج فالبحرين ومنهم من سلك طرقا داخلية عبر مارب فنجران الى شبه جزيرة سيناء ففلسطين والاردن.
الكنعانيون في فرسان
ويضيف: في الوقت الذي لزم فيه هذا الفريق الطرق الشرقية نجد فريقا اخر تجمعهم بالفريق الاول رابطة الابوة اذ الجميع من نسل عمليق - العماليق- ومع ذلك تجدهم يخالفون اخوتهم الفينيقيين في طرق رحلتهم حتى كان لتلك المخالفة أثرها عليهم لدرجة جعلت صفة عليهم لتتحول بعد ذلك لقبا فنسبا يعرفون به (الكنعانيون) وذلك لكنوعهم وميلهم في سيرهم عبر طرق خالفوا فيها طرق اخوتهم الفينيقيين, وهذا ما اكدته لغة العرب ولسانهم جميعا عن مادة كنع، (فكنع كنوعا انقبض وانظم وفلان كنع أي لان وخضع وكنع النجم أي مال للغروب والكنيع هو العادل عن طريق الى غيره.. والكنعانيون امة تكلمت بلغة تضارع العربية وكنع عنه عدل عنه ومال ناحية اخرى واكتنع أي اجتمع وعليه تعطف والليل حضر ودنا هذا موجة ماقالته لغة العرب عن مادة كنع ورغم انها مادة ذات مداليل ودلالات كثيرة لكنها تكاد تنحصر في عموم مدلولين الاول هو العدول عموما وفيه يدخل العادل عن طريق الى غيره والميل نحو ناحية مخالفة لما عليه الآخر, وخاصة الميل والاتجاه ناحية الغرب اما الثاني فيعني الاجتماع والانضمام ومنه الالتصاق والالتزاق وفي هذا المدلول يدخل في مفهوم آخر يرتبط بمدلول جمالي تشخيصي ولذلك قالوا انوف كانعة واظن ان من خلال هذه المداليل جاءت تلك الصفة (الكنع) الميل والعدول ناحية الغرب- لاولئك القوم الذين اصبحوا لايعرفون الا بها (الكنعانيون)، فقد رأينا ان كثيرا من الافواج العمليقية، كانوا قد مالوا وعدلوا في سير رحلتهم حيث سلكوا طرقا اخرى خالفوا فيها اخوتهم الذين سلكوا الطرق الشرقية، فقد ورد ان هذا الفوج اتجه ومال ناحية الغرب، وقد انقسموا ايضا، اذ منهم من سلك طرقا - وان كانت غريبة - الا انها كانت داخلية - كانت عبر جبال السروات وسهولها فالحجاز - مكة فالمدينة، الخ - والقسم الآخر سلك عن طريق الشواطئ والسواحل عبر باب المندب وأرى أن هذا الارخبيل الفرساني كانت تسكنه بعض من هذه القبائل الكنعانية، قبل أن يفصل عن جزئه الاخر، وذلك لاسباب كثيرة:
منها ان هذا الارخبيل كان امتدادا طبيعيا لتلك السواحل الغربية الممتدة عبر الشواطئ التهامية من عدن جنوبا الى الحجاز فتيماء والعقبة شمال غرب الجزيرة، وكل هذا الامتداد الجغرافي كانت تنتشر عبر اراضيه الساحلية والجبلية الكثير من القبائل الكنعانية، كبني هيف وسعد بن هزان وبنو مطر، وبنو الارزق المنتشرون في اراضي الحجاز وتيماء.. وكذلك جل من كان بعدن ودهلك.. واذا كان ذلك العنق المائي قد مال الى حضرموت فناحية ابين فعدن ودهلك فقد استطار في التهايم في بلاد فرسان، اذن فمن كان يسكن في بلاد فرسان هم من جنس من كان يسكن في عدن ودهلك.
جدة.. فرسانية أم حجازية
لم تكن جزيرة.. وأول من سكنها الكنعانيون
30 أغسطس 2008 - 21:27
|
آخر تحديث 30 أغسطس 2008 - 21:27
لم تكن جزيرة.. وأول من سكنها الكنعانيون
تابع قناة عكاظ على الواتساب
جولة: سلطان الحمزي