-A +A
مالك عبيد
غربلة الأفكار والحقائق بهدف إعادة تقييمها وقياس مدى مصداقيتها، هو نشاط عقلي واعٍ يستند على منهجية أكثر عمقاً ورسوخاً من انفعالات العاطفة وردود الأفعال أو الافتعال، هذا إن كان الهدف من كل ذلك هو البحث عن حقائق جديدة قد تغير من المسلمات الراسخة في العقل البشري وتفتح أمامه آفاقاً من العلم والمعرفة أكثر اتساعاً من حقائق ومسلمات راسخة في ذهن المجتمعات بحكم العرف العام والعادة والموروث.

تجاوز نمطية التفكير الفئوي يعد أحد شروط حيادية البحث ومصداقيته، لكون الحقيقة هي الأساس من كل ذلك النشاط وليس إعادة التمترس حول الذات، والابتعاد عن الآخر وإلا أصبح هذا الجهد العقلي برمته لا يعدو كونه إعادة اجترار للتراث بما يحمله من أزمات وشخوص بهدف إعادة تحصينه وضمان بقاء مواطن الخلاف وتفتيت المجتمعات بترسيخ فئويتها على حساب سلامتها وأمانها.


وانطلاقاً من نتائج الانزواء حول الذات وحقيقة أنه مقتل مبكر لحيادية الأسئلة وبالتالي الإجابات.. ينتهي كل ذلك الجهد العقلي إلى ذات الأحكام الكبرى والأوصاف المتضخمة ولغة التعميم والنمطية؛ سواء كانت مع أو ضد، في إطار نفي صارخ لأي موقف مخالف. وما تلبث إلا أن تتحول تلك الأحكام إلى مواقف أيديولوجية مقدسة تحمل كل عوامل الجمود والتزمت أمام تغير الحياة وحيويتها ويسهل ترجمتها إلى سلوك عنيف ولغة مليئة بالكراهية لا تتسع لحقيقة التطور البشري المستمر والطبيعي.. لنجد أنفسنا نخرج من الباب، نعود مرة أخرى من الشباك! فلا حوار ولا نقاش ولا تواصل بين الأطراف المختلفة.

لم تكن أزمة الطرح الديني المسيس بكافة أشكاله الحزبية، أزمة دينية بالدرجة الأولى ولا بتفسير النصوص فحسب، إنما أزمة منهجية ساهمت نمطيتها بالتفكير في ترسيخ فكرة القطيعة مع الآخر وتهديده تحت بند الفرقة الناجية، والتي تقوم على فردية الطرح وأحادية الاتجاه وتضئيل الحقيقة ونفي حيويتها واتساعها. وعليه فإن تغيير الواقع بإعادة البحث وطرح الأسئلة يقتضي الوعي الكامل بتجاوز الشكلي وبلوغ المضمون وإعادة تحليله آخذين بالاعتبار أن إقصاء الآخر أياً يكن هو الفخ الحقيقي الذي وقع به الكثير من الباحثين في شتى الميادين مدفوعين بمتعة الإقصاء لكل ما هو مختلف، والطمأنينة لفكرة «هذا ما وجدنا عليه آباؤنا».

في عالم الفكر والبحث؛ الاتفاق ليس ضرورة مقدسة دأبه في ذلك دأب الاختلاف وعدم الاتفاق.. وبالتالي فليس من الضرورة بمكان أن يؤسس تبني الموروث أو رفضه إلى قطيعة ذهنية وتاريخية قد تسهم يوماً ما بفهم جذور ما تواجهه المجتمعات من أزمات وارتباك في بوصلتها الفكرية والأخلاقية. وبالتالي فإن إيمان البعض بفكرة اللون الواحد للمجتمع ومحاولاتهم القفز على مفاهيم الشراكة والوحدة والتنوع لن تجدي نفعاً، مهما بلغت بهم اللذة في إقصاء الآخر ونفيه. فالحقائق غير قابلة للتدجين. وأن حصرية «الفرقة الناجية» لا يمكن إثبات صحتها بإعادة الالتفاف على أزمات التراث ومحاولة ترميم ما أكل الدهر عليه وشرب وأثبت الواقع خطأه.

لم تكن تجربتنا في معاداة الانفتاح على الآخر المختلف وإقصائه وتهديده بسلب حريته وكرامته بالتجربة الطبيعية، بل إننا أبناء تجربة مريرة وقاسية مازلنا نعاني من نتائجها لغاية اليوم. وبالتالي فإن أية محاولة صريحة أو مبطنة في هذا الاتجاه قد تجعلنا في يوم من الأيام ضحايا الآخر الذي يتبنى ذات النمطية بالتفكير، ولنجد إنسانيتنا في نهاية المطاف مهددة بذات السلاح الذي طالما رفعناه بوجه الآخر ورفضنا التنازل عنه من أجل السلام.

كاتب سعودي

malekObied@