هاجرت القبائل العربية النبطية من الجزيرة العربية في القرن السادس قبل الميلاد, استوطنت في بلاد "أدوم" جنوب الأردن, وظهر ذكر الأنباط في "البترا", واسمها القديم هو "الرقيم", لأول مرة في التاريخ عام 312 قبل الميلاد, عندما دحروا قوات أنطيغونوس الأعور وهو أحد قادة الاسكندر المقدوني. في القرن الثالث قبل الميلاد انتشروا في صحراء النقب, وفي سهول حوران, وأسس الأنباط مملكتهم في "البترا" خلال القرن الثاني قبل الميلاد واستولوا على تجارة البخور والتوابل من المعينيين وظلوا يحتكرون هذه التجارة المربحة حتى نهاية القرن الأول قبل الميلاد, عندما حول "أغسطس" معظم التجارة عبر البحر الأحمر إلى مصر مباشرة, فطور الأنباط الزراعة ونقلوا عاصمتهم إلى بصرى الشام في عهد الملك رابل الثاني (75 – 106م) للسيطرة على تجارة الهند والصين عبر الخليج العربي, وفي عام 106م ضم الإمبراطور تراجان مملكة الأنباط إلى الولاية العربية التابعة للإمبراطورية الرومانية, فكانت عاصمتها البترا ومن ثم بصرى الشام.
وفي نهاية القرن الثالث الميلادي أصبحت "البترا" عاصمة ولاية فلسطين الثالثة التي كانت تضم جنوب فلسطين ومؤاب والنقب وسيناء, وقد اعتنق الأنباط الديانة النصرانية أواخر القرن الرابع للميلاد.
مكتشف البترا
ومدينة "البترا" عاصمة الأنباط العرب تعتبر من أعظم وأشهر المعالم التاريخية في الأردن، ولم يكن العالم يعرف شيئًا عن مدينة "البترا" خلال الحروب الصليبية، إلى أن قام الرحالة الإنجليزي– السويسري "جوهان بوركهارت" بالكشف عنها خلال تجواله في أقطار الشرق العربي, وكان آنذاك يقوم برحلته من القاهرة إلى دمشق بعد أن ترك المسيحية إلى الإسلام ودرس العلوم الشرعية الإسلامية، بالإضافة لممارسة الاكتشاف والترحال, في العام 1812، أقنع "بوركهارت" دليله البدوي أن يأخذه إلى موقع المدينة التي أشيع أنها مفقودة, وقد كتب ذلك في ملاحظاته ورسوماته التي كان يدونها سرا, ووصفها الشاعر الإنجليزي الشهير"بيرجن" بأنها المدينة الشرقية المذهلة، المدينة الوردية التي لا مثيل لها.
عند وصولك إلى مدينة البترا التي تتبع إداريا لمدينة وادي موسى فإن أول ما يجب أن تبدأ به هو زيارة "مكتب الزوار" الذي يؤمن لك كل ما تحتاجه لمعرفة المدينة الأثرية, إضافة إلى تأمين دليل سياحي خبير بكل ما تحتويه المدينة الأثرية من تاريخ وحضارة, وآثار تركها الأجداد العرب الأنباط التي كانت البترا عاصمتهم.
والتقينا بنائب مدير مكتب الزوار السيد بركات المساعدة الذي رحب بنا وأعرب عن استعداده لتقديم كل عون لنا لإعداد تقريرنا المصور, وأبدى استعداده كذلك للرد على كل استفساراتنا بعد انتهائنا من زيارة المواقع الأثرية العديدة في المدينة الوردية.
التكوينات الجيولوجية
يشير جيولوجيون إلى أن معظم التكوينات الجيولوجية في البترا من الصخور الرملية، ولا تظهر الصخور البركانية على السطح إلا في الجهة الغربية وهي من تكوين يعود إلى العصر ما قبل الكامبري (أقدم من 570 مليون سنة) وتتكون الوحدات الترسبية من: تكوين حجر سلب الرملي الاركوزي, ويتكون من حبيبات نارية بركانية ذات زوايا حادة في أرضية رملية، ثم تكوين حجر أم عشرين الرملي (العصر الكامبري العلوي حوالى 520 مليون سنة) هذا التكوين هو الأكثر شيوعا في البترا, يتم تقسيمه إلى ثلاث طبقات من الرمال الكوارتيزية ذات التركيبات المتشابهة وهي متميزة بوجود كمية كبيرة من الكوارتز تصل إلى 95%، والكوارتز هو المعدن الأكثر شيوعا في المنطقة ورثته التكوينات الترسبية من تحلل الصخور البركانية الأكثر قدما، و تعود الألوان الجميلة الواضحة على الصخور التي حفرت فيها واجهات البترا إلى وجود عدد من هذه المعادن, تعطي هيدروكسيدات الحديد ألوانا تتراوح ما بين البني المحمر الداكن إلى الرمادي المخضر والأسود, ومن هنا اكتسبت المدينة اسم المدينة الوردية نسبة إلى لون صخورها.
باب السيق
اصطحبنا دليلا سياحيا ليشرح لنا ما سنراه من آثار تاريخية خلفها العرب الأوائل الأنباط, وخيرنا الدليل علي عبدالله, إن كنا نرغب السير على الأقدام أم ركوب الخيل, باعتبار أن السيارة لا يمكن لها أن تصل إلى داخل المدينة الأثرية, والمسافة التي سيسيرها الزائر نحو عشرة كيلومترات, فاخترنا المسير على الأقدام لنستمتع بالسير على الطرقات الثرية, وابتدأ الدليل شرحه للمدينة بالقول إن الأنباط العرب بنوا مدينة البترا في القرن الرابع قبل الميلاد, وتحديدا في العام 312 قبل الميلاد.
اتجه بنا الدليل نحو "السيق", وهو شق هائل طوله 1000 متر، يخيل للمرء ان جانبي الشقيف الصخري في أعالي، وعلى ارتفاع 300 متر، وكأنهما يتلامسان, والسيق هو شارع عام كان يستخدمه الأنباط للوصول إلى المدينة, وأول ما يواجه الزائر في الطريق إلى السيق وإلى اليمين ثلاث كتل ضخمة مقطوعة من الصخر يطلق عليها اسم (الصهاريج أو صخور الجان) وتم تأريخها إلى القرن الأول الميلادي وقد اعتقد بعض أوائل علماء الآثار بأنها صهاريج مياه في حين اعتقد آخرون أنها دروع متقدمة يحتمي بها المدافعون عن المدينة في حال حدوث أي هجوم وهناك آخرون اعتقدوا بأنها تمثيل للآلهة ذو الشرى, لكن ثبت بأنها قبور نبطية من النوع المعروف بالـ (Shaft Tombs) مكونة من غرفة للدفن أسفل الكتلة الحجرية وهي نوعان مفرغة وغير مفرغة كما أنها نوعين من الناحية الزخرفية أيضا, سادة والنوع الآخر مزخرف بأربع دعامات على الزوايا الأربعة وكل واجهة منها مقسمة إلى ثلاثة أقسام بواسطة عمودين نصف دائريين والنوع المزخرف يحتوي على أخدود مطعم بحلية ربع دائرية, وعندما يقترب السيق من نهايته، فإنه ينحني في استدارة جانبية، ثم لا تلبث الظلال الغامضة أن تنفرج فجأة فترى أعظم المشاهد روعة تسبح في ضوء الشمس, إنها الخزنة، إحدى عجائب الكون الفريدة, والتي حفرتها الأيدي في الصخر الأصم في واجهة الجبل الأشم، بارتفاع 140مترا وعرض 90 مترا.
قبر المسلات
على يسار الزائر يوجد قبر المسلات, وهي أول واجهة تشير إلى نصب تذكاري يمكن رؤيتها في البتراء وتتكون من طابقين العلوي وهو الأقدم ويؤرخ إلى القرن الأول قبل الميلاد ونرى فيه تأثيرات مصرية تتمثل في المسلات الأربعة التي أعطت للضريح هذا الاسم، كما نرى في الوسط صورة تمثال منحوت حيث ان التمثال والمسلات تشير إلى عدد الأشخاص الذين دفنوا في هذا القبر، وفي أسفل هذه المسلات أي وسطها تحديدا توجد غرفة تحتوي على خمس حفر تمثل خمس قبور، مما يؤكد صدق المقولة بأن المسلات تمثل عدد الأرواح، وعلى الجهة المقابلة على يمين الزائر نرى نقشا ثنائي اللغة (نبطية آرامية ويونانية) يذكر بأن شخصا نبطيا عرف باسم " عبدملكو " قد أقام هذا القبر لنفسه ولعائلته, أما الطابق السفلي الذي يؤرخ إلى القرن الأول الميلادي فهو عبارة عن (تركلينيوم) وتعني وجود ثلاثة مصاطب متصلة معا ومع جدران الغرفة من الداخل (على الجهتين الجانبيتين والجهة المقابلة للمدخل) كانت تستخدم للاحتفال بذكرى الموتى وتمجيدهم (أي أنها قاعة جنائزية). وهذا القبر فيه تأثيرات رومانية يونانية تتمثل في اللوحة المثلثة, مما يؤكد بان الأنباط لم يكونوا تجارا بارعين فقط بل انهم تنقلوا عبر العالم القديم وأخذوا منه الكثير، لذا نرى واجهاتهم مليئة بهذه التأثيرات من الحضارات المجاورة.
السد المائي
السد المائي يدل على ما وصل إليه الأنباط من تقنية حيث أقاموا هذا السد لحماية عاصمتهم "البترا" من فيضانات المياه التي تتجمع خلال المواسم الماطرة من أعلى سفوح الجبال والتلال المجاورة عبر الأودية ثم تتجمع في وادي موسى حتى تصل إلى مدخل السيق أو السد كما حفر الأنباط النفق الموجود على اليمين للتخلص من هذه الفيضانات وإعادة استخدام المياه في الجزء الشمالي الغربي من المدينة لأغراض الزراعة والري.
ومع مرور الزمن تآكل السد من بعض جوانبه, إلا أن الحكومة الأردنية وبإشراف خبراء آثار أعادت بناءه عام 1964م بنفس الطريقة النبطية, وخلال عملية إعادة بناء السد تم العثور على نقش جنائزي تحت صف من المسلات أقامته إحدى العائلات النبطية تخليداً لذكرى ابنها وفي هذا النقش نجد العبارة التالية(ولدت في رقمو "تعرف حاليا بالرقيم" ومت في جرش) وتنبع أهمية النقش من الكلمة رقمو أو الرقيم والذي يعني المدينة الصخرية وهي الاسم العربي النبطي للمدينة أما الاسم اليوناني فهو البترا والذي يعني المدينة المنحوتة في الصخر.
السيق
يبدأ "السيق" من عند السد وينتهي في الجهة المقابلة للخزنة ويمتد بطول 1200 م تقريبا, و"السيق" لفظة محرفة من الشق ويعني باليونانية الممر الآمن كما يسمى بالممر المقدس حيث يلاحظ وجود الحنيات والمنحوتات التي تمثل الآلهة كل مائة متر تقريباً على طول هذا الممر في المدخل نرى بقايا قوس كانت على الأغلب مكتملة وموجودة بشكل كامل حتى عام 1812م على الأقل عندما أعاد اكتشاف المدينة للغرب الرحالة السويسري بيركهارت الذي ترك لنا مجموعة من الرسومات لأجزاء كثيرة من المدينة، من ضمنها رسما لهذا القوس بشكل كامل على الجانبين يوجد حنيتين يعتقد أنهما استخدما لوضع تماثيل الآلهة، كما نرى على الجانبين بقايا لقنوات المياه حيث ان القناة التي على اليسار منحوتة في الصخر ويعتقد بأنها لري الحيوانات وللاستخدام المنزلي وري المزروعات، كما ان الانباط برعوا في الحصاد المائي وتصريف المياه حيث نجد أنظمة التنقية من الشوائب على طول هذه القناة أما القناة التي على اليمين فكانت للاستخدام البشري كونها معمولة من الأنابيب الفخارية ولاعتقاد الأنباط وإيمانهم الشديد بأن المياه مقدسة فإننا نجد بأن تماثيل الآلهة ومحاريبها قريبة جداً من هذه القنوات بل وملاصقة لها أحياناً.
في عام 1997م بدأ مشروع سويسري بالتعاون مع دائرة الآثار لإعادة رصف السيق كما كان في الماضي قبل 2000 عام. الانحدار أو الهبوط في الارتفاع عند الأنباط كان من صفر إلى 4 م على طول السيق يبدأ من المستوى الأعلى عند مدخل السيق وينتهي في آخره قسم المشروع لثلاث مراحل شملت التنظيف وإظهار الأرضية المبلطة وتنظيف القناة اليسرى وترميم القناة الفخارية وإعداد الخلطة التي تكونت من الرمل والحصى والتراب والبودرة والإسمنت الأبيض، كما شمل المشروع إعادة ترميم وبناء وتأهيل بعض السدود الجانبية وعلى طول السيق.