بعد الغداء تدب الحركة في شوارع جازان ومحافظاتها.. فـ «لحظة الصفاء!!» قد حانت .. جميع متعاطي القات يخرجون في هذا التوقيت خاصة من يريدون البحث عن أجود أنواع القات واكثرها فاعلية.. منازل البائعين مكتظة ومباحة للجميع من أراد أن يدخل فيلدخل بلا استئذان ولا خجل فلا ريب من وجه غريب ولا مانع من زبون جديد.. يأخذ الواحد منهم سهمه المعتاد على تعاطيه ـ حبة أو أقل ـ ويتوجه إلى "متكاه" بعدها بساعات لا تجد أحداً في الطرقات فجميعهم قد لزم مجلسه وبدأ بمضغ عادته اليومية .. شوارع خالية من كل شيء إلا من الأطفال والنساء الذين ليس لهم سوى الزيارات والتجمعات في المنازل.
المجلس أو كما يسمى في منطقة جازان با"لمتكى" هو من أولويات أي منزل يتعاطى صاحبه القات فيفكر في تجهيزه قبل أن يفكر في تجهيز أي جزء آخر من المنزل.. وهو عادة ما يجهز بالفرش والأرائك و"المتاكي" لتكون جلسته مريحة لمخزن القات لأنه سيقضي أكثر من خمس ساعات في جلسة واحدة وقد تمتد إلى أكثر من عشر ساعات ويضع البعض الشيشة من الضروريات . وقد عرف على مر السنين الماضية الكثير من أصحاب "المتاكي" المعروفة والتي عرفت بأسمائهم وبعضهم من المثقفين ايضا، وهم عادة ممن يحبون الاهتمام بذلك التجمع فيقومون بتوفير كل مستلزمات جلستهم من "ترامس ماء" وتلفزيون ومسجل حيث يحلو الطرب وسماع الأغاني إضافة على توفير الشاي والقهوة لارتشافهما بعد الانتهاء من مضغ القات أو ما يسمونه في طقوسهم " التنكيبة "
تبدأ الجلسة عادة ما بين الساعة الثالثة ظهراً والسادسة مساء ويتم تعاطي القات، وفي نفس يوم قطعة أو اليوم الذي يليه على الأكثر، يبدأ المخزن بقطف أوراق القات من أغصانها ثم يضعها في فيه وتجمع أوراق القات الممضوغة وتختزن في أحد جانبي الفم ثم تبتلع العصارة المستخلصة منه تدريجياً وعادة ما يتناول المتعاطون السجائر أو الشيشة أثناء التخزين وبكميات مضاعفة عن التي يتناولها أحدهم يومياً فهو يطلب أكبر قدر من الدخان والشيشة. الغريب في الأمر أن تناول القات يتم في غرف مكتومة حيث تجد العرق يتصبب من المخزنين ولا يقبلون أثناء عملية التخزين الأجواء الباردة .
«متاكي » معروفة
يقول أحد أهالي جازان عن "المتكى" : أصبحت هناك "متاكي" معروفة لها أكثر من عشرين عاماً يتجمع فيها المخزنون وخاصة من معارف صاحب المنزل فيقوم بتوفير كل الاحتياجات الخاصة بالتخزينة وما عليهم إلا إحضار قاتهم فقط والمجيء في الموعد الذي يفضله صاحب "المتكى" ويقضي المخزنون ساعات طويلة في مضغ القات وتبادل الحديث وتزدحم تلك المتاكي بالمخزنين اما في الاعياد والمناسبات حيث الكل يتعاطاه بحكم العادة حتى الذين لا يفضلونه - على حد وصفهم - كما تزدحم "المتاكى" ايضا عند وجود مباراة مهمة بين فريقين مهمين وهذه كفيلة بأن يجد القات اقبالا كبيرا في تلك الليلة.ويقول آخر: ما يميز تلك المتاكي هي بعدها عن حرم المنزل بحيث يسهل على معتاديه الدخول دون استئذان حتى انه في جلسة واحدة يدخل ويخرج اكثر من شخص في آن واحد. ويكون في المتكى اشخاص دائمون واخرون منقطعون واولئك قد يتنقلون في أكثر من متكى في الليلة الواحدة.
وجبات دسمة
يقول محمد مجرشي: مخزنو القات عادة ما يهتمون بأكلهم قبل تناوله فمن المعتاد ان تأمين أكلة دسمة قبل الشروع في التخزين خاصة اللحم اضافة الى اكلات تحتوي على السمن والعسل فالقات كما هو معروف يهضم كل ما يأكله الشخص ويحرق كل ما في المعدة فالأكل الخفيف قد يعرض ماضغ القات للجوع ولدوار الرأس في بعض الأحيان لذلك تجد اقبالا كبيرا في منطقة جازان على السمن والعسل والموز واللحم وهذا مما يشق الامر على كثير من متعاطي القات. وحتى المطاعم اصبحت تهتم بعمل تلك الاكلات الدسمة، وغالبية المتعاطين لا يأكلون سوى وجبة واحدة في اليوم وهي الوجبة الدسمة قبل التخزين لأن القات يسد شهية الشخص عن الاكل والشرب الى اليوم الثاني لذا فالوجبة التي سيتناولها المخزن لابد ان تكون دسمة ومتنوعة فهي الوحيدة، لذلك تجد غالبية مستخدمي القات نحيلي البنية.
جدول المخزنين
ويقول ابراهيم كداف بن علي احد الباحثين في اضرار القات: جدول مخزني القات هو جدول مكرر على مدى سنين طويلة يعيدونه دون كلل أو ملل، الطالب والمعلم والموظف والعاطل والمتزوج والاعزب ومن جاوز الستين ومن لم يتعد الثلاثين الكل في ذلك سواء إلا ما ندر. جلسات متواصلة من بعد صلاة العصر أو قبلها إلى ما قبل منتصف الليل أو ما بعده لا يقطع تلك الجلسات إلا موت أو سفر أو مرض بل ان من المبتلين به من يكون على فراش المرض ولايزال مصرا على تناوله.
ويبدأ جدول القات بعد العودة من العمل ان كان موظفا فيبدأ بالمرور على بائع القات فيشتري منه التخزينة ويرجع الى بيته فينام الى وقت الغداء وقد يستمر الى قبيل المغرب، وبعد الغداء يأخذ قاته ويخرج الى جلسته المعتادة عند اصدقائه او يدخل الى الغرفة المعدة لذلك من بيته، ويبدأ في التخزين بعد تجهيز ما تتطلبه الجلسة ويستمر في المجلس الى وقت متأخر من الليل ثم يبدأ في عملية اخراج القات من فمه وتناول القهوة والشاي، ثم يعود الى البيت فيستمر في الارق والسهر فيشغل وقته بأي شيء لانه يجد طاقة ونشوة وأرقا بسبب ما خالط عقله وشابه من جراء ما في القات من مواد فعالة، ولا يستسلم للنوم إلا مع الفجر او بعد ذلك بكثير، ويوقظه اهله للدوام فيقوم منهكا ليس لديه القدرة على العمل وان كان عاطلا فإنه يستمر في النوم الى الظهر.
وأما عن عدد ساعات التخزين المهدرة التي يقضيها المتعاطي في جلسات القات فيقول: متوسط ساعات التخزين في اليوم هي خمس ساعات ونصف تقريبا واذا سلمنا بذلك فان المخزن يقضي ستة أيام و21 ساعة في الشهر الواحد وخلال سنة شهرين واثنين وعشرون يوماً ونصف اليوم وخلال عشر سنين يقضي سنتين وثلاثة أشهر وخلال عشرين سنة يقضي اربع سنين وسبعة اشهر.
مراحل التأثير
المخزن يمر بحالات عديدة أثناء التخزين الى ان تنتهي به الحال إلى شعور مزعوم بالنشاط .
ويقول "م.خ": هناك مراحل عدة لمتعاطي القات اثناء مضغه المرحلة الاولى يقوم فيها المخزنون بتبادل اطراف الحديث في نقاش جماعي وتسود حالة من الخيالات الجامحة.
ومن ثم تبدأ مرحلة يفضل فيها المخزن سماع الأغاني أو متابعة مباراة لكرة القدم وتمر به افكار خيالية مع انقباض في البطن وعدم رغبة في الاكل أو شم رائحته. الى ان ينتهي الأمر للمرحلة الاخيرة وهي مرحلة صراع مع الأرق تمتد الى وقت متأخر من الليل الى ان يستسلم للنوم ليستيقظ في وقت متأخر بحالة بدنية سيئة من الصداع والارهاق والاجهاد مما يؤثر على انتاجه في اليوم التالي.
«تخزينة»..و تنكيبة
ينتهي سيناريو التخزين بشرب كميات كبيرة من الشاي والقهوة مع الاكثار من الدخان والشيشة للمدخنين وهذه المرحلة تسمى عند المخزنين "التنكيبة" حيث يشعر المتعاطي بخيالات جامحة مما يستهويه للقيام بأعمال مهنية مثل «هندسة» سيارته او مسجله او تلفازه حيث يجنح به الخيال الى تفكيك الأجهزة ثم تركيبها وهذه الحالة تمنحه اياها مادة الامفيتامين الموجودة في اوراق القات ومنهم من يأخذ قلماً ثم يبدأ يخطط ويسطر ويتاجر على الورق وربما بدأ يحاول كتابة قصيدة شعرية او رسالة نثرية وربما قضى بقية الليل في كلام مع زميل له وأخذتهما الخيالات والأوهام الى اذان الفجر. او بقيا طوال الليل يلعبان البلوت او يشاهدان فيلماً او اخذ احدهما سيارته وخرج يجوب الشوارع لأنه يشعر بطاقة يريد ان يصرفها كيفما كان. وعن حالة ما بعد القات كثيراً ما يتندرون بالذي كان يهدم جزءاً من جدار بيته ثم يبنيه ثانية. وهذا مما يمنحه القات من طاقة يريد اهدارها في أي شيء كان.
الخيالات والأوهام
يقول "غ.م": يمنحنا القات شعوراً غريباً وبهجة مؤقتة وما ان نصحو من نومنا حتى تنتهي تلك النشوة وينعكس ذلك الشعور ويتحول الى ضيق في الحالة النفسية وشعور كبير بالملل وكثير من المخزنين اثناء حالة التعاطي تراهم يخططون لمستقبلهم وماذا هم فاعلون غداً ويرسمون كل ما هو من المفترض ان يكون لكن ما ان تنتهي التخزينة ويخلدون الى النوم حتى تتبخر كل تلك المخططات ويرى في اليوم التالي انه من الصعب عليه تنفيذها ويشاع فيما بينهم كلمة يقولونها وهي "كلام تخزينة" وتعني ان الكلام الذي اتفق عليه كان اثناء شطحة قات وانتهى فكلام المخزن لا يؤخذ به. ويقول ايضاً: لو ان المخزنين نفذوا ما يخططون له وما تحدثوا به لكانوا أكثر الناس انتاجية وعملاً ولكن كلها مجرد شطحة وآمال تتبخر في اليوم التالي.