-A +A
جولة: ابراهيم عقيلي تصوير:احمد بابكير
لكل حي في جنوب جدة وجهان.. وجه ظاهر للعيان ووجه آخر يتوارى خلف ستائر تحجب الممنوع، رسمت ملامحه طقوس التخلف والجريمة.. الا حي الكرنتينا الذي يكشف لك عن اسراره بمجرد مرورك في أحد الأزقة الداخلية. تجوال الغريب في الحي مغامرة حقيقية قد تعرضك للخطر، لأن الجميع هناك يعرفون الغريب بنظرة واحدة، تلاحقك هنا وهناك، إلى ان تقود نفسك إلى خارجه أو أن تسير في طرقها العامة المباحة للجميع. حي في اغواره الكثير من المفارقات والغرائب وسبرها لا يحتاج إلى دليل أو مساعد بل يحتاج إلى كثير من الجرأة وتحمل العواقب. يسكن الحي مزيج افريقي ويتميز بأزقة ضيقة وطقوس استوردتها احتياجات المتخلفين، أنت في داخل الكرنتينا غريب واحساسك بذلك لا يفارقك حتى تغادر، وتطأ قدماك شارع "المحجر"، فلا شيء يدل على أنك في احضان مدينة جدة وانت تسير في داخل ذلك الحي.
كيف تكون ذلك التجمع؟ وإلى أي زمن يعود؟ اسئلة قادتني إلى البحث عن كبار السن من المواطنين الذين يسكنون ذلك الحي.
قال لي "محمد مسعودي" مواطن مسن يسكن الحي: لم يكن الكرنتينا من أحياء جدة القديمة فهي لا تدخل ضمن الأحياء التاريخية كالمظلوم وغيره فهو اذا ما قيس بتاريخ جدة حي حديث كونه الحجاج الافارقة الذين قدموا قبل ستين عاما إلى جدة بغرض العمرة والحج، ومع الأيام أصبح حيا نشأ مع الأحياء المجاورة له كغليل والقريات، وكنا نسمع قديما بأن الحجاج المرضى القادمين من افريقيا كانوا يحجرون في المحجر الصحي الواقع في الكرنتينا في ذلك الوقت للكشف عليهم والذين يثبت تعافيهم يتم إخراجهم ليتجهوا بعد ذلك إلى السكن في نفس الموقع الذي سمي مع الأيام بذلك الأسم لأن غالبيتهم خرجوا من المحجر الصحي.
وأيضاً قيل بأنه سمي بهذا الأسم لأن البيوت التي كانوا يسكنونها هي عبارة عن كراتين وهذا الوضع كنا نراه فعلا فجميع المساكن التي تؤوى الافريقيين هي مجموعة من الكراتين المتلاصقة لذلك سمي بذلك الأسم.
ويضيف المسعودي: كون السكان لهم مجتمعا خاصا بهم يوفر لهم جميع احتياجاتهم ومتطلباتهم الأساسية حتى أصبح المكان بيئة ملائمة للعيش.

تقسيمات الحي
حي الكرنتينا كما وصفه بعض السكان مجموعة من الأحياء في حي واحد، فكل جزء منه يختلف عن الآخر، الشارع الذي تسلكه الآن ليس هو ذلك الذي اتيته من قبل وساكنوه غير اولئك الذين قد تجدهم في شارع آخر. لكل منهم محلاتهم الخاصة وانشطتهم المختلفة، ولكن غالبيتهم العظمى من الافارقة ذوي البشرة السمراء، رغم اختلاف وجهاتهم وانتماءاتهم.
لذلك يختلف في طبيعته السكانية عن الاحياء الأخرى فهو ببساطة شديدة عبارة عن مربعات سكنية تختلف كل واحدة عن الأخرى من حيث الجنسيات والأنشطة التجارية الممنوعة منها والمسموحة، فهناك شارع يطلقون عليه "البلدية" يتميز بتركيبة سكانية خاصة ونشاط خاص اطلقوا عليه هذا الأسم لأنه كان يضم عدداً من الأحواش الخاصة بالبلدية.
وشارع آخر اطلقوا عليه اسم "المليباري" نسبة لأحد التجار القدامى الذين عملوا فيه، و"القورو" كونه يضم عددا كبيرا من باعة القورو، وحارة "المصاوعة" التي كانت تستقبل الحجاج القادمين عبر ميناء مصوع في احدى الدول الافريقية وهناك في جنوب الحي شارع يسمى "الفحم" لكثرة باعة الفحم، وبرحة "المكسورة" نسبة لمنازل كانت في نفس الموقع قديما وتم هدمها، وهذه المسميات مسميات محلية ابتكرها السكان هناك من سنين مضت.


شارع القورو
شارع القورو هو قلب الكرنتينا النابض ففيه حركات تجارية نشطة ترتكز على تجارة القورو وهي ثمرة تشبه الليمون في شكلها وحجمها تحتوي على مركبات فعاله من الكافيين ومواد عفصية تستخدم لزيادة النشاط البدني وتؤدي الى حالة من الانبساط النفسي وموطنها الاصلي في غرب افريقيا تدخل الى المملكة عبر وسائل تهريب متنوعة وهي تجد اقبالا كبيرا من الافارقة حيث يجوبون في أوقات الظهيرة المكان يتنقلون من بائعة إلى أخرى بحثا عن أجود الأنواع وأرخصها حيث يبدأ سعر الواحدة عشرة ريالات وتصل إلى ثلاثين ريالا اضافة إلى صفقات بيع تتم بالجملة لتجار لا يمكن الكشف عن هويتهم للمشتري فالوسيط هي الافريقية التي تقوم بعملية التنسيق مقابل عمولة تتقاضاها من التاجر، وشارع القورو لا يقف نشاطه عند هذا، فأكبر عمليات لتوظيف المتسولين تتم من شارع القورو، فقد لفت نظري وأنا اتجول في المكان تجمع كبير لأصحاب العاهات الذين يسيرون على كراسي متحركة يتبادلون أطراف الحديث، ذلك التجمع لم يكن من باب الصدفة أو التسلية بل هي عملية انطلاق لجني الارباح، يقول احد السكان: شارع القورو هو أحد الشوارع الحيوية ففيه تتنوع أنشطة المتخلفين وتتعدد واحد أهم الأعمال التي تتم بجانب بيع القورو هو تنظيم عمليات التسول وتحريكها فهناك في احد زواياه تتجمع اعداد كبيرة من المتسولين بعاهاتهم المختلفة واعتقد ان هناك من يحركهم ويستفيد من ذلك فهو المركز الرئيسي لهم.
ليس ذلك ما يلفت النظر في شارع القورو ولكن ما هو أشد جذبا لمن لا يعرف دهاليز الكرنتينا، تجمع اعداد كبيرة من الحلاقين وهم الذين يطلق عليهم "حلاقو الشنطة" وهم مجموعة ممن يزاولون مهنة الحلاقة في العراء فاولئك لا يملكون قيمة فتح محل تجاري لمهنتهم فيقومون بحلاقة رؤوس الزبائن في شارع القورو اذ يجلس الزبون في احد الارصفة ويقوم الحلاق بعمله مما لا يكلف الزبون حلاقة كاملة للرأس اكثر من خمسة ريالات، ويجدون اقبالا كبيرا من السكان الذين أصبحت تستهويهم الحلاقة في الهواء الطلق عطفا على رخص قيمة الحلاقة، وليس ذلك فحسب فبجوارهم هناك من يقدم خدمة أخرى وهي تقليم الاظافر وتهذيبها وهي عادة عند بعض الجنسيات الافريقية التي تحرص على ذلك النوع من عمليات التنظيف، وبعض السكان يتجنبون ذلك بسبب خطورتها فهي كما قالوا بأنها عملية قد تسهل نقل الأمراض من زبون لآخر عن طريق الجروح التي تنشأ اثناء التنظيف، ولكن الذين يقبلون عليهم لا يأبهون بذلك ولا تمنعهم الأمراض من تلك العادة.

اليوربا
اليوربا هو اسم آخر لشارع القورو أطلق عليه ذلك الاسم لمنطقة في افريقيا قدم أهلها لهذا الشارع بغرض الحج واستقروا فيها، وهم أكثر سكان الكرنتينا ثراء ويعكس ذلك هنداهم ونوعية السيارات التي يملكونها وهناك من يشير إلى ان ذلك الثراء يعود إلى تورطهم في الاتجار بالمخدرات وعمليات التزوير التي تدار بشكل مستمر في الحي وأمام الجميع. يقول "احمد.ب" احد السكان: أهالي الكرنتينا يعرفون مدى الغنى الذي وصل إليه سكان اليوربا ومقارنة بباقي السكان فهم يرتدون أفضل الثياب والاحذية، ويركبون سيارات لا يملكها سكان الحي، ففي اليوربا أكبر معامل التزوير التي تدار على أيديهم ويعرفون بجرأتهم على تزوير الوثائق، اضافة إلى ذلك صفقات المخدرات التي يديرونها، حتى ان بعضهم يستعينون ببائعات القورو لبعدهن عن مواقع الشبهة.

شارع البلدية
شارع البلدية أو شارع الغسالين هو البوابة الرئيسية للكرنتينا ومقصد الكثير من الناس فهناك مقر للعمال الذين يغسلون السيارات وهو صداع مزمن للحي فعمليات الغسيل تكون بشكل عشوائي تتسبب في انتشار المستنقعات المائية التي تخلفها تلك العمالة المتخلفة، يقول عبدالله عريشي: حاولت الجهات المختصة القضاء على هذه الظاهرة الا ان اصرارهم على البقاء يدفعهم للعودة مرة أخرى، وكثيرا ما وقعت اشتباكات بين العاملين لا تفضها إلا الجهات الأمنية، وابتكروا تنظيما جديدا يكفل لهم العمل دون مشاكل حيث قاموا بتقسيم انفسهم إلى عدة مجموعات يرأس كل مجموعة واحد منهم بالاتفاق يتولى تنظيمهم وانهاء أي مشكلات تظهر اثناء العمل، اضافة إلى انه يقوم بمتابعة عمليات التنظيف في نهاية اليوم.