ذات مرة في احد الاعوام الماضية احضر الينا في المغسلة جثمان لرجل في السبعين من عمره وعندما شرعنا في غسله كانت تبدو على محياه ابتسامة مضيئة وكأنه نائم فيما انبعثت في ارجاء المغسلة رائحة زكية .. كان ذلك الرجل من اسهل الجنائز واسرعها غسلاً وتجهيزاً وعندما سألنا ابنه عن حال والده قال انه كان له ورد "صلاة" آخر الليل لا يتركها وفي الليلة التي قبض فيها قام لصلاته قبل اذان الفجر بقليل وفي الركعة الاخيرة اسلم الروح لبارئها وهو ساجد في السجدة الاخيرة". الواقعة يرويها غاسل الاموات بأحدى المغاسل الخيرية بنجران يحيى بن جابر الفيفي 44 عاماً العامل باحد القطاعات العسكرية وقد اختار هذا العمل ابتغاء المثوبة من الله تعالى بحيث لا يتقاضى عليه اجراً او أي مقابل مادي. وهي واحدة من الجنائز النادرة التي مرت على مغاسل الموتى منذ افتتاحها قبل نحو عشرة اعوام في 1419/5/18هـ استقبلت خلالها نحو 7 آلاف جنازة حيث تبدو كثير من العظات والعبر قبل ان يخترم حياتنا هادم اللذات لمن اراد ان يعتبر.
جنازة مفحط تائب
وقصة اخرى يرويها الفيفي من واقع تجربته في غسل الموتى لشاب مفحط قد أقدم على المعاصي لكن منّ الله عليه بالتوبة فذاق حلاوة الايمان والاستقامة والطاعة حملوه الى المغسلة اثر حادث وهو يدعو الى الله في احد المواقع التي يرتادها المفحطون عادة ورغم ان جثته ظلت في ثلاجة الموتى بالمستشفى أكثر من عشرين يوماً الا انه عندما احضر الى المغسلة فكأنما هو توفي خلال ساعة.
يقول الفيفي: كان غسله يسيراً ورائحته تختلف عن رائحة اصحاب الحوادث رغم انه كان ملطخاً بالدماء والجراح تملأ جسده ولكنها التوبة التي تجبّ ما قبلها.
جنازة سوداء
وعلى النقيض من هاتين الجنازتين الطاهرتين يروي الفيفي حالة اخرى لشاب مفحط ذهب هو الآخر اثر حادث تفحيط مع احد زملائه رغم ان اصابته لم تكن بليغة.
يقول عندما بدأ المغسل في غسله اخذ جسد الشاب الذي كان في العشرينات من عمره في التحول بصورة ملفتة الى اللون الأسود مما أخاف المغسّل ومن كان معه ولم يكد ينته من غسله حتى تحول وجهه الى السواد تماماً فكفّنه المغسل وسلمه كالعادة الى اهله دون ان يذكر لهم شيئاً مما شاهد من باب الكتمان والستر عليه!.
ويستطرد الفيفي في سرد هذه الواقعة العجيبة: وعندما خرج المغسل من صالة الغسيل وجد شاباً آخر في مثل سن الشاب المتوفى يبكي ويولول بين الحاضرين فاتجه نحوه ناصحاً له بأن هذا لا ينفع الميت وان الذي ينفعه هو الدعاء له فعل المغسل ذلك ظناً منه انه اخو الميت ولدهشته قال له الشاب الباكي: ليس أخي بل هو صديقي وانا لست ابكيه لذاته وانما ابكي على نفسي وعلى ما كنا نصنع سوياً حيث كنا ما ان نسمع الأذان حتى نسارع الى تغيير مسارنا لشارع ليس به مسجد وغير ذلك من الذنوب التي كنا نقترفها معاً!! ويتابع الشاب الباكي مفسرا اسباب بكائه ولوعته قائلاً: لشدة بكائي وعويلي على نفسي فيما لو كنت انا المتوفى وليس هو او كنت انا المتوفى معه ونحن على حالنا ذلك؟!
أصعب المواقف
ومن المواقف الصعبة التي مرت على الفيفي اثناء قيامه بهذا العمل الخير في غسل الموتى يذكر انه هو الذي قام بنفسه وقلبه يتفطر ألماً وحزناً بتجهيز والده يرحمه الله وكذلك قيامه بغسل مجموعة من زملائه الذين لهم مكانة خاصة في قلبه.
جثث مقطعة
وعن أكثر وأصعب انواع الجنائز التي يقومون بغسلها وتجهيزها يذكر الفيفي انها الجنائز التي تكون باسباب الحوادث المرورية واشدها الناتجة عن السرعة الجنونية والتفحيط.
يقول: احياناً تأتي الينا جنائز تكون عبارة عن اربع قطع ومنظرها يكون مؤلماً ومحزناً وفي مثل هذه الحالات نقوم بتجميع القطع ووضعها في شكل متكامل على مكان الغسل وارجاع كل عضو في مكانه فيما نحرص على تجميع اعضاء الوضوء كل في مكانه وكذا اعادة الاحشاء والمخ الذي يكون خارجاً عن الرأس الى مكانيهما ونبذل في ذلك قصارى جهدنا من باب (اتقوا الله ما استطعتم).
ومن اكثرالحالات صعوبة حالات الحريق والغرق والانتحار والامراض المستعصية بشتى انواعها فيما تبقى حالات الحوادث المرورية هي الغالبة.
جنائز بلا رأس
وأحياناً -يروي الفيفي- نستقبل جنائز ناقصة كأن تأتينا جنازة بلا رأس وفي هذه الحالة نقوم بإغلاق فتحة الرأس بالقطن ومن ثم غسل الجنازة وتكفينها.. (الأمر لايوصف لأنه في غاية الصعوبة).
غسل المحكوم بالقصاص
وعن كيفية غسل المحكومين بالقصاص يوضح الفيفي في هذا السياق انهم يقومون بوضع الرأس بجانب الجنازة لا بخياطته كما يعتقد الكثيرون ومن ثم يغسل ويصلى عليه ويدفن.
غسل المحروق
وعن كيفية غسل جنازة لمتوفى في حريق بنسبة 100% بحيث لا يمكن تحديد معالمه اوضح الفيفي انهم يقومون بغسلها بالتيمم ثم تسليمها لأصحابها.
تطييب الميت
وعن نوع الطيب الذي يطيب به الميت يذكر الفيفي انه أي طيب يحمل صفة الدهن مثل دهن العود ودهن المسك ودهن الورد ودهن العنبر وغيرها من انواع الطيب.
60 جنازة شهرياً
وعن معدلات الجنائز التي يقومون بغسلها يشير الى انها لا تقل عن (60) جنازة شهرياً وقد تتجاوز ذلك في اغلب شهور الصيف.
وعن أكبر عددقام بغسله في يوم واحد ذكر انها لأربع جنائز قام بغسلها في يوم واحد.
السرية والكتمان
يشدد الفيفي على ان اكثر ما يحرصون عليه في هذا العمل هو السرية والكتمان تطبيقاً لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ونقله الشيخ عبدالرحمن الغيث في كتابه: "الوجازة في تجهيز الجنازة" وهو المرجع المعتمد لديهم في المغاسل كذلك ألا يدخل على الميت أكثر من ثلاثة من أهله أو من المغسلين الثقات حرصاً على عدم افشاء أي أمر يخصه أو يظهر منه أثناء الغسيل.
غسل النساء والأطفال
ويشير الفيفي الى ان هناك نساء مختصات بغسيل الاموات من النساء فيما يشترك النساء والرجال في غسل الاطفال دون السابعة، فيما يغسل الجنين في الشهر الخامس أما ما دون الشهر الرابع فليس له غسل.
ضحايا الايدز
وعن حالات الامراض المستعصية مثل ضحايا الايدز والتي يخشى من انتقال العدوى للمغسلين، يؤكد الفيفي انهم يقومون بغسلها كأي جنائز عادية محتسبين الأجر عند الله و"لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".
ويبقى أن نعرف ان المغسلين يخضعون لدورات تدريبية في غسل وتجهيز الموتى احياء لهذه السنة حتى لا تندثر وان الذين يتجهون لهذا العمل لا يبحثون عن المال بقدر ما يحتسبون الاجر من الله تعالى، فيما يتم تأمين معظم الأكفان وأدوات الغسيل والتنظيف عن طريق الجمعية الخيرية وبعض المحسنين الذين يتبرعون للمغاسل بأكفان وحنوط وغيرها.