عندما قال لي عبدالعزيز، ابني الأوسط وأنا إلى جانبه في مقعد السيارة: «باسمعك يا ماما أغنية حلوة أحبها، بس ابيك تركزين عليها» (لأن عبدالعزيز يعرف اني نادراً ما أصغي جيداً إلى الأغاني) مضيت أصغي (وأنا مركزة) كما أوصاني بني، فلم أملك صد دمعة حب ترقرقت بها عيني وأنا أسمع شدو المغني يردد: «أمي يا أول حب عشته بدنياي». شعرت أني لأول مرة اتنبه لهذه الحقيقة، حقيقة أن قلب الطفل حين يخفق يحب أمه انما هو يخفق بالحب الأول في حياته، أعجبني وصف الشاعر للحب المتولد في قلب الطفل الصغير نحو أمه. فنحن غالباً عندما نتحدث عن حب الأبناء لأمهاتهم، نتحدث عن الأبناء الكبار بعد أن يكون نما ادراكهم وعرفوا أو لقنوا فضل الأمهات، فيجيء حبهم لأمهاتهم مشوباً بمشاعر أخرى كالشعور بالفضل أو الاحساس بالواجب أو الالتزام الديني، وليس حباً خالصاً متدفقاً بفيض من التعلق بالأم مجرد من أي شيء غيره، كما هو حب الأطفال الصغار لأمهاتهم.
وإذا كان الناس يكثرون من الحديث عن حب الأم لأطفالها وفرط تعلقها بهم خاصة الطفل البكر، الذي قد يحظى أكثر من بقية اخوانه بزخم من مشاعر الأمومة التي تكون في عنفوانها عند الولادة الأولى، هم نادراً ما يتحدثون عن استجابة الطرف الآخر، مشاعر الطفل نفسه تجاه أمه وهو ينعم بحبها، فقليلا إن لم يكن نادراً أن عرفت ما يصور مشاعر الحب البريء المتولد في قلب الطفل نحو الأم، فالمولود الصغير منذ أن يبدأ يتشكل الوعي عنده ويأخذ في تمييز الوجوه والأصوات من حوله، يتعلق قلبه بوجه واحد من بين وجوه كثيرة تصافح نظره، هو وجه أمه الباسم، الذي يُصافحه على مدى نهاره وليله يحيطه بالرحمة والحنو فيعرف قلب المولود الحب للمرة الأولى، حب ذلك الوجه الحاني. ويكبر الصغير ويكبر معه شعور الحب تجاه أمه، فهي من يُغلف حياته بالرعاية والعطف والتدليل والمداعبة، قد تغضب منه أحياناً، وقد تثور في وجهه بعض المرات فتظهر عدم الرضا، لكنه يدرك تماما أنها أضعف من أن تتخلى عنه أو أن تصد أو تهجر.
العلاقة بين الأم وابنها علاقة ساحرة، هي لا تعني فقط متانة عواطف الحب بين الاثنين، ولا تعني تبادل الشعور بالأمن والطمأنينة بينهما لوجود كل منهما في حياة الآخر، بل تعني أيضاً ما هو أكثر عمقاً، وهو قدرة ذلك الحب الأمومي على أن يغرس في القلب الصغير المفعم بالحب ما يشاء من الأفكار والقيم والعادات والمفاهيم، فإذا به بعد ان يبلغ مبلغ الرجال، وقد اتشح بكثير مما أرضع له على يد تلك الحبيبة الأولى.
تأثير الأم في أبنائها كبير للغاية، ولكن الأم القوية الذكية هي وحدها التي تنتفع من ذلك التأثير في تشكيل شخصيات ذكورية صالحة تكون عوامل بناء وخير للمجتمع.

فاكس 4555382