لعل من يقرأون لي لاحظوا أنني كثير الاهتمام بقضايا التربية (تنشئة ورعاية العيال) والتعليم والصحة العامة والقضايا الاجتماعية بصفة عامة.. طيب، س: ماذا عن القضايا المصيرية والملحة؟ ج: مثل ماذا؟ س: مثل قضية السلام في الشرق الأوسط! ج: لا سلام على طعام.. الشرق الأوسط عبارة عن كائن ضخم متهالك تتناهشه الذئاب والثعالب والطيور الكواسر.. وعلى كل حال إذا حصل السلام أرجو ان تعطوني خبراً فقد يوفقني الله في كتابة سطرين او ثلاثة «تهنئة».. أنا مهتم بقضايا الطفولة والمراهقة والشباب لأنني وبصراحة يائس من جيلنا، ولكن أملي عظيم في أن أجمل الأطفال قادمون ساعة فساعة، عيونهم أشد من عيوننا بريقا، وصدورهم وعقولهم أكثر اتساعا، ولكن المصيبة هي ان جيلنا الفاشل هو المسؤول عن تنشئة وإعداد الجيل الذي نعول عليه.. ومع هذا فأنا متفائل، لأنه من ما من والد يريد لعياله الفشل، بل بالعكس يحاول ان يهيئ لهم ظروفا أفضل من تلك التي تهيأت له.. ولكن المشكلة التي أشرت إليها مرارا هي أن إيقاع الحياة العصرية جعلنا جميعا في حالة عجلة وهرولة.. ومن العجيب ان جيلنا قضى طفولة ذات إيقاع هادئ وبطيء، لأن الكبار من حولنا أيضا كانوا يأخذون الأمور ببساطة.. مثلا حتى بعد ظهور السيارات كان المشوار بين مكة والمدينة يستغرق أكثر من 12 ساعة.. كنت خلال الإجازات المدرسية أسافر من الخرطوم الى أهلي في مدينة كوستي التي تقع الى الجنوب من الخرطوم بالقطار في رحلة تستغرق 16 ساعة إذا سار القطار حسب الجدول المرسوم له.. واليوم استطيع ان اقطع نفس المسافة في ثلاث ساعات، واختصار المسافات والزمن أدى الى «اختصار» الأعمار، فلا تمر سنة دون ان يموت العشرات في حوادث مرورية على الطريق السريع الذي ألغى 13 ساعة من المسافة بين المدينتين.
ثم أصابنا فيروس العجلة، ففي الحياة العملية صار من المألوف ان نجري مكالمتين هاتفيتين في وقت واحد، وأن نتكلم عبر الهاتف بينما أصابعنا مشغولة بالضغط على أزرار الكمبيوتر، وكما أن الجماعات الإرهابية تستطيع تفجير سيارة مفخخة بضغطة خفيفة على زر، فإننا صرنا قادرين على نسف كل ما لا يعجبنا على شاشة التلفزيون بضغطة زر.. ويقول طفل ما لوالده: بابا أنا....... لا يتركه بابا يكمل كلامه: أنا مشغول ومو فاضي لك الحين.. وفعلا يكون البابا مشغولا بأمر يتعلق بعمله ويود إنجازه لأنه التزم بذلك.. ينسى مثل هذا الأب الذي يشيل معه هموم العمل الى البيت، ويكون سخيا بوقته مع العمل وبخيلا به مع ولده، أنه إذا مات بعد أيام فإن جهة العمل ستأتي ببديل له خلال أسبوع، بينما ولده وبقية العائلة سيظلون يحسون بفقده طالما هم أحياء... والشاهد: بمجرد دخولك الى البيت أغلق الباب وراءك واترك العمل خلف الباب ولا تلتفت لصياحه ومناشداته، بل اقض وقتك بين عيالك كشخص يقود سيارته بالترس (الجير) واحد.. بهدوء.. بشويش.. لا صرير ولا هدير.
أخبار ذات صلة