وأخيراً نصل الى نهاية المطاف في استعادة أهم المحطات في حياة الراحل الكبير الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري، أما ذكرياته ومذكراته فتحتاج الى مئات الصفحات لاستيعابها، ولكن قبل ان نكتب الحرف الأخير في هذه المحطات لا بد ان نمر بالمحطتين الأخيرتين التي يجب تسليط الضوء عليهما وهما محطة التأليف والنشر.. ومحطة علاقته بالمفكر عبدالله القصيمي.تعتبر علاقة الشيخ التويجري بالتأليف علاقة ذات دلالة وتثير الكثير من التساؤلات، فبعد ان ناهز الستين من عمره بدأ الراحل الكبير رحلته المثيرة مع التأليف ففي عام 1979م نشر كتابه الأول وكان عن شخصيته الأحب المتنبي حيث حمل الكتاب عنوان (في اثر المتنبي بين اليمامة والدهناء) ثم توالت بعد ذلك مؤلفاته التي توزعت بين الرسائل والمشاهدات الفكرية واستعادة مواقف الماضي ويعتبر كثيرون ان كتابه «لسراة الليل.. هتف الصباح» من اهم المراجع عن تاريخ المملكة وتاريخ الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود..
برر الشيخ التويجري تأخره في النشر بخوفه من ألسنة الناس والنقاد ولكن واقع الحال يقول بأن الراحل الكبير بعد ان استوعب كل ما حوله من افكار ورسم صورة واضحة لرؤاه صب هذه الرؤى والافكار في صياغات لغوية رفيعة واستعار شعر المتنبي قناعاً يعبر من خلاله عن رؤيته الذاتية الخاصة.
أما محطة علاقاته فهي من المحطات المثيرة وبها سوف نختتم ملف الراحل الكبير فبينما كنت أنقب في ارشيف المفكر عبدالله القصيمي الغزير والغامر بالأسماء والمواقف والاحداث توقفت طويلاً عند رسالته لمعالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري فهذه الرسالة دون كل رسائله المفرطة في مشاعرها وبذل عواطفها تتوقف عند محطات بعينها وكأنها كانت هي محطات اللقاء والإعجاب التي جعلت القصيمي مفتوناً بشخصية الشيخ التويجري حيث يقول له.. في رسالة قصيرة بعث بها من محل اقامته بالقاهرة ما يلي:
(الى من وجدته كمن يجد النور بعد ان كان لا يجد الا الظلام كمن وجد الحقول والمروج والزهور بعد ان كان لا يجد الا القحط والصحارى.. كمن وجد الحب والوفاء بعد ان كان لا يجد الا البغض والجفاء والنذالة... كمن وجد الصدق والذكاء والحماس بعد ان كان لا يجد الا الكذب والبلادة والخمول والموت.. كمن كل تفاسير الانسان بعد ان كان لا يجد الا ملابس الانسان فوق جلد الانسان فوق جسم من يحسب انسانا.
اي الى من يهاب القلم ان يذكر اسمه ولكنه ملزم بذكر بأن يقول الى: عبدالعزيز التويجري.
وتستمر بعد ذلك الرسالة في تداعياتها وهنا ألحت عليّ اسئلة عدة ما هي علاقة القصيمي بالتويجري؟ واذا كانت هناك علاقة كماتدل هذه الرسالة المؤرخة في 10/5/1979 فمتى بدأت وما هي حدودها ومستوى امتدادها في مسيرة القصيمي الذي كان يعيش تلك الايام آخر ايام الاهتمام الاعلامي بالمفكر القصيمي.
جمعت شتات اسئلتي وحاولت البحث عن اجابة لها فلم اجد بداً من سماع رواية معالي الشيخ التويجري لانه الطرف الاول فيها وبالفعل سنحت لي هذه الفرصة بواسطة الاستاذ سلطان البازعي.. فكانت بداية لافق جديد في فهمي للقصيمي.. كان الموعد بعد صلاة المغرب تماما لهذا كنت حريصا على ان اكون في الموعد تماما وبالفعل وصلت الى منزل معالي الشيخ عبدالعزيز التويجري برفقة الاستاذ البازعي وكانت طوال الطريق تلوح في البال اسئلة وتساؤلات لا حصر لها ولكن منذ ان واجهت الشيخ التويجري كانت ذاكرته هي الحاضرة دائما في الاسماء وفي الشواهد وفي التواريخ.
كان ناصعا كغيمة وعميقا كحكمة مؤجلة وكان اول اسئلتي غارقا في حضرة التاريخ والجغرافيا حين قلت لمعاليه عن القصيمي متسائلا: متى عرفت القصيمي؟ كانت الرسالة قد اعطتني ضوءاً ما بأن القصيمي قد عرف معالي الشيخ التويجري فرد قائلا:
من منّا لا يعرف الشيخ عبدالله القصيمي رحمه الله فقد كان ملء العين والبصر وكتبه تتداولها الايدي بسرعة البرق من حين صدورها في القاهرة الى وصولها الى مدن وقرى نجد والحجاز..
هكذا عرفت القصيمي
هذا هو القصيمي المفكر ولكن كيف عرف معاليكم القصيمي الانسان؟
- فرد معاليه مستعيدا تاريخا طويلا مازالت تختزنه الذاكرة قائلا: للصدفة فقط ومفاجآتها عرفت القصيمي مرتين المرة الاولى مفكرا والاخرى انسانا ودعني استعيد تفاصيل المرة الاولى فحينما لما ازل في المجمعة ارسل لي استاذي الشيخ عبدالله العنقري شيخا من شيوخ سدير يريد ان يرد على القصيمي وبالذات على كتابه «هذي هي الاغلال» وكان هذا الكتاب قد احدث هزة عظيمة عند اولئك الذين افتتنوا بصاحب «الصراع بين الاسلام والوثنية» اما الشيخ فهو عبدالعزيز السويح الذي الف كتاب «الرد القويم على ملحد القصيم» وكان قد قضى فترة تأليف الكتاب في ضيافتي بناء على دعوة الشيخ العنقري.
هذي هي الاغلال
عفوا معالي الشيخ ولكن ما هو موقفك من «هذي هي الاغلال».
- الآن ام في ذلك الحين.
في ذلك الحين؟
- كنا مرتابين منه، وانا تحديدا لم اكن املك موقفا محددا منه، ولكنه كان بصراحة مزلزلا لقناعات كثيرة كانت تحيط بنا.
لماذا؟
- لاننا كنا نعيش في مجتمع مغلق، وكل جديد كان مفاجئا ومزعجا لنا، ولهذا المجتمع المغلق الذي كنا نعيش فيه.
وكيف يرى معاليكم هذا الكتاب الآن؟
- لست انا وحدي ولكن كل ابناء هذه الامة المدركين لمستقبل دينهم.. وتطلعات امتهم.. يرون أن هذا الكتاب هو رؤية حق اراد بها صاحبها ان ينتشل هذه الامة مما حاصرها من تخلف وتشرذم، كانت بشارة خير واعية ومدركة ومتدينة ايضا فالقصيمي في «هذي هي الاغلال» كان دستوره القرآن ومنهاجه السنة النبوية ولم يشطط عنهما وان كان قاسيا في مواجهة الواقع الذي يعيشه العرب والمسلمون
هكذا عرفته إنسانا
والمرة الثانية يامعالي الشيخ؟
- كانت المرة الثانية ما بين عامي 78 و79 وعن طريق الاستاذ احمد محمد النعمان الذي كان صديقا لي وصديقا للقصيمي وانبهرت منذ اول لقاء بشفافية وانسانية هذا المفكر الذي يعد من كبار وقمم مفكري العروبة والاسلام وقدرته العميقة على التحليل والاستدلال والاستشهاد.
استاذي المتنبي
بالرغم من انه هاجم استاذك المتنبي؟
- المتبني استاذي مثلما المعري استاذ لي، ولكن هل هناك من ينكر اننا ظاهرة صوتية ومازلنا نردد في كل عيد (عيد.. بأية حال عدت ياعيد).
هل هناك من ينكر ذلك، لقد وضع الشيخ القصيمي يده على الجرح وكاد لولا ان المسارات اختلفت لصاغ رؤية كاملة لحل مآزق الفكر العربي.
المراسلة والصداقة
وماذا بعد هذه المعرفة التي عبرت عبر النعمان؟
لقد استمرت لقاءاتنا ومراسلاتنا طوال الفترة التالية، والى ما قبل وفاته بثلاث سنوات، وكنت طوال هذه الفترة اقابله في القاهرة كلما ذهبت لها، كما كنت لا اترك رسالة له من دون رد فقد كان الشيخ عبدالله مفتونا بفن الرسائل ويبث فيها مشاعره وافكاره ورؤاه وكنت من ناحيتي أرى من هذا الفن فنا يجب ألا ننساه في زحمة وسائل الاتصالات الحديثة والسريعة، وما زلت احتفظ بهذه الرسائل وردودها باعتبارها وثيقة مهمة لمرحلة مهمة وأيضا عن مفكر مهم في ساحتنا الثقافية عربيا واسلاميا.
ملامح التمرد
تلوح في كتبه الأخيرة ملامح التمرد التي تصل احيانا الى حد الرفض المطلق والتي فسرها البعض بالالحاد، كيف ترى الأمر وأنت أحد المقربين منه؟
- لا أخفي سرا اذا قلت انه ليست كتبه، بل حتى رسائله تحمل بعض التجاوزات والشطوحات خاصة عندما يدخل دائرة المجاز، انه في هذا الأمر يتورط كثيرا في نسف كثير من المسلمات وكنت لا أوافقه على ذلك بل كنت أعارضه على هذه الجزئيات في رسائله، ولكن للحقيقة والتاريخ فلا اعتقد ان القصيمي كان ملحداً فقد كان ملما بالإسلام إلماما قل نظيره ولكن البعض ممن يأخذون الآراء الجاهزة ويعتبرون بعض فصول كتبه ادانة له يقولون بذلك وليتهم كانوا يعلمون بعض ما كان يعرفه ويعلمه ويعيه الشيخ القصيمي.نعم لقد شطح وتجاوز في بعض كتبه ولكن للمرة الثانية أقول لك لا اعتقد انه كان ملحدا، وأمره الى الله فهو مثلي انسان لا يملك ان يتقول على الله، وكثيرا ما كنت أقول له هذا الكلام اذا أحس انني لا أحمل الاعجاب المطلق في كل ما يقول، ثم انني لم الاحظ عليه في كل كتبه انه قال عن المملكة أية جملة مسيئة، وهو محافظ على حبه للمملكة واذكر انه اطلعني على كتاب للملك فهد رحمه الله ولخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز فوجدت الرسالة تصعد وتهبط على قوله (اغفر لي يا مولاي.. اغفر لي يا مولاي) يرددها.. وكل ما قلته ليس دفاعا عن القصيمي واحترم كل المخالفين له ولا أخطئ أحدا، لكني انسان أعرف نفسي انني لست في مستوى الرجل الذي يصدر احكامه على الآخرين وليس لدي من الفقه ما يؤهلني للوصول الى ما يقول عنه الانسان هذا حلال.. وهذا حرام.وقد كنت كثيرا ما أردد له كتابة وشفاهة انني اجد فرحة بمعرفتي ان المكان الذي تجد فيه سعادتك هو في بطحاء مكة وغار حراء، وأكدت له أكثر من مرة انني لا أصدق انك قد خرجت من المكان الذي قلت عنه انه هو الأرض والسماء في كتابك (هذي هي الأغلال) لا أصدق ابدا انك الغيت لباس الايمان الى غير رجعة، لا أصدق أبدا، لان الالحاد ضياع في ضياع لن يستقر في قلب انسان مثلك.. لكنه يؤول الأشياء عندما يقول الاله بالفاظ عاتمة الا اننا لا نجد في كتبه كلمة واحدة قال فيها عن نفسه انني ملحد بخالقي.
نهاية المطاف
وهكذا عبرنا مع الراحل الكبير كل المحطات بدءا من ولادته ويتمه في المجمعة حتى حضوره البارز في حضرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ومؤسسة الحرس الوطني ومهرجان الجنادرية مرورا بكل المحطات من معلمه الأول سليمان الكهلان الى معلمه الثاني المتنبي وعلاقته بالمثقفين والثقافة احتفاء وتأليفا وقبضا على شوارد الكلام.. الى عمله الأهم في توثيق تاريخنا المعاصر بعشق.. وافتنان.
رحم الله التويجري..
مستعيداً عمراً كاملاً من المعرفة والصداقة والمراسلة
التويجري: لا أعتقد أن القصيمي ملحد.. واحترم كل المخالفين له
1 يوليو 2007 - 20:06
|
آخر تحديث 1 يوليو 2007 - 20:06
تابع قناة عكاظ على الواتساب
هاشم الجحدلي (جدة)الحلقة الأخيرة