يتهرب كثير من السودانيين من الذهاب الى دارفور على متن الطائرات الخاصة الداخلية الصغيرة لأن المسافة عليها أقرب الى الموت منها الى الحياة خصوصا في مناطق الضغط المنخفض والترددات المغناطيسية الجبلية التي تتلاعب بطائرات السيسنا وأنتينوف الروسية وتسقطها كأوراق الأشجار في فصل الخريف.وللسودانيين أيضا مذاقهم الخاص وأسلوبهم الحميم في تخفيف مثل هذه الأجواء عن الركاب بالرغم من تواضع الخدمة المقدمة لكنها على الأقل تتماشى مع الحديث الشريف (بحسب ابن ادم لقيمات يقمن صلبه) وبالرغم من أن للسودانيين أيضا طرقهم المبتكرة فالحظ لمن يركب أولا في أفضلية المقاعد ثم الذين يلونهم.وصلت الى مطار الفاشر الذي يتكون من ساحة أرضية وصالة متواضعة بجانبها عدد من العرائش وكافتيريا لاستقبال الركاب وتوديعهم وكنت أبحث عن نهار غالب نهار الرجل الذي يمكن الوصول من خلاله إلى رجل الغابة ورئيس السلطة الانتقالية اركو مناوي لما يتمتع به من دقة في المواعيد واحترافية في ادارة أعمال رئيس السلطة بحكم مسؤوليته عن مكتبه وهو المتمرس في القتال والمتعلم في أوروبا والذي يدير أعمال رئيس السلطة عبر الستالايت والانترنت الفضائي وبعقلية تصر على النجاح وسط بيئة كل مافيها محبط ومسبب للفشل.

في دارفور كان أكثر ما يؤلم في التاريخ هي حالة الإهمال التي يشهدها متحف السلطان علي دينار سلطان الفور وصاحب شهرتهم ورمز جهادهم ضد المستعمرين فالبناء متقادم والاهتمام منعدم والأمور التي تم ترتيبها منذ عهد الرئيس السابق جعفر نميري حيث أمر بتحويل القصر الى متحف وافتتح في الحادي عشر من جمادى الآخرة من عام 1397هجرية لازالت على حالها بعد مضي أكثر من ربع قرن دون صيانة تذكر .. لكن مايلفت الأنظار في المتحف هو الكرسي المخروم الذي تعب من كثرة جلوس المعجبين بالسلطان علي دينار والديكور الداخلي الخاص لغرفة جلوسه والتي عنون بابها الخارجي بعبارة ماشاء الله ثم تلتها الشهادة ثم نقشت اسماء الخلفاء الراشدين حسب ترتيبهم على مقدمته ..أما في الداخل فقد زين السقف بأنواع من خشب الأجاص الملون خصيصا وزين مجلس السلطان الذي كان يقف على يمينه ويساره حاجبان ممسكان بالحراب بلوحتين علويتين أمامية وخلفية وضعت على جانبيها مثل الأقواس أسماء أبوبكر وعمر وحمزة والعباس والحسن والحسين وعثمان وعلي وفيما بينهما كتب الدعاء التالي (ياالله يارحمن يارحيم ياحي ياقيوم ياذاالجلال والاكرام) ثم عبارة الشهادتين ثم الآية الكريمة (نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين) وكتب على أحد جذوع السقف اسم السلطان علي دينار بن السلطان زكريا السلطان محمد الفضل أدام الله عزه.
وتكشف مقتنيات السلطان علي دينار سواء جلابيته الحمراء التي كان يلبسها للحرب وتنفيذ أوامر القصاص وخوذته العسكرية وعدة حربه أنه كان متوسط الطول ممتلئا فيما فوجئت بجمال كتابته للغة العربية من خلال أحد مكاتباته التي خطها بيده كما بقيت مسبحته وساعته واباريق طعامه وقهوته ومصحفه الخاص وطبول حربه تتصدر ساحة الدخول الى قصره ومنازل زوجاته المجاورة للقصر شاهدة على تاريخ نسمع عنه في الأخبار وتتناقله الكتب مع أنه على مرمى حجر من بلادنا.

من هو السلطان؟
والسلطان علي دينار الذي ارتبط اسمه برعاية وصيانة آبار علي في المدينة المنورة بل وهناك من قال انها سميت باسمه ولد في قرية «شوية» بدارفور عام 1272 وتوفي عام 1281هـجرية أما أبوه فهو «زكريا بن محمد فضل» وكان «الفور» الذين ينتمي إليهم «علي دينار» يقيمون جنوب غرب جبل مُرّة بعد سيطرة المهديين على دارفور، وعندما توفي السلطان «أبو الخيرات» في ظروف غامضة عام 1307 هـ كانت المهدية تسيطر على دارفور وكردفان، فطلب أمير هاتين المنطقتين من «علي دينار» المثول بين يديه في مقر رئاسته في «الأُبَيْض»، والخضوع لأمير المهدية في «الفاشر» عاصمة دارفور- «عبد القادر دليل»، إلا أن «علي دينار» كان قلقا من هذا اللقاء وآثر أن يُبدي الخضوع للمهدية دون أن يلتقي بأمرائها ، ويُقال أنه لم يشترك في معركة «كرري» الفاصلة بين المهدية والإنجليز في صفر 1310 هـ الموافق سبتمبر 1898 والتي انتهت بهزيمة المهدية، حيث خرج من «أم درمان» خلسة مع 300 من أتباعه قاصدا دارفور التي سيطر عليها في ذلك الوقت شخص يُسمى «أبو كودة» معلنا نفسه سلطانا عليها بعد انهيار المهدية، وكتب إلى «أبو كودة» شاكرا صنيعه في تخليص دارفور من المهدية، ثم طلب منه التخلي له عن العرش، فانصاع «أبو كودة» لهذا المطلب بعد تمنع ودخل السلطان علي دينار الفاشر فاتحا لها بدون قتال.

سياسة الانفتاح
حرص السلطان علي دينار على الانفتاح نحو الخارج وخلق نوع من التواصل بين دارفور والعالم الخارجي رغم حرص حكومة السودان على الوقوف له بالمرصاد في أي خطوة يقوم بها في هذا الاتجاه، فقد رفضت حكومة السودان التجاوب مع رغبة «علي دينار» في نشر كتاب عن حياته بعنوان «العمران» في القاهرة سنة 1330هـ الموافق 1912م حيث رفض الحاكم العام للسودان هذا الأمر رفضا قطعيا، ولم يوافق إلا على طباعة ست نسخ فقط من الكتاب للاستخدام الشخصي للسلطان.
وقد أظهر السلطان علي دينار براعة كبيرة ونادرة في الوعي السياسي للقادة المحليين في السودان وأفريقيا، ودرجة كبيرة من الوعي الديني والإداري، حيث استطاع إقامة سلطنته في غرب السودان، وكون لها شبكة من العلاقات الخارجية، وسعى لبناء وفق نظام داخلي جيد مقارنة بالإمكانات التي كانت متاحة له في ذلك الوقت، حيث كوّن مجلسا للشورى، وعين مفتيا. ومجلسا للوزراء، وبدأ في تكوين جيش حديث، وأوكل تدريبه إلى ضابط مصري، ووضع نظاما للضرائب يستند إلى الشريعة الإسلامية.

النهاية
جاءت نهاية السلطان علي دينار مبنية على حساباته الخاصة إبان الحرب العالمية الأولى حيث راهن على أن ألمانيا وتركيا هما المنتصران في الحرب ضد الحلفاء، وأن عليه تقديم العون لتركيا حتى يجني ثمار هذه المساعدة بعد انتهاء الحرب، وإن كان ذلك لا يمنع انطلاق «علي دينار» من عاطفة وحمية دينية لمساندة دولة الخلافة ضد أعدائها من الفرنسيين والبريطانيين الذين أطلق عليهم صفة «الكفار».
أما البريطانيون فرأوا أن «علي دينار» قام بانقلاب في السياسة الدارفورية الخارجية ولأنه كان يعاني من فقدان شعبيته فأراد أن يعوض ذلك باللجوء إلى الدين، وأيا ما كان الدافع وراء تمرد «علي دينار» على الإنجليز فقد وقعت الوحشة ثم القتال بين الجانبين، وبدأ الإنجليز بتأليب القبائل عليه لإضعاف سلطته تمهيدا لحربه، فتم تسليح قبائل «الرزيقات» وتحفيزهم ضده وتم استغلال شائعة أن السلطان «علي دينار» يجهز تعزيزات من الفور في منطقة جبل الحلة كذريعة لحربه، خاصة بعد تحسن الموقف العسكري للإنجليز في مصر ونجاحهم في القضاء على خطر السنوسية على الحدود الغربية لمصر.
وقد بدأت الحرب بين الجانبين في ربيع الآخر 1334 هـ، مارس 1916م، ووقعت عدة معارك داخل أراضي دارفور كان أهمها معركة «برنجيه» الواقعة قرب العاصمة الفاشر، وتمكن الإنجليز من تبديد جيش دارفور البالغ 3600 مقاتل بعد أربعين دقيقة من القتال، وقتل في المعركة حوالى ألف رجل من جيش دارفور، وعندما علم «علي دينار» بالهزيمة استعد للقتال مرة أخرى للدفاع عن الفاشر، لكن الجيش الذي كان تحت يديه لم يكن مدربا ولم يكن يمتلك أي أسلحة حديثة، كما أن الإنجليز استخدموا الطائرات لأول مرة في إفريقيا، وكانت هذه المرة ضد جيش «علي دينار»، وتمت لهم السيطرة على الفاشر في 22 من رجب 1334 هـ، 24 من مايو 1916م ففر السلطان بأهله وحرسه نحو جبل مُرّة، وهناك تم اغتيال «علي دينار» أثناء صلاته الصبح على يد أحد أتباعه في 11 من المحرم 1335 هـ، 6 من نوفمبر 1916م بعدما رفض الإنجليز قبول أي تفاوض معه للاستسلام وقيل إن الصورة الوحيدة الموجودة له قام بتصويرها ضابط انجليزي له وهو ميت وأرسلت الى بريطانيا لتحفظ هناك ولم يتم عرضها حتى الآن.

حفيد السلطان يوضح
الدكتور علي بحر الدين علي دينار حفيد السلطان والمقيم حاليا بالولايات المتحدة أوضح أن جده قام بتسيير المحمل الشريف خمس مرات في خلال الفترة من يناير 1899 إلى مايو 1916.
وأضاف أن ارتباط اسم علي دينار بآبار علي يمكن إرجاعه أيضاً لدوره في صيانتها وتجديدها خدمة في راحة الحجيج. فصيانة الآبار و»تكحيلها» هو تقليد قديم ومتوارث في دارفور ومناطق السودان أما «حوش على دينار» الموجود في منطقة باب شريف بجدة فهو أشبه بالخرابة، والكل يدعي أحقيته الشرعية به.

سؤال ونهاية جولة
خرجت من دارفور وأنا أشعر أنني أكثر ارتباطا بأهلها وناسها وترابها وتاريخها المشرف وتساءلت بيني وبين نفسي: أين أغنياؤنا ومتصدقونا الذين تستهويهم طوابير المتسولين في رمضان ويتعففون عن طرق أبواب هذه الأرض الإسلامية البكر التي لايوجد بين أهلها شخص إلا وفي قلبه شيء من كتاب الله وتركت الإجابة لهم لعلي أبرأ بما نشرت أمام الله ولازال لحديثي بقية بعد أن أستوضح روايات النصب والاحتيال ووضع اليد من قبل أحد الذين استخرجوا صكا للأرض التي تعد جزءا من أملاك السلطان في جدة بدعوى أنها ملك له وبها حوش مسمى باسمه في منطقة باب شريف وتسكنه عدد من الأسر الدارفورية الفقيرة ولعل فيها فصلا جديدا من الإثارة في رحلة البحث عن الحقيقة.