جدة حوالي العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وعلى مشارف القرن العشرين، تدور أحداث المسلسل الدرامي (حارة الشيخ)، الذي عُرض في شهر رمضان. مسلسل أثار الكثير من الجدل، لحداثة فكرته، إن لم نقل جرأتها. البعض ساءتهم بعض السلوكيات، مثل واقعة أنه كان بجدة حانة يملكها خواجة! نسي هؤلاء أن المسلسل معالجة «درامية»، متوقع فيها شيء من «الفانتازيا»، وإن كانت ليست بعيدة عن تصوير واقع الحياة في المدينة، في تلك الحقبة من تاريخها، البعيد القريب. لقد انساق البعض، في اعتراضه على المسلسل، لدرجة صدور بعض الدعوات لوقف عرضه!
المسلسل يتعرض لفكرة الصراع بين الخير والشر، التي هي قصة تاريخ الإنسان على هذه الأرض. إن كانت تختلف حركة الصراع نفسها وحدتها باختلاف الحقب التاريخية المتعاقبة، وكذا النظرة للقيم الإنسانية التي تدفع السلوك البشري لاختيار أي النجدين. مشكلة جدة، في تلك الفترة، كانت -في حقيقة الأمر- سياسية وأمنية، تصور لحياة ما قبل ظهور الدولة القومية الحديثة. لقد كانت السلطة، في ذلك الوقت، بدائية في حركتها وقيمها، تتقاسمها قوى تتصارع على مواردها المحدودة، في غياب احتكار صارم لسلطة مركزية فاعلة تتمتع بإرادة ماضية لإنفاذ قانونها.
كان (المِشْكِّل) أو فتوة الحارة، هو عماد «الأمن الداخلي» في الحارة القديمة، حيث كان يتمتع بسلطة شبه ذاتية، تتكامل مع «سلطة» العمدة الرمزية «الناعمة»، التي تعتمد على المساعي الحميدة، والتوسط بين الخصوم، وتقريب وجهات النظر.. وكذا سلطة «الدولة»، الممثلة في الوالي العثماني الذي يتمترس في القلعة، يهتم بأولويات ممارسة «السيادة» وجمع الضرائب، وإرسالها للباب العالي في الآستانة. كان المِشْكِّل، في أداء مهامه، يعتمد على «صبيانه» مقابل جُعْل يتقاضاه من السكان. معادلة سياسية أمنية لا خيار لمن هم موضوعها إلا القبول بها، لإدارة حركة الصراع على البقاء في مجتمعهم، بأقل تكلفة محتملة.
كما هو معروف في علم السياسة، أن أي سلطة بعيدة عن المحاسبة والمساءلة هي أقرب منها للفساد وسوء استغلالها. إلا أن هذا لا يعني، أن مثل هذا المجتمع البدائي الذي تتشتت فيه موارد السلطة بين رموز ومؤسسات يغلب بينها الصراع، لدرجة الفوضى، خالٍ من آليات عملية لتوازن القوى في ما بينها. المِشْكِّل في حقيقة الأمر، لم يمارس سلطة مطلقة في فراغ من آليات الردع المضاد، وإن حرص أن يظهر أنه الحاكم بأمره في الحارة.
هناك الهاجس الذي يتحكم في ضمير المِشْكِّل وعقله، بأن السلطة لن تدوم له، وإلا كانت دامت لمن قبله. ثم أنه مُطالب بأن يدعم «شرعيته»، ليس فقط بإرهاب أهل الحارة، بل بقناعاتهم بكفاءته في تفعيل الحد الأدنى من الأمن المتوقع منه. كذلك هناك محدودية لسلطته التي يجتهد في إظهارها كونها مطلقة، وهي ليست كذلك، من رموز في داخل الحارة لا يمكن إغفال تأثيرهم على سلوكه والحد من تجاوزاته، مثل العمدة وعلماء الدين وكبار رجال الحارة، وكذا تحسبه لمنافسة غيره من مِشْكِّلي الحارات الأخرى... كما لا ننسى ذلك النوع المندفع من الشباب، الذي لا يتردد في إظهار معارضته، وأحيانا تمرده مما يراه من تجاوزات المِشْكِّل. وأخشى ما يخشاه المِشْكِّل، حرصاً على استمرار سلطته، الوجود الدائم لمشكل «موازٍ»، إما يكون مِشْكِّلاً سابقاً.. أو يكون مِشْكِّلاً محتملاً لم تتطور لديه بعد، طموحات الفتوة، أو أنه زاهدٌ فيها.. وكذا خوف المِشْكِّل الدائم من ظهور متحدٍ له من داخل زمرته، قد يأتي الوقت لنزاله ضده، طال الوقت أم قصر، فالفتوة في تلك المجتمعات لا تورث، كالعمودية، مثلاً.
صور «درامية» نجح كاتب القصة والسيناريو في إظهارها، بصورة جيدة، جعلت المشاهد يتعاطف مع أبطال المسلسل، رغماً عن تعارض أدوارهم.. واختلاف سلوكياتهم.. وتضاد نظام القيم الذي يمثلونه. لقد أبدع الممثل الكبير محمد بخش، في أداء دور المِشْكِل وجسد الشخصية بمهنية عالية.. وكذا تفوق على نفسه الممثل الكبير خالد الحربي، في دور الشيخ سالم، حيث نجح نجاحاً باهراً في إظهار الصراع الوجداني في داخله بين أخيه، الذي صار أحد صبية المِشْكِّل، وبين ربيبه الذي أثمرت فيه تربيته له، وهو مجهول النسب وليس من عصبه.. كما جسد صراعا من نوع آخر بين علمه الديني وورعه، وواقع مجتمعه. إن كانت شخصية المِشْكِّل درويش جعلها كاتب المسلسل مفتوحة، إلا أن شخصية الشيخ سالم من الضخامة والإبهار، يصعب التعامل معها بتقنية «الفلاش باك»، إذا ما كانت هناك مواسم قادمة من المسلسل.
العمل ضخم وضُخت فيه الكثير من الموارد، إلا أنه كأي عمل رائد لا يخلو من بعض الملاحظات. إن كان العمل، أظهر اللغة الجداوية الحجازية، في عمل كبير مثل هذا، حتى أصبحت الآذان تعتادها وتتشنفها، بل وتتذوقها، لدرجة إقبال شركات الإعلان عليها، إلا أن الحوار يحتاج إلى مراجعة بعض التعبيرات والألفاظ والكلمات، التي ليست من لغة أهل جدة الأصلية. كذا يؤخذ على العمل أنه أشار لبعض حواري جدة بأسماء غير مسمياتها!؟ فإن كان مقبولا، أن يُسمى المسلسل بحارة الشيخ، إلا أنه كان الأولى أن يُشار لحارة اليمن، بدلاً من حارة الجنوب، مثلاً، أسوة بالإشارة لحارة البحر. كما أن العمل أهمل أهم معالم جدة (البحر). كان متوقعاً أن يُهتم بعمل «بلاتوه» خاص بحياة البحر في جدة، من صيد السمك، ومعالجته وبيعه، مروراً بصناعة السفن، إلى صناعة خدمية «لوجستية» يوفرها المرشدون البحريون من أهل جدة لتسهيل دخول السفن الميناء (البُنْط).. أو توفير خدمة نقل بحرية مساندة لنقل الركاب والبضائع، للميناء، والسفن راسية في عرض البحر.
مسلسل حارة الشيخ تجسيد درامي لحياة المجتمعات في صراعها من أجل البقاء، بأقل تكلفة محتملة، في غياب سلطة الدولة وقوة القانون. إنها جدة، في زمن الشدة.